نصر القفاص
المؤسف أن الغرب الاستعماري وصنيعته إسرائيل هم الأكثر فهما لثورة
23 يوليو 1952.. وهم الأكثر تقديرا لخطورة منهج "عبد الناصر" عليهم..
لذلك اتفقوا على أن تكون مصر فى حالة مرض دائم.. واتفقوا فى الحرص أن تبقى حية..
شرط ألا تتعافى وتستعيد صحتها وقوتها!! تعجل الاستعمار مع إسرائيل فى قياس قدرات
"مصر الثورة" فكانت غارة إسرائيل – دون أى مبرر – على "غزة"
فى فبراير عام 1955.. وصلهم الرد بإعلان تسليح الجيش المصرى, بصفقة مع
"الاتحاد السوفيتى" ووساطة من جانب "الصين" والتى عرفت
"بالأسلحة التشيكية"!! أقدموا على خطوة التراجع عن تمويل مشروع
"السد العالى".. فكان الرد "الزلزال" بإعلان تأميم شركة قناة
السويس.. إختاروا الرد المضاد فى الاتجاه, بإعلان الحرب على مصر – العدوان الثلاثى
– عام 1956 الذى انتهى بهزيمة مدوية لأقوى امبراطوريتين مع إسرائيل.. وغير ذلك
خلاف فى التفاصيل وعليها!! لكن ما يلزم التنويه إليه.. وواجب فى الوقت نفسه.. هو
أن إسرائيل احتلت سيناء خلال هذه الحرب, ثم انسحبت منها كاملة بشروط مصر ودون
توقيع أى اتفاقيات معها!! هنا ظهرت نظرية "ملء الفراغ" التى اعتمدها
الرئيس الأمريكى "إيزنهاور" وصادفها فشل ذريع, وانهار "حلف
بغداد" بسقوط نظام "نورى السعيد" فى العراق يوم 14 يوليو 1958..
فوجىء بعدها الصديق السوفيتى لمصر, بعداء لا يقبل شكا من جانب "عبد
الناصر" للشيوعية لأسباب موضوعية.. حاول السوفيت ترويض هذا الأسد بمؤامرات
سرية فى الكواليس.. واجههم على المسرح الدولى بجسارة ودون تردد.. أصبح عليه مواجهة
الغرب وإسرائيل, ومعهم "خدم الاستعمار والملكية" فى الداخل.. كذلك الذين
أسماهم "عبد الناصر" العملاء الذين كانت تحركهم "موسكو"..
كلهم اعتقدوا فى قدرتهم على هدم هذه التجربة, والقضاء على ذلك المنهج.. فشلوا حتى
رحل "عبد الناصر" الذى كتب رسالته التاريخية للزعيم السوفيتى
"خروشوف" ليصارحه – قل يواجهه – بأنه يدرك حقائق التاريخ والجغرافيا..
ويفهم عمق الصراع الفكرى والدينى والاقتصادى.. ثم يؤكد على تمسكه "بمنهج
مصر" الذى يحفظ استقلالها وقيمتها وشموخها بين الأمم.
شرح "عبد الناصر" أكثر فى رسالته, وقال: "ماذكرته
وأوضحته فرض على فى يوم الاحتفال بالجلاء عن بورسعيد يوم 23 ديسمبر – تم دفن هذه
الذكرى الخالدة – أن أشير إلى النشاط المعادى للوطن الذى تقوم به المنظمات
الشيوعية أو التى تدعى أنها شيوعية.. قصرت كلامى على هذه المنظمات فى حدود
الجمهورية العربية المتحدة, ولم تستغرق إشارتى أكثر من عشر سطور, ولقد قصدتها أن
تكون تحذيرا واضحا بأننى لست على استعداد أن أسمح بأى نشاط لا يخدم غير أهداف
الاستعمار.. لم أرض فى ذلك الوقت الإشارة للنشاط الشيوعى فى العراق, وهو نشاط لم
يكن يتجه مع الأسف إلى حرب ضد الاستعمار.. إنما كان مع الأسف يهادن الاستعمار,
ليتفرغ بطاقته كلها لضرب الجمهورية العربية المتحدة وفكرة القومية العربية أساسا..
ولعلكم لو طلبتم تقريرا عما كانت تنشره الصحف العراقية فى تلك الفترة, لخيل إليكم
أن الجمهورية العربية المتحدة.. وليس بريطانيا هى التى تحتل العراق.. ولخيل إليكم
أن الجمهورية العربية المتحدة, هى التى كانت تقيم صنائعها لحكم العراق.. ولخيل
إليكم أيضا أنها هى التى غلت أيدى شعب العراق بقيود حلف بغداد.. تلك حقيقة لا مجال
لأنكارها, ولا يكفى لدحضها أن يقال جزافا أن الشيوعيين هم طليعة الصف المناضل ضد
الاستعمار.. وهكذا كرسنا جهودا كبيرة لكى نشرح أن هجومنا لا يتجه إلى الشيوعية
كعقيدة لأن ذلك ليس شأننا.. نحن نفضل أن نشرح عقيدتنا الخاصة وتبلورها, ولا نظن
أنها تكسب كثيرا بمحاولة هدم العقائد الأخرى.. وسبق أن عددنا أن ثمة أفراد ممتازين
من الشيوعيين تقدرهم شعوبنا حق قدرهم, وكنتم أنتم يا سيادة الرئيس على رأس القائمة
من هؤلاء الأفراد الممتازين".
إستمر "عبد الناصر" فى رسالته يشرح تفاصيل كثيرة, بينها
رسائل ولقاءات أوضح خلالها ذلك.. وأكد على أن مواقفه ليست لصالح قوة عظمى ضد
أخرى.. وشرح موقفه من ثورات العراق, خاصة الثورة على "عبد الكريم قاسم"
الذى استعان بالشيوعيين لتصفية حسابات خاصة وشخصية داخلية.. إنتهت بالإطاحة به
وبالشيوعيين فى مشهد مأساوى, ثم أبدى دهشته من صدمة "خروشوف" شخصيا
والاتحاد السوفيتى كقوة عظمى.
التفاصيل فى الرسالة كلها تتناول فهما عميقا من جانب "عبد
الناصر" للشيوعية كمنهج وعقيدة.. وأنه ليس ضد أى منهج أو عقيدة فى أى مكان..
لكنه ضد فرضهما على مصر.. وقدم عرضا للمقارنة بين ما حققته التجرية الشيوعية للشعب
السوفيتى, وما قدمته التجربة المصرية لشعبها.. رغم مرور 40 عاما على الثورة فى الاتحاد
السوفيتى, و7 سنوات فقط على التجربة المصرية.. ولعلنا نلحظ السخرية شديدة المرارة
من مواقف الاتحاد السوفيتى بدعم الشيوعيين فى الجمهورية العربية المتحدة, وهو
يتمسك بأنهم عملاء يخدمون قوى خارجية.. وقال بما لا يقبل شكا, وإن كانت صياغته فى
الرسالة التى كتبها بخط يده.. أنه يعلم تمام العلم دعمه لهؤلاء.. وأنه يرفض ذلك
بإصرار لا يقبل مناقشة أو مساومة.. وعلى هذه الخلفية اختار المواجهة مع الشيوعيين
فى الداخل.. عاملهم كما عامل "الإخوان" لأن كليهما يخدم قوى خارجية..
فإذا كانت "جماعة الإخوان" صنيعة المخابرات البريطانية قبل الثورة.. فهو
يؤكد الرفض لأن يترك صنيعة لأية مخابرات أخرى يعيثون فى بلاده فسادا.. حتى ولو
كانت المخابرات السوفيتية, تحت عباءة الصداقة المصرية – السوفيتية!!
كانت الرسالة خطا فاصلا بين ما قبلها وما بعدها, فى علاقات
"عبد الناصر" مع الاتحاد السوفيتى وقيادته التى أدركت – وتأكدت – أن هذا
زعيم وطنى من شعر رأسه لأخمص قدميه.. وأنه لا يؤمن بغير الله وشعبه.. يسجد لله
ويضع شعبه تاج على رأسه!!
كانت مصر فى تلك اللحظة.. بعد سبع سنوات ثورة.. تملك القدرة على
التحدى بمنطق وفكر وعلم.. وكانت مصر فى بداية طريق, جعل كل الطامعين فيها يبحثون
عن وسائل جديدة لإعادة حبسها فى قفص يمنعها من أن تلعب دورها المحتوم.. إختار
الغرب نصب شراكه الخداعى حولها بالذهاب إلى منهج "الأوف شور" بحثا عمن
يشاركهم فى إدخاله وتمكينه من مصر اقتصاديا وسياسيا.. واختار "الاتحاد
السوفيتى" صداقة حذرة تخدم مصالحه دون مساس بمصالح مصر, باعتبار أنه هناك
قائد وزعيم يعرف كيف يحميها!!
أنهى "عبد الناصر" رسالته بقسوة ناعمة, فقال: "إننا
لا نستطيع السكوت بأى حال على هذا الذى يتم توجيهه ضد مبادئنا ومعتقداتنا.. بل ضد
سلامة وطننا.. لا نستطيع أن نسكت عليه حين يقوم به أفراد من بلادنا.. ولا نستطيع
أن نسكت عليه حين يجد هؤلاء الأفراد قوة من الخارج تسندهم.. وللأسف نجدكم أنتم
وراء هؤلا الأفراد, ودفعوكم دفعا إلى هذا الموقف الصعب الذى تقفونه الآن فى حكم
الرأى العام العربى.. بل الرأى العام فى كل إفريقيا وآسيا.. وما من شك أنها كانت حججا
لا تقوم على أساس, ومعلومات لا تستند إلا إلى التضليل.. ومن سوء الحظ أن جزءا
كبيرا من الضرر الذى وقع يقتضى أزالة آثاره جهدا كبيرا.. والواضح أن هجومنا ضد
الشيوعية, ليست هجوما على عقيدة.. إنما هو دفاع عن أنفسنا ضد حملة عنيفة موجهة
إلينا.. والواضح أنكم تعتبر كل هجوم على الشيوعيين, هجوما عليك وتجد نفسك مضطر إلى
الاشتراك فى المعركة.. وهو أمر أؤكد لك أننا لا نريده ولا نسعى إليه.. لقد كنا
نهاجم نورى السعيد وهو مسلم.. وكنا نهاجم الأسرة المالكة فى العراق وهى سليلة نبى
الإسلام.. لكننا كنا نهاجم انحرافات أشخاص, ولا نقصد العقيدة التى يؤمنون بها..
لأن الدين الذى كانوا ينتمون إليه, هو نفس الدين الذى نتشرف باعتناقنا له.. وإننى
أؤكد لك صادق النية, بأنه لا شىء أحب إلى من أن نخرج من هذه الحلقة المفرغة, إلى
استقرار يسود العلاقات بين بلدينا.. وهى علاقات أكدت لكم ومازالت أؤكد أنها من
دواعى فخرنا واعتزازنا.. وما أظننى فى حاجة إلى أن أعدد لكم المبررات, التى تحبب
إلى نفسى أن يعود الصفاء بيننا".
وقبل أن ينهى رسالته, راح ينعش ذاكرة الزعيم السوفيتى بالقواعد
التى اتفقا عليها للصداقة بين الشعبين السوفيتى والمصرى.. فقال: "إننا نؤمن
بالتعايش السلمى, ونحن نؤمن بالصداقة بين الشعوب.. نحن نرفض الحرب لأنها تتنافر مع
مبادئنا, سواء كانت الحرب ساخنة أو الحرب الباردة.. ونحن لا نملك كما تعلم أسلحة
الحرب الساخنة, ولا نملك الوقت الذى نضيعه فى الحرب الباردة.. بسبب سعينا للحاق
بالتقدم البشرى الذى أرغمنا على التخلف بفعل الاستعمار.. وإننا نقدر تمام التقدير
مواقفكم منا منذ بدأ التعاون الوثيق بيننا سنة 1955, حتى بدأت الأوضاع التى
يتملكنا وقوعها للأسف الشديد فى نهاية 1958 وبداية عام 1959.. لكنك تدرك أن فى
الأمر طرفين.. واسمح لى أن أستعمل مثلا عربيا شائعا يقول أن.. يدا واحدة لا تصفق..
وإذا كنا نشعر أننا مخلصون وصادقون نريد صداقتكم.. فإننا نريد أن نشعر أن يدنا
الممدودة إليكم, لا تترك معلقة فى الهواء.. وتفضلوا يا سيادة الرئيس بقبول فائق
احترامى.. وأمانى الصادقة بالنجاح والرفاهية لشعب الاتحاد السوفيتى العظيم.. إمضا..
جمال عبد الناصر".
لا يجيد "جامعى أعقاب السجائر" القراءة لذلك احترفوا أن
يتكسبوا من الهجوم على "عبد الناصر" وهذا شأنهم وطبيعة وظيفتهم!! ولن
يفهم "خدم الملكية والاستعمار" لو قرأوا لأنهم يكسبون من تنفيذ مؤامرات
من يدفع لهم!! وسيبقى التاريخ حيا لا يموت, والمعانى الواضحة لا تحتاج إلى شرح..
فقد كان هذا رئيس حكم مصر فأصبح زعيما كبيرا, وقال عنه "إيزنهاور" بعد
أن انتهى من قراءة خطابه فى الأمم المتحدة: "عبد الناصر أصبح يحكم نصف
العالم" ليؤكد احترامه لهذا العدو إلى هذا الحد.. واحترمه الزعيم السوفيتى
"خروشوف" الذى صارحه وواجهه بحزم وحسم واضحين, لأنه تأكد من حقيقة
واضحة, أن هذا حاكم بحجم مصر.. حاكم يعرف تاريخ بلاده, وقيمة موقعها الجغرافى..
حاكم يفخر فى صمت نبيل بأنه مسلم ويدافع عن الإسلام بوعى وفهم لمقاصد هذا الدين
العظيم.. حاكم يقرأ.. لا يكف عن التعلم كما أوضح "نهرو" فى شرح أسباب
تقديره له.. حاكم يضع شعبه تاج على رأسه, فرفعه شعبه على الأعناق – حيا وميتا –
حاكم أعطى لوطنه وشعبه الكثير. وعاش يشعر بالتقصير بأنه لم يحقق لهم ما كانوا
يحلمون به.. حاكم واجه الأعداء والأصدقاء بلغة واحدة ومنطق سليم.. حاكم يستحق أن
ندفع أغلى الأثمان دفاعا عن تجربته, بتقليب صفحاتها.. لعلهم يقرأون أو يفهمون..
ويبقى أن نستعرض.. كيف كان يخاطب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية!! بإعادة قراءة
رسالته التى كتبها إلى "كيندى" فى أول أغسطس عام 1961, باللغة نفسها..
وبالقوة ذاتها التى خاطب بها "خروشوف" قبلها بنحو عامين..
يتبع
0 تعليقات