نصر القفاص
أجرى "السادات" حوارا صحفيا يوم 5 يناير عام 1977, مع
الصحفى الأمريكي "سايروس سلزبرجر" ذكر فيه: "نحن المصريين
والإسرائيليين لا يثق كل منا فى الآخر.. لكن كلينا يثق فى الولايات المتحدة
الأمريكية".. وكانت الجملة غامضة.. لم ينقلها الإعلام المصري.. لكن الرسالة
كانت لمن يهمه الأمر!!
فهذا "نيكسون"
الذى كان يراهن عليه أخفته فضيحة "ووتر جيت" واختفى معه "صديقى
كيسنجر" ولم يصل الدعم الأمريكي لانتشال البلاد من أزمة اقتصادية باتت
خانقة.. انشغلت دول الخليج بجنى ثمار حرب أكتوبر, بعد أن قفز سعر النفط قفزة
هائلة.. وأطاحت الانتخابات الأمريكية بنائب الرئيس الأمريكي "جيرالد
فورد" وجاء "جيمى كارتر" فى نوفمبر عام 1976.. بذل
"السادات" جهودا كبيرة للتواصل مع الرئيس الجديد.. حددوا له موعدا للقاء
فى 1ابريل عام 1977.. ذهب يشكو معاناته من "انتفاضة الحرامية" كما كان
يصفها!
يروى "كارتر" فى مذكراته ليقول أنه بعد المأدبة الرسمية
ومحادثات الوفدين.. أخذ "السادات" إلى المقر الشخصى فى الطابق الثانى فى
البيت الأبيض: "كانت ابنتى الصغيرة إيمى نائمة.. أيقظتها وقلت لها: أريد أن
أعرفك بصديق جديد.. جلسنا على أريكة.. بدأت أشرح للسادات أحلامي بالسلام فى الشرق
الأوسط.. وجدت نحوه تقبلا على نحو لم أتوقعه.. بدأت أشرح له صفاته التى ستجعل منه
رجلا عظيما.. وجدته هادئا مفعما بالثقة.. يملك وعيا بعيد البصيرة فى العلاقات
الدولية.. كان جسورا لا يفتقر إلى الجرأة السياسية.. استكشفنا بعض الاحتمالات..
قال لى: بوسعنا أن نرى فى أحد الأيام سفنا إسرائيلية تمر عبر قناة السويس.. لكن لن
يتم أبدا تبادل للسفراء بين البلدين".. وعاد "السادات" من
"واشنطن" ليقول: "كارتر لا يقل عن نيكسون, وقد ربحت فيه
صديقا"!!
كان "الليكود" يحكم قبل شهور بزعامة "مناحم
بيجن".. وقررت "المغرب" استضافة لقاء سرى برعاية "الحسن
الثانى" بين "موشى ديان" و"حسن التهامي" باعتباره يشغل
موقع نائب رئيس وزراء ومعه "كمال حسن على" الذى كان يرأس جهاز المخابرات
العامة.. وحضر اللقاء "إسحاق صوفى" رئيس جهاز "الموساد"..
وسمع الحضور "حسن التهامي" وهو يقول لهم عن "عبد الناصر":
"هذا المجنون قاد مصر إلى حافة الانهيار"!! وطرح ما يحمله من تصورات
"السادات" للسلام.. ذكر التفاصيل "روبير سوليه" فى كتابه
"السادات" نقلا عن عديد الصحف الإسرائيلية والغربية!! ورغم أن تفاصيل
كثيرة تم إعلانها.. إلا أن الأسرار مازالت أكثر.. زعم "السادات" أن
الفكرة راودته واتخذ قراره بالذهاب إلى "إسرائيل" دون تشاور مع أحد.. فى
الوقت نفسه نعرف أن كل من رومانيا والنمسا والمغرب كانوا يلعبون أدوارا لتعبيد
الطريق.. وما كتبه "كارتر" فى مذكراته يؤكد أن "السادات" كان
محل دراسة على "أريكة" فى الدور الثاني فى البيت الأبيض.. وما نعلمه أن
"السادات" أصر على أن يحضر "ياسر عرفات" جلسة مجلس الشعب,
التى أعلن خلالها استعداده للذهاب إلى القدس.. كما نعلم أن "والتر
كرونكايت" الصحفي الأمريكي الشهير لعب دورا بإجراء حوار تليفزيونى عبر شبكة
"سى بى اس" مع كل من "السادات" و"بيجن".. وخلال
الحوار سأل "السادات" عن جديته فى الإعلان عن زيارته لإسرائيل.. أجابه
بأنه ينتظر دعوة رسمية!!..
هنا سأله من يحاوره: "وكيف تصلك الدعوة إذ لا توجد علاقات
دبلوماسية بين مصر واسرائيل؟".. أجاب "السادات": إن تسليم الدعوة
يمكن أن يتم عبر أمريكا باعتبارها صديقا مشتركا".. وحين أطلع
"كرونكايت" الطرف الثاني فى الحوار – بيجن – أجابه بأنه سيقوم بتأجيل
زيارة سبق إعدادها إلى بريطانيا, وسيرسل الدعوة الرسمية فورا.. ويوم الخميس 17
نوفمبر.. تم الإعلان عبر مكتب "بيجن" أن "السادات" سيصل إلى
إسرائيل ما بين السابعة والنصف والثامنة مساء يوم السبت.. وكان يوم الأحد الموافق
20 نوفمبر موعد احتفال المسلمين فى مصر والعالم بعيد الأضحى.. هذا يعنى أن الرئيس المصري
ومرافقيه سيؤدون صلاة العيد بالمسجد الأقصى.
هل يمكن القول أن ترتيب الأحداث على هذا النحو كان مصادفة.. أو تم
إعلانه كمفاجأة؟! الحقيقة تكشفها وقائع واضحة.. وهى أن إعلان "السادات"
وترتيب الزيارة على عجل.. كان مدروسا فى الكواليس وعبر مطابخ خارجية, سيما وأن
"السادات" قبل الزيارة قام بزيارة إلى "طهران" ومباحثاته دائما
كانت منفردة وسرية!! وذهب إلى "القدس".. وألقى خطابه فى
"الكنيست" وسط ضجيج غير عادى.. فقد استقال "إسماعيل فهمي"
وزير الخارجية.. ثم استقال "محمد رياض" الذى تولى المنصب بعده.. اختار
الرئيس تعيين "بطرس غالى" وزير دولة للشئون الخارجية وقائما بعمل وزير
الخارجية ليسافر معه على الطائرة.. وعاشت إسرائيل أروع وأمجد أيامها!!
كما حلق
"السادات" فى سماء النشوة والزهو, باعتباره أصبح محط أنظار الإعلام الغربي
والدولي.. وبقيت كلمات "كارتر" التى دفعته إلى هذا الطريق يتردد صداها
داخله "عيون العالم ستكون عليك"!!
وبدت عليه السعادة خلال
دردشته فى الطائرة مع رفيقه وصديقه "عثمان احمد عثمان" حيث كان قد تم
تدشين خطط "التوريث" بعلاقة نسب معه ومع "سيد مرعى" تمهيدا
لأن تتولى "جيهان السادات"رئاسة المجلس الشعبى المحلى لمحافظة المنوفية!
يقول "إسحاق رابين" عن تلك اللحظة: "بنزول السادات
درجات سلم الطائرة, شعرت أنني أعيش حلما".. وخلال استعراضه حرس الشرف.. سأل:
"هل إيريل شارون هنا؟!" وحين قدم "بيجن" له وزير الخارجية
السابق "آبا إيبان" قال له "السادات": "أعلم أن زوجتك
مولودة فى الإسماعيلية وأنك تجيد العربية".. ليبدو الأمر وكأن الرئيس المصري
فى زيارة لأصدقاء قدامى يعرفهم حق المعرفة بمداعباته لهم!!..
هكذا كتب أكثر من صحفى فى
صحف غربية بصياغات مختلفة.. خاصة أنه نادى "موشى ديان" بود قائلا:
"هالو موشى" وداعب "جولدا مائير" قائلا: "كنت أتمنى أن
أعرفك من زمن طويل"!!
وحين وصل إلى مقر إقامته
فى الطابق السادس بفندق "الملك داوود" جلس على انفراد مع
"بيجن" لمدة ساعة.. وعن هذه المقابلة قال "إلياهو بن اليسار"
مدير مكتب "بيجن": "إن هذه الجلسة كانت حاسمة.. فقد اتفق الرجلان
على حل أي خلافات بين البلدين – مصر وإسرائيل – بالوسائل السلمية"!!
واضح أن العلاقات قامت قبل التفاوض وتوقيع المعاهدة.. وأن المنهج
تم الاتفاق عليه قبل أن يلقى "السادات" كلمته أمام "الكنيست"
ويؤكد ذلك كلمته التى يحفظها السجل الذهبي للنصب التذكاري فى القدس, وقال فيها:
"سدد الله خطانا على درب السلام لتنتهى إلى الأبد عذابات البشرية
كلها"!!.. وكانت تخترق آذانه أصوات فلسطينيين يصرخون "فلسطين يا
سادات" قبل أن يضع إكليلا من الزهور أمام نصب الجندى المجهول.. ثم ذهب إلى
"الكنيست" وقبل أن يلقى كلمته سمع كلمة ترحيب به ألقاها "إسحاق
شامير"!! وبعد خطابه القى "شيمون بيريز" كلمة بصفته زعيما
للمعارضة!!
فى مذكراته يروى "بطرس غالى" أن: "بيجن لاحظ أن السادات
ينادينى مرة بطرس وأخرى بيتر فإذا به يسألنى: لماذا يناديك بالاسمين؟!.. أجبت أنه
حين يكون راضيا عنى ينادينى بيتر.. وإذا كان غاضبا منى ينادينى بطرس.. فاستخدم
الاسمين معى بعد ذلك.. فإذا كنت أضع عراقيل دبلوماسية ينادينى بطرس وشاعت هذه
الدعابة"!!..
تلك تفصيلة تشير إلى أن
أجواء الزيارة بدت كما لو كانت نتيجة تعارف انتهى إلى ود وصداقة واضحين.. واللافت
أن كل هذه التفاصيل الصغيرة متناثرة بين ثنايا حوارات صحفية ومذكرات كتبها أطراف
المشهد.. ومحظور تناولها أو مناقشتها فى مصر بهدوء.. فالذين يعملون لصالح
"ماكينات الكذب والتزوير" يقومون دائما بالتعتيم على هذه الوقائع, بمنهج
يقوم على مهاجمة "عبد الناصر وزمنه" باعتباره كان سببا فى ضياع سيناء..
وأن "السادات" استردها بالحرب والسلام.. ويقفز هؤلاء على حقيقة واضحة
كالشمس, تقول أن "عبد الناصر" استرد مصر كلها من الاستعمار البريطاني
بعد احتلال دام أكثر من سبعين عاما.. وأنه استرد "قناة السويس" من بين
أنياب فرنسا وبريطانيا.. وهؤلاء أيضا يصيبهم الخرس حين تسألهم عن "الرخاء
والرفاهية" اللذان اختارهما "السادات" كبديل عن "العزة
والكرامة"!!
خلال توديع "السادات" عائدا من رحلته.. اقتربت منه زوجة
"إسحاق نافون" وكان يشغل رئاسة لجنة الشئون الخارجية بالكنيست, وأصبح
بعدها رئيس لإسرائيل.. وكسرت البروتوكول مع الصديق الجديد.. وقالت له: "لابد
أن أحتفظ بتذكار لهذه المناسبة".. وفى حركة غير متوقعة.. أمسكت يده وسحبت من
إصبعه خاتما, وأعطته خاتمها.. وعلق "السادات" على الموقف قائلا:
"أخذت منى خاتما ذهبيا.. وأعطتني خاتم فالصو"!!
تلك هى الحقيقة.. لقد أخذوا منه "الذهب" وأعطوه
"الفالصو"!
لكن الرئيس الباحث عن أن تكون "عيون الدنيا عليك" اعتبر
كل هذا جسرا يعبر به على زمن كان جزءا منه.. إلى زمن صنعه منفردا.. وانقسم العالم العربي
بتأسيس ما سمى "جبهة الصمود والتصدي".. وقطع "السادات"
العلاقات مع "الجزائر" و"سوريا" و"ليبيا"
و"اليمن الجنوبي" – قبل توحيد اليمن – وتم اختيار "السادات"
رجل العام – 1977 – من جانب مجلة "التايم", ووافق على تنفيذ رغبة المجلة
بأن يذهب إلى "الأهرامات" لالتقاط صور العدد.. وأعجبته الفكرة فسمح
بعدها للمصور الصحفى "فاروق إبراهيم" بالتقاط صور له تجسد حياته
الشخصية.. وبينها كانت صورة بملابسه الداخلية ويحلق ذقنه!! فقد أصبح مولعا بنمط
الحياة الأمريكي وأسس له.. وعلى دربه سار من حكموا بعده!!
وكان دائما ما يعبر عن
سعادته بهذا النمط من الحياة.. لا قراءة ولا دراسة.. ويروى "جاك
أندريانى" سفير فرنسا فى القاهرة أنه ذهب إليه لتسليمه رسالة من "فاليرى
جيسكار ديستان" فأخذها ووضعها جانبه.. "وانتظر أن أنقل له مضمونها
شفهيا"!! وكتب أكثر من مقرب له أنه سمعه يقول: "كان عبد الناصر لا يكف
عن القراءة ويتابع كل شىء.. لدرجة أنهم كانوا يوقظونه من نومه إذا شب حريق فى
قرية, ليتابع الموقف حتى يتم إطفائها.. وهذا ما قتل عبد الناصر"!! وذلك جعل
"هرمانى ايلتس" سفير الولايات المتحدة الأمريكية فى القاهرة يقول عن
"السادات": "إنه كان لا يهتم بالتفاصيل ولا يصبر حتى يعرفها"!!
عاش "السادات" فى أجواء زعامته وركز على
"السلام" أملا فى تحقيق "الرخاء والرفاهية" وترك ما يدور داخل
مصر ليتفاعل.. المجتمع يغلى.. هو لا يرى ذلك.. يتحدث عن أخلاق القرية والحقد الذى
لا يبنى.. وترك الأجهزة الأمنية لتمسك بزمام الموقف.. فهى التى ترسم ملامح المشهد
السياسى.. وهى التى تحدد اختيار القيادات وبعض الوزراء.. وهى التى تختار أهل الثقة
فى الإعلام..وتلك صيغة حققت له ارتياحا, وعلى دربه سار نائبه الذى حكم مصر بعده
ثلاثين عاما.. لذلك كان يفجر أزمات كلما تحدث فى خطاب للشعب, لأن ما يقوله بعيد
تماما عن الحقيقة.. والتفاصيل مهمة وتوضح أكثر..
يتبع
0 تعليقات