محمود جابر
أساس التشريع فى الإسلام هو القرآن. و لولا أن النبى الأكرم نزل
عليه القرآن لما وَصَلَتْنا عنه أحاديث يشرح فيها الكتابَ الكريمَ ويطبقه على
وقائع الحياة ويضيف إلى تشريعاته تشريعات أخرى انطلاقا منه وتوخيا لغاياته، ولا
كان هناك إجماع للأئمة أو الصحابة أو استحسان أو مصالح مرسلة. هذا ما نؤمن به نحن
المسلمين، أما أعداء الإسلام، فيشككون فى مصدر القرآن زاعمين أنه ليس من عند الله،
بل من تأليف محمد، وبعض المسلمين للأسف يقولون هو من تأليف أصحاب محمد!!
والأمر هنا – والخطاب للمسلم- هل يذهب رسول الله، والقرآن في صورة
أجزاء مبثوثة، وصحف متفرقة (؟!!)، لا، بل في العسب، واللخاف، والرقاع، وقطع
الأديم، وعظام الأكتاف والأضلاع من الشياه والإبل! فهي مظنة للضياع؟!!
والحق الذى يدركه كل مسلم عاقل أن النبي الأكرم ما فارق الحياة إلا
بعد ما دون القرآن وحصّنه، وأحكم الأسوار حوله، ومنع الزمن أن يتطرق إليه بشيء،
وجعله بذلك فوق الزمن. وهذا توفيق وتعهد إلهى من فوق السموات السبع بحفظه وصيانته.
بيان القرآن عن نفسه
ولمعرفة ما يقول القرآن فى قضية الجمع بشكل مفصل قال تعالى :
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا
جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ
إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(19)
تلك الآيات واضحة في أن الله أخذ على نفسه، أنه يتولى جمع القرآن،
وقراءته، وتبيينه كلما احتاج إلى بيان. وأمر النبي أن يتبع قرآنه، إذا قرأه.
وهذا يعني أن القرآن يجمع حسب أمر الله، وإرشاده ( وحيا)، وبما انه
بأمر وإرشاد الله تعالى فهذا يعني أنه جمع في حياة النبي، حتى يقرأه كما يرشده.
كلمة وجيهة قيمة للفراهي
قال الفراهي في ضمن حديثه عن تلك الآيات:
"اعلم أن الله تعالى وعد بحفظ القرآن مرارا، إجمالا وتفصيلا،
فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ
لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ
خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) أي: إنه مصون عن الزيادة.
وقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ(9) وهذا قول في غاية الصراحة بنفي النقصان والتغير، مع الدلالة على
نفي الزيادة أيضا؛ فإن كل واحد من هذه الثلاث يخالف حفظ كلام الله، وهذا أمر ظاهر.
ويزيد فيقول: " فلايخفى عليك أن قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا
جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ
إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) يحتوي على ثلاثة أمور:
الأول: أن القرآن يجمع في عهد النبي، ويقرأ عليه بنسق واحد،
فإنه لو أنجز هذا الوعد بعد عهد النبي لم يأمره بإتباعه، وذلك قوله تعالى: فَإِذَا
قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ.
الثاني: أن النبي مأمور بالقراءة حسب هذه القراءة الثانية التي تكون بعد
الجمع، وليس للنبي أن يلقى عليه شيء من الوحي، ولايبلغه الأمة، حيث أمره الله
تعالى، فقال: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ. وقوله تعالى: (مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ) عام، فكل ما أنزل إلى الرسول من أمر الرسالة، لابد أن يبلغه الأمة، ونظم
القرآن وترتيبه منه، فكيف يترك تبليغه، وهو مما أنزل إليه؟ فلا شك في أن النبي
علّم الأمة قراءة السور بنسق آياتها.
الثالث: أن بعد هذا الجمع والترتيب بين الله ماشاء بيانه، من التعميم،
والتخصيص، والتكميل، والتخفيف.
وقد علمنا وقوع هذه الأمور الثلاث، فإن النبي كان يقرأ عليهم سورة
القرآن كاملة، وهذا لايكون إلا بعد أن قرئ عليه بنسق خاص، فأخذوها منه، وكان
يأمرهم بوضع الآيات بمحلها اللائق بها، ثم بعد ذلك إذا أنزلت عليه آيات مبينة
ضمّها إلى القرآن.
فترى هذه المبينات ربما وضعت بجنب ماتبينه، وأحيانا في آخر السورة،
إن كانت متعلقة بعمودها، وترى في أكثر هذه الآيات تصريحا بأنها بيان من الله
تعالى، كقوله عزّ من قائل: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)
ثم عرض عليه جبريل الأمين عرضة أخيرة، بعد تمام القرآن، كما جاء في
الخبر الصحيح المتفق عليه، فجاءه القرآن بتمامه، مرتّب السور، فكانت مواقع السور
فيه، مثل مواقع الآيات مما ألقي عليه، وعلّم الأمة، كما تلقى من الروح الأمين.
(عبدالحميد الفراهي، تفسير سورة القيامة:231-233)
وبعد أن بينا الآيات الدالة على الجمع والحفظ والترتيب من كتاب
الله تعالى نستعرض ما جاء فى الروايات :
الرواية الأولى :
روى البخاري، قال: حدثنا معلى بن أسد حدثنا عبد الله بن المثنى قال
حدثني ثابت البناني وثمامة عن أنس بن مالك قال:
مات النبي صلى الله عليه و سلم ولم يجمع القرآن غير أربعة أبو
الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد . قال ونحن ورثناه. (صحيح البخاري،
باب القراء من أصحاب النبي:4/1913/4718)
فهؤلاء الأربعة جمعوا القرآن في حياة النبي ، بشهادة أنس بن مالك،
وهو وأهله ورثوا مصحف أبي زيد لقرابة بينهم.
الرواية الثانية
ومما يدل على تدوين القرآن في حياة الرسول مارواه الطبراني، قال:
حدثنا أحمد بن عمرو البزار ثنا هدبة بن خالد ثنا مبارك بن فضالة عن أبي محرز:
أن عثمان بن أبي العاص وفد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مع
نا س من ثقيف فدخلوا على النبي فقالوا له: أحفظ علينا متاعنا أو ركابنا فقال : على
أنكم إذا خرجتم انتظرتموني حتى أخرج من عند رسول الله قال : فدخلت على رسول الله
صلى الله عليه و سلم فسألته مصحفا كان عنده فأعطانيه واستعملني عليهم وجعلني
إمامهم وأنا أصغرهم.
(المعجم الكبير للطبراني، باب: عثمان بن أبي العاص كان ينزل:9/61/8393)
ومثله ما رواه أبونعيم، قال: "عثمان بن أبي العاص الثقفي وهو
عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبيد بن دهمان بن عبد الله بن همام بن أبان بن يسار
بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة
بن قيس بن غيلان بن مضر ، وفد إلى رسول الله وهو ابن سبع وعشرين في أناس من ثقيف ،
فسأله مصحفا فأعطاه ، وأمره على الطائف." (معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني
،باب:من اسمه عثمان:14/86)
تلك الرواية نص واضح في أن القرآن كان مجموعا مرتبا، مدونا بين
الدفتين في حياة رسول الله، فإن لفظ المصحف لا يطلق إلا على كامل القرآن، المجموع
بين الدفتين.
قال الزبيدي: "لأَنَّه في المعنَي مَأْخُوذ من أُصْحِفَ ،
بالضَّمِّ : أَيْ جُعلَتْ فيه الصُّحُفُ المكْتُوبةُ بين الدَّفَّتَيْن ، وجُمعَتْ
فيه." (تاج العروس:ص ح ف)
وأيضا تفيد الرواية أن رسول الله كان يحتفظ عنده بنسخ زائدة من
المصاحف، وإذا جاءته الوفود، كان يجود عليهم بها، فهم كانوا يذهبون بها إلى قومهم،
وكانوا يستنسخونها، ثم ينشرونها بين الناس.
الرواية الثالثة
وقال أبوجعفر الطحاوي: حدثنا فهد، قال: حدثنا يوسف بن البهلول ،
قال: حدثنا سليمان بن حيان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الطائفي، عن
عثمان بن عبد الله بن أوس بن حذيفة، عن جده أوس بن حذيفة، قال: وفدت في وفد ثقيف
إلى رسول الله ، فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة وأنزل رسول الله بني مالك في
قبة له، فكان ينصرف علينا النبي بعد العشاء فيحدثنا قائما على رجليه حتى يراوح بين
قدميه من طول القيام...، فلما كان ذات ليلة أبطأ علينا عن الوقت الذي كان يأتي
فيه، فقلت: أبطأت علينا الليلة فقال:
« إنه طرأ عليّ حزبي من القرآن فكرهت أن أجيء حتى أتمه» قال أوس بن
حذيفة: فسألت أصحاب رسول الله : كيف تحزّبون القرآن؟
قالوا : ثلاثا، وخمسا، وسبعا، وتسعا، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب
المفصل وحده.
قال أبو جعفر: قال أبو خالد وهو سليمان بن حيان، فنظرنا فيه،
فإذا ثلاث سور من أول القرآن: البقرة وآل عمران والنساء.
والخمس: المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة.
والسبع: يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل.
والتسع: بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون
والنور والفرقان. والإحدى عشرة: الطواسين والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة
والأحزاب وسبأ وفاطر ويس.
والثلاث عشرة : الصافات وص والزمر وحم يعني الحواميم، و محمد
والفتح والحجرات.
وحزب المفصل. قال أبو جعفر ففيما روينا من هذه الآثار تحقيق أمر
الحجرات أنها ليست من المفصل وأن المفصل ما بعدها إلى آخر القرآن.
(مشكل الآثار للطحاوي،
باب:إنه طرأ علي حزبي من القرآن: 3/386/1171).
تلك رواية مشهورة رواها عدّة من أصحاب السنن، وهي تدل على أن أصحاب
رسول الله قد قسّموا القرآن إلى أحزاب، وكان لكل يوم حزب، أي: قدر معين، أو عدد
معين من السور، وهم كانوا يلتزمون به، وكانوا يختمون القرآن عادة في كل أسبوع.
وأحزابهم كانت على نفس الترتيب الذي يوجد في مصاحفنا، وهذا الحزب،
وهذا الترتيب حجة قاطعة على أن القرآن كان مجمعا، ومرتبا، ومدونا كمثله في أيامنا،
وكانت بيوت الصحابة كلها عامرة بها.
الرواية الرابعة
ومما يدل على تدوين القرآن في حياة رسول الله مارواه أهل الجوامع
والسنن:
قال رسول الله - - (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناتهِ بعد موته
علماً علمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً
لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه
من بعد موته) حسن ابن ماجه وابن خزيمة.(صحيح كنوز السنة النبوية: 1/68)
الشاهد في الحديث أن الحثّ على توريث المصحف لايكون إلا بعد جمع
القرآن وتدوينه، فإن لفظ المصحف لايطلق إلا على القرآن المجموع بين الدفتين، فإذا
حثّ رسول الله على توريث المصحف، فهي حجة واضحة ساطعة على أن القرآن قد أخذ صورة
المصحف، وكان يوجد في حالة تجري الوراثة فيها.
وللحديث بقية
الحلقة القادمة
أبو بكر وعثمان ومفهوم جديد لجمع القرآن
0 تعليقات