آخر الأخبار

بوابات الأموال القذرة!! (43) نيران صديقة!!

 




 

نصر القفاص

 

رسالة "عبد الناصر" إلى الزعيم السوفيتى "خروشوف" كاشفة لشجاعته وقوة المنطق الذى يفكر به.. كان ذلك واضحا من رؤية "نهرو" له حين قال عنه: "إن ما أحبه فى عبد الناصر أنه يتعلم دائما.. وإنه يتميز بصدق مطلق.. نهمه للمعرفة لا يتوقف.. شجاعته حاضرة.. كل هذا جعله يتفرد بأنه رجل عقل وفكر وفعل.. وهى الصفات التى جعلت منه قائدا وزعيما".. وتكتمل الصورة التى كانت – ومازالت – الدنيا تراه فيها, حين نرى الكاتب البريطانى "توم ليتل" يقول عنه: "قوة منطق ناصر يستمدها من قوة منطق التاريخ".. لكن "خدم الملكية والاستعمار" ومعهم "جامعى أعقاب السجائر" لهم رأى آخر!! وهؤلاء يمكنهم أن يفهموا – إذا أرادوا – ويمكن أن يتعلموا – إذا حاولوا – حين يطالعون رؤية "جيفارا" القائل: "أى إنسان يمكن أن يصبح سياسيا.. جيدا أو رديئا.. لكنه إذا افتقد الشجاعة, سيتحول إلى انتهازى تشغله دائما حسابات المكسب والخسارة"!!

 

نعود إلى الرسالة التى جاء فيها: "كان من حقنا يا سيادة الرئيس, أن نتساءل والشواهد أو مظاهرها تشير إلى أن الاتجاه الجديد إلى الوحدة لا يلائم ميولكم ورغباتكم.. وكان مما يشير إلى هذا تلك الأقوال والملاحظات والعبارات التى صدرت عن أفراد سفارتكم فى دمشق.. ولعلكم تذكرون أننى فى هذه الفترة بعثت إليكم بنماذج مما جاءنا نقلا عن هؤلا من سفارتكم.. ولعلكم تذكرون أننى سألتكم عما إذا كان ذلك يعبر عن رأى الحكومة السوفيتية.. وكان الرد الذى تلقيته بالنفى.. وكان مما يشير إلى اتجاهكم من الوحدة, موقف الحزب الشيوعى السورى الذى عز عليه أن يتقبل الإجماع الشامل للشعب السورى.. وكان النائب الشيوعى – يقصد خالد بكداش – هو النائب الوحيد الذى فضل أن يهرب من البلاد كلها كى لا يرى الشعب يحقق بنفسه ما يريد.. وقد تأكد لنا أن تصرفات هذا النائب الشيوعى, تشير إلى اتجاهكم عندما وجدناه يلجأ إلى بعض بلدان الكتلة الاشتراكية.. ثم زاد على ذلك أخيرا أن وقف بجواركم فى احتفال المؤتمر الواحد والعشرين للحزب الشيوعى, وراح يتهجم على حكومة بلاده.. الأمر الذى سبب لنا مزيدا من القلق والانزعاج, ومبعث هذا القلق والانزعاج ليس فيما يمكن أن يحدثه كلام هذا الهارب!! فإن نتيجة الاستفتاء على الوحدة فى سوريا, كانت بمثابة تصفية نهائية لكل ما يدعيه.. إنما مبعث القلق والانزعاج أن تنتهك مبادئ التعايش السلمى بهذا الشكل العلنى, وأن يضار شعور إجماع الشعب من أجل فرد ثبت أنه لا يمثل للأمة شيئا.. كذلك كان مما يشير إلى اتجاهكم, أن الاتحاد السوفيتى بعد إعلان الوحدة فى أول فبراير من القاهرة, ظل أكثر من اسبوعين حريصا على الامتناع عن إبداء رأيه فيها سواء عن طريق رجاله الرسميين.. أو عن طريق إذاعته وصحافته التى تنطق دائما بوجهة النظر الرسمية.. وعلى أى حال فقد كان لحكم الطبيعة, وحكم التاريخ, وحكم المستقبل.. أن يأخذ مجراه فتحققت الوحدة.. وبدأت أتطلع إلى فرصة نجتمع فيها, ونتبادل وجهات النظر ونتعرف معا على مشاكل كل منا ونظرته للأمور.. لذلك كانت سعادتى غامرة أن أتيحت لى فرصة زيارة بلدكم العظيم فى شهر أبريل عام 1958, وكانت أول زيارة لى خارج بلادى بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة.. والعجيب أننى عدت وفى تصورى أن جزءا كبيرا من الفهم قد تحقق.. لكننى وجدت أن الصواب لم يكن معى فيما تصورت".

 

تلك المواجهة بهذه الصراحة, تؤكد على أن "عبد الناصر" لم يكن يقبل توجيها من أحد.. بما فى ذلك القوة العظمى الصديقة.. وكان لا يتردد فى تذكير الزعيم السوفيتى, بأنه أنكر حقيقة واضحة تتمثل فى تبنيه لأعداء الوحدة.. بل ذهب فى شجاعته إلى رفض ذكر اسم من تبناه "خروشوف" ثم وصفه بأنه النائب الهارب!! وبعدها يشير إلى أن هذا الفرد لا يمثل الأمة فى شىء.. ويؤكد على ما يقوله بتذكير الزعيم السوفيتى, بأن بلاده امتنعت عن إعلان رأيها وموقفها لأسبوعين.. وتتصاعد لهجة رفضه الدبلوماسية, ليقول أن كل هذا لا يهمه.. لأن حكم الطبيعة والتاريخ قد صدر.. ليذكر بعدها تأنيبا مهذبا بإشارته إلى خطأ اعتقاده بأن شرح رؤيته خلال زيارة قام بها إلى موسكو بعد ذلك!! وراح يستعرض مناقشات أخرى فيما يتعلق بما حدث فى العراق بعد ذلك.. وشرح أنه أطلع الزعيم السوفيتى على أنه يرى شيئا ما سيحدث فى العراق, ويقصد ثورة عبد الكريم قاسم وكيف أنه تعامل مع ذلك بخفة وعدم تصديق.. حتى وقعت الثورة والتى أعلنت مصر تأييدها, رغم رفض الاتحاد السوفيتى لها!!

 

 

ويصل فى رسالته إلى تأكيد إيمانه بالقومية العربية, ومعنى فهمه لها.. فأضاف قائلا: "كنت أتصور أن المرات التى أتيح لى فيها أن أحدثكم عن القومية العربية, إستطاعت أن تضع أماكم صورة لحقيقة إيماننا بها.. ومن عجب أن نسمع من دوائر مختلفة هجوما على القومية العربية كأساس.. ومن الناحية العلمية إذا جاز لى أن أنتهز فرصة هذا الخطاب, لمناقشة علمية.. فما هى عناصر القومية؟! فى رأيى أنها باختصار.. عقل مشترك وضمير مشترك.. فأما عقل الأمة فهو اللغة.. وأما ضميرها فهو التاريخ.. وفى حالة القومية العربية, فإنكم تجدون أن شعوب المنطقة.. فضلا عن اعتبارات شتى مادية وروحية, تشترك فى أكبر ما يمهد للقومية الواحدة.. العقل الواحد والضمير الواحد.. كذلك فإننى أثق أنك تذكر.. وقد قلت لك.. وكررت ما قلته فى عديد من الخطب التى ألقيتها فى مناسبات مختلفة, وهى أن القومية العربية فى رأيى هى تضامن.. وليست إطار دستورى.. لأن التضامن هو الأساس الأول.. وإنى لأشعر أن سجل استعدادنا للتضامن مع ثورة العراق, هو مما يحق لنا أن نفخر به.. وبعد أن نجحت ثورة العراق, وبذلنا كل ما بذلناه لتأمينها.. ولم يتغير رأينا"!

 

ثم يستعرض تفاصيل حول ملابسات قيام ثورة العراق, ليصل إلى إضافة مهمة قال فيها: "من سوء الحظ يا سيادة الرئيس أن الحزب الشيوعى فى العراق, الذى عاد أفراده من المخابىء التى هربوا إليها فى حكم نورى السعيد.. أراد انتهاز الفرصة للسيطرة على ثورة العراق, ودفعها إلى الوجهة التى تناسب ميوله فاستغل خلافا شخصيا بين اللواء عبد الكريم قاسم وبين نائبه العقيد عبد السلام عارف.. وخلقوا جو من البلبلة لتحقيق أغراضهم.. وبدأ الحزب الشيوعى العراقى يثير الفتنة ويسىء للعلاقات بين جمهورية العراق والجمهورية العربية المتحدة.. وكان ذلك بإثارة مناقشة مفتعلة عن المفاضلة بين الوحدة والاتحاد, ما لبثت أن تطورت إلى هجوم سافر ضد فكرة الوحدة.. الأمر الذى أظهر أن الهدف هو التأثير على الأوضاع فى سوريا, وتجلى ذلك بوضوح خلال التعاون الوثيق بين الحزب الشيوعى العراقى والحزب الشيوعى السورى.. ثم اتخذ هذا التعاون شكل نشاط سافر فى الإقليم السورى وجمهورية العراق.. وبدأت تحركات مريبة فى الإقليم السورى, تستهدف تعكير صفو الاستقرار.. واتخذ ذلك فى بعض الأحيان أشكالا لا يسهل تصديقها, مثل هجوم الحزب الشيوعى السورى على قانون الإصلاح الزراعى.. وهو القانون الذى كان هدفه إتاحة فرصة ملكية الأرض لأكبر عدد من الفلاحين فى سوريا.. وكان هدفه تحطيم الإقطاع.. ومن ذلك أيضا نشاط الحزب ضد الوحدة, وهو نشاط كان واضحا أنه ليس موجها ضد الاستعمار.. ولعلك توافقنى يا سيادة الرئيس على أن قيام الجمهورية العربية المتحدة, كان تتويجا للكفاح ضد الاستعمار.. وكان الحصن الذى تلتمس لديه كل حركات التحرير فى الوطن العربى, ووصل الأمر بالحزب الشيوعى السورى حد أن رئيسه.. بدأ يدلى بتصريحات علنية نشرتها صحف تنطق بلسان الاستعمار كما تعلمون.. بل روجت لها إذاعات الدول الاشتراكية"

شرح "عبد الناصر" فهمه القائم على العلم لمسألة القومية العربية.. أكد على أنه يركز اهتمامه على التضامن العربى عبر جمع كلمة أبناء تلك القومية.. وأوضح أن مقومات هذه القومية واضحة, وتتمثل فى "عقل وضمير واحد"وفى ضوء ذلك ساعد ثورة العراق التى كانت ثورة ضد الشيوعيين.. ولم يتحرج أو يخشى من اعتبار الشيوعيين فى العالم العربى, كما الفئران يسكنون الجحور!! بل ذهب إلى فضح استعدادهم للتعاون مع الاستعمار, فضلا عن انحيازهم للإقطاع ضد الفلاحين الذين استفادوا من قانون الإصلاح الزراعى!! وفضح دورهم وجهدهم لهدم الوحدة بين مصر وسوريا, ليحققوا للاستعمار أهدافه وأمانيه.. وفى كل ذلك كان ينشط ذاكرة زعيم الاتحاد السوفيتى, بتذكيره أنه تناول كل ذلك معه خلال محادثاته معه.. كل هذا ينفى نفيا قاطعا أن "عبد الناصر" كان ديكتاتورا.. لأن الديكتاتور يخاف الأقوى منه, ويعجز عن مواجهته.. والديكتاتور يستخدم قوته وشجاعته الزائفة ضد شعبه فقط!! فلم نسمع عن ديكتاتور امتلك القدرة والقوة على مواجهة القوى العظمى بالعلم والمنطق, وبشجاعة كانت – ومازالت – تمثل أهم سمات شخصيته ونظام حكمه.. ولم نسمع عن ديكتاتور يقول أننى كنت مخطئا فى تصوراتى, كما ورد فى الرسالة نفسها.. ثم ركز على أن هدف الشيوعيين إلتقى ورغبة موسكو وإرادة واشنطن!!

 

كان يمكن أن يكتفى بهذا القدر.. لكنه شاء مزيدا من التوضيح, لتأكيد القدرة على المواجهة فأضاف قائلا: "لعلك تذكر يا سيادة الرئيس أننى أشرت فى حديثى معك, إلى نشاط الأحزاب الشيوعية فى الجمهورية العربية المتحدة.. وهو نشاط كنا نعتبر أنه يخرج عن الخط الوطنى فى بعض الأحيان بحيث لا يخدم إلا مصالح أعداء وطننا.. وكنت أخشى أيضا تفسير أى إجراء تتخذه ضد هذه الأحزاب, على أنه موجه ضد الاتحاد السوفيتى.. لذلك رأيت رعاية لمشاعركم واحتراما لها, أن أثير الموضوع معكم فى موسكو.. وقلت لكم.. أرجو ألا يفسر أى إجراء نتخذه ضد الأحزاب الشيوعية فى بلادنا بأنه عمل عدائى ضد الاتحاد السوفيتى.. وقلت لك.. إن كثيرين منهم ينتمون فى الواقع إلى أسر إقطاعية ورأسمالية, وأنه لا يكفى أن يضع أى واحد منهم لافتة فوق رأسه بأنه شيوعى.. ومن ثم يصير شيوعيا.. وأضفت أن لدينا فى الإقليم المصرى مثلا ثلاثة أحزاب شيوعية أو هكذا تدعى.. وكل منها فى منشوراته يتهم الآخر بالمروق والانحراف, ويصل الأمر إلى تبادل الاتهامات بينهم إلى حد الخيانة.. وأذكر أنك نظرت لى وهززت رأسك, فاعتبرت أننى أخطرتك بحقيقة موقفى.. وقد أدهشنى أنك قلت لى, أنهم لو كانوا يتلقون التعليمات من الخارج.. لكانت نصيحتهم بأن يوحدوا جبهتهم.. ومن عجب أنه ما كاد النشاط الشيوعى يشتد, حتى توحدت الأحزاب الثلاثة وتناست ما بينها"!!

 

رحل "عبد الناصر" وترك وثائق كفيلة بنسف كل الاتهامات التى يروجها "خدم الملكية والاستعمار" ومعهم "جامعى أعقاب السجائر"!! لكن قانون صدر يحظر رفع السرية عن هذه الوثائق لمدة خمسين عاما, قبل عامين من رحيل السادات.. لكنه ترك رجالا وفكرا يملك أدوات وأسلحة الدفاع عن زمن ينحنى له التاريخ احتراما وتقديرا.. وفى رسالته أوضح للزعيم السوفيتى أنه ناقش الأمر معه, وقال له أنه سيتخذ ضد الشيوعيين إجراءات يتمنى ألا يعتبرها ضد الاتحاد السوفيتى.. ثم يواجهه بأن نصيحة صدرت للأحزاب الشيوعية المصرية الثلاث بأن يتوحدوا, بإشارة إلى أن "خروشوف" شخصيا كان وراء النصيحة!! والأهم أنه قال "لا يكفى أن يضع أى واحد لافتة فوق رأسه بأنه شيوعى ليصير شيوعيا" ولسان الحال ينطق بأنه ليس كل من يضع لافتة "ناصرى" فوق رأسه.. هو ناصرى.. خاصة أن المستور انكشف بتواطو البعض منهم مع الإخوان بعد ثورة يناير.. ومازالت فى الرسالة تفاصيل أخرى..

 

بوابات الأموال القذرة!! (42) الشجاعة والشرف

 يتبع

 

إرسال تعليق

0 تعليقات