آخر الأخبار

أحلام فترة النقاهة الحلم : محاولة للتفسير (3)

 





 

صبحى شحاتة

 

هذا سطح سفينة يتوسطه عامود مقيد به رجل يلتف حوله حبل من أعلي صدره حتي أسفل ساقيه وهو يحرك رأسه بعنف يمنة ويسرة ويهتف من أعماقه الجريحة:

 

- متي ينتهي هذا العذاب؟

 

وكان ثلاثتنا ينظرون إليه بإشفاق ويتبادلون النظر في ذهول.

 

وتسائل صوت:

- من فعل بك ذلك؟

فأجاب الرجل المعذب ورأسه لا يكف عن الحركة:

- أنا الفاعل.

- لماذا؟

- هو العقاب الذي استحقه.

- عن أي ذنب؟

فصاح بغضب:

- الجهل.

فقلت له:

- عهدنا بك ذو حلم وخبرة.

- جهلنا أن الغضب استعداد في كل فرد.

 

وارتفع صوته وهو يقول:

 

- وجهلت أن أي إنسان لا يمكن أن يخلو من كرامة مهما يهن شأنه.

وغلبنا الحزن والصمت.

 

*

 

التفسير.

 

أنه نجيب محفوظ واحد من جيل الحيرة، تصطرع فيه المتناقضات: اليقين واللايقين، المطلق والنسبي، الماضي والحاضر، والعام والخاص والفرد والمجتمع الخ.. الزم نفسه بوطنه/ السفينة، وربط نفسه بنفسه بكل الروابط علي عامودها الأساسي، في المركز منها، في وحدة مصير مشترك، يغرقان معا أو ينجوان معا، ورأسه لا تفتأ تتلفت يمنة ويسرة تبحث عن الاتجاه.. فلا يجد إلا الوعي بالجهل.. والانسياق وراء الغضب.. والسقوط في الندم.. والتمزق بالحيرة.. والبحث عن الخلاص بمعاقبة النفس، وذلك بحثا عن الكرامة، التي هي غاية الإنسان وجوهره..

 

إن العذاب هو منظومتنا في التقييم، وفهم أنفسنا ومجتمعنا والعالم، والقار في أعماق لا وعينا، والذي يفضي دوما إلي الشكوي والأنين والتلفت بحثا عن الطريق والخلاص.. فلا أرض ثابتة نقف عليها، أننا علي سطح سفينة تتقاذفها الأمواج، في ليل بلا نهاية، وليس ثمة شاطيء يلوح، وليس أمام المعذب إلا الحلم والخبرة، لكنه لا يجد جدوي منهما، مما يعرّض شعوره بالكرامة للتهديد، بل للسحق، فكل معاناته بلا جدوي، وليس ثمة فائدة ترجي، فهو علي ماء وبلا اتجاه وليس ثمة عزيمة وإرادة خلق اتجاه ما، نجازف للسير فيه.. فكل ما نملكه ليس إلا احتمالات ورهانات لا يقينية، فأية كرامة لشخص كهذا وفي وجود كهذا..

 

هكذا يغلب الحزن والصمت..

 

حزن نبيل أم سعادة تافهة، هكذا تسائل دوستوفسكي يوما ، وقال نيتشة أن ثمة تحولات ثلاث للإنسان، تبدأ بصورة الجمل حامل الهموم الصبور، وتمر بصورة الأسد الذي يتخلص من الجمل فيه، وينفض عنه الأعباء كلها بواسطة النقد والتساؤل والهدم، ثم يؤول التحول الثالث بالإنسان إلي مرحلة الطفل، حيث البراءة مع النفس والعالم وعلاقة الإبداع الدائم والفرح بالوجود.

 

أن مقدار فرحك بالعالم يعادل مقدار تألمك به وفيه، ذلك أن الألم يرفع الوعي برأي دوستويفسكي، والمعرفة يقظة وانتباه وقدرة، وما السعادة إلا نافل من نوافل تحقيق الذات براي نيتشة، إن هدف الحياة تحقيق أقصي إمكانياتها، والكرامة في خلق الجدوي والطريق والهدف وليس في البحث الحائر فقط عنهم..

 

نحن امام حلم كبير فلسفي بالغ العمق، حلم موجه ليس إلي روحنا الكبيرة نجيب محفوظ فحسب، وإنما إلينا، وإلي البشر جميعا أيضا.

يقول كارل يونغ عن الإنسان البدائي في علاقته بأحلامه خصوصا الكبير منها، أنه يعرضه علي قبيلته كلها، يتدارسونه ويعرفون رسالته.

 

إن الحلم الكبير يعرض لنا تشكيلا جديدا لعلاقتنا بالعالم، مبهرا مدهشا، يأخذ بجماع نفوسنا ويدفعنا لليقظة والانتباه، وهذه مهمة الفكر عموما، و جوهر الإبداع، أنه يحقق صدمة الانتباه والإفاقة علي الحقيقة.

 

إن المعذب في الحلم لا يهمه التكفير عن ذنب ارتكبه بالجهل ولا يهمه حقيقة الجهل بنفسه وواقعه والعالم، فهو يتحمل هذا العذاب، لكنه يريد لهذا العذاب معني وجدوي فهذه الكرامة عينها..

 

ثمة أزمة يشير لها الحلم متعلقة بثقافتنا وبالمثقف ودوره الرسولي النبوي في علاقته بالجماهير بوصفها حشد من الجهلة عليه تربيتهم والارتقاء بهم وتحمل كل العذاب في سبيل هذا الدور، والذي في الحقيقة هو دور غريزي أيضا وموروث، ذلك أن صوره تتري علينا عبر الزمن من خلال الأساطير والأديان منها صورة الفادي، والبطل المحرر، ترسخت في لا وعينا الجمعي والخاص وصارت تشكل رمزا من رموز لا وعينا، نقيس عليه حالاتنا الواقعية الآنية، وما البطل والرسول إلا صور من الجدوي والمعني وما الاخرين إلا الكرامة.

 

أنه محفوظ الكاتب الذي عاش زمنا وسياقا ثقافيا اختلطت فيه بصورة الكاتب، صور برومثيوس البطل نصف الإله محرر الإنسان من الجهل والظلام، وذلك بسرقة النار/ المعرفة، من الألهة، واعطائها للبشر. فغضبت عليه الألهة وعاقبته بالصلب علي صخرة أعلي جبال القوقاز، وكل صباح يأتي نسر شرس رهيب يأكل كبده، وفي الليل يتجدد الكبد، حتي يعاود النسر المعاقب أكله في الصباح، هكذا حتي انقذه هرقل وحرره، فصار برومثيوس طليقا أخيرا..

 

وكذلك صورة الكاتب النبي حامل الرسالة، المسيح فادي البشر، يتعذب وحده علي صليب وحدته وعذلته ومعرفته من أجلهم.

 

وسؤال العذاب الذي لا ينتهي كما جاء في الحلم، هو السؤال الأساسي للنخبة المصرية الحداثية حتي الآن، حاملة الهم العام، والذنب العام، والوعي الشقي، المنصب علي تحرير الشعب، والغافل عن الذات الفردية وكرامتها في آن.

 


أحلام فترة النقاهة الحلم : محاولة تفسير (2)

إرسال تعليق

0 تعليقات