نصر القفاص
طمس معالم "زمن الخمسينات والستينات" كانت له خططه.. شطب
"مصر العزة والكرامة" من الذاكرة الوطنية كانت عملية يجرى تنفيذها
بسرعة.. الذهاب بمصر إلى عالم "الأوف شور" كانت تريده وتحرص عليه
"واشنطن" وهذا لن يتحقق دون صراع مع مجتمع تم فرض الحيرة والارتباك
عليه.. يتحقق ذلك بإعادة الأحزاب لتكون شكلا.. برفع لافتة الديمقراطية لتكون
"ديكور حكم" وليست أساسا لنظام حكم.. كل من يعارض المنهج الجديد, يتم
اتهامه بأنه "ملحد" فى دولة "العلم والإيمان" التى استدعت
"الإخوان" ليكونوا حلفاءها.. تشتعل "الفتنة الطائفية" لتكون
مواجهتها بشعار "الوحدة الوطنية" مع الإسراع فى تفكيك ترسانة الإعلام
والثقافة.. وقد يدهشك أن عقد بيع التليفزيون المصرى وهيئة السينما تم توقيعه
فعلا.. وانكشف الأمر مصادفة خلال حفل ليلى صاخب بأحد ملاهى شارع الهرم!!
رحلة "السادات" إلى "القدس" فرضت واقعا
جديدا.. تراجع بعض الذين اختاروا الدفاع عن نظام الحكم الجديد.. كان أبرزهم
"عبد الرحمن الشرقاوى" من موقعه كرئيس لمجلس إدارة مؤسسة "روز
اليوسف" الذى اختار الدفاع عن حق الشعب فى أن يصرخ خلال انتفاضة 18 و19
يناير.. فهم أن "السادات" لا يعنيه انتقاد الحكومة.. لا يلتفت إلى
الحملات ضد الفساد.. كل ما يهمه هو الابتعاد عن شخصه وسياساته الخارجية.. إختارت
"روز اليوسف" و"صباح الخير" تجنب الرئيس وانتقاد الأوضاع
الداخلية وتدهورها.. خاضت معارك ضد سياسات وزارات الاقتصاد والتعليم.. هاجمت الأزهر
الذى ترك الساحة لجماعة "الإخوان" وكل "الجماعات المفقوسة
عنها" وهاجمت "الأجهزة الأمنية" التى تغولت وأمسكت بدفة السفينة!!
ذهب "السادات" فى زيارة إلى جامعة الإسكندرية قبل نهاية
عام 1977.. فوجئ الرأي العام بالرئيس يهاجم "روز اليوسف" التى بلغ
توزيعها مائة وخمسين ألف نسخة.. فهو يقول أنه عندما يتصفح المجلة يشعر أن مصر
أصبحت ظلاما فى ظلام.. كل شىء فى مصر غلط وفاسد!! فهم "عبد الرحمن
الشرقاوى" الرسالة.. وضع استقالته أمام الرئيس خلال لقاء ودى.. صدر قرار
رئاسته للمجلس الأعلى للفنون والآداب مع تعيينه كاتبا متفرغا بجريدة
"الأهرام" وتسلم المجلة رئيس تحرير يعرف ما يريده الرئيس.. أخذت مكانتها
ومكانها جريدة "الأهالى" التى أصدرها حزب "التجمع الوطنى التقدمى
الوحدوى".. فحققت رواجا كبيرا.. إلى جانب جريدة "الأحرار" التى
تمثل اليمين واتجهت للإثارة الساذجة.. تربصت أجهزة الأمن بجريدة
"الأهالى" التى كانت تنشر تقارير صحفية قاسية تزعجهم كما "روز
اليوسف" قبل خنقها.. تتابعت قرارات مصادرتها.. هاجر عدد من الصحفيين إلى
"بيروت" ومنها إلى "لندن" و"باريس" بعد أن سمعوا
بصدور صحف ومجلات أصبح اسمها "الصحافة المهاجرة".. لينتقل الصداع من
داخل مصر إلى عواصم غربية تطالب بالحرية والديمقراطية المفقودة فى مصر.. يتحرك
"المدعى العام الاشتراكى" لمطاردة من يعترضون على سياسات الرئيس –
بالقانون – وتنشر صحف يوم 27 مايو 1978 خبر التحقيق مع 34 كاتبا وصحفيا بتهمة
تشويه سمعة مصر.. وأصبحت مصر هى الرئيس من هذا اليوم!!
وكانت القاهرة قد أصبحت مركزا جاذبا للصحف الأجنبية ووكالات
الأنباء لمتابعة نشاط الرئيس الذى أرسى قواعد السلام.. خاصة وأنه فى طريقه إلى
توقيع المعاهدة.. راحوا ينقلون ما يحدث فى مصر.. إكتشف الرئيس بأنه قام بعملية
"تعقيم" للصحافة المصرية, وظهرت صحف الغرب تنشر ما لا يريده ولا يحبه..
كان مراسلو الصحف يوجهون أسئلة محرجة له.. غضب وهدد فى إحدى المرات أنه سيطردهم
لأنهم يشوهون سمعة مصر!! وتصاعدت الحملات ضده من جانب الصحفيين الذين اختاروا
"لندن" و"باريس" منفى اختيارى.. صدرت قرارات منع من السفر ضد
عدد من الصحفيين بينهم "محمد حسنين هيكل" و"محمد سيد احمد"
وانطلقت حملات اتهامهم "بالخيانة العظمى"!!
تصاعدت فى الغرب أصوات الذين اتهموا "السادات" بأنه غير
ديمقراطى ويعادى حرية الصحافة.. أزعجه بيانا صدر فى "باريس" وقعه عدد من
المفكرين الفرنسيين يتهمه بأنه ديكتاتور.. وصفوه بأنه يقهر من يعارضونه بأساليب
محاكم التفتيش, باتهام معارضيه بأنهم "ملحدون" خاصة الشيوعيين
والناصريين والليبراليين.. إتهموه بأنه يمارس سلوك "المكارثية" ويطبق
سياسة جديدة عنوانها "الباب الدوار".. بمعنى أنه يقبض على معارضيه ثم يفرج
عنهم, ليقبض على غيرهم.. وهكذا!! كشفوا خطط ضرب المثقفين والمفكرين.. وأنه يستهدف
الثقافة والفكر بسياسات لا تليق بدولة عريقة مثل مصر.. وقع البيان:
"لاكوتير" و"سارتر" و"ميشيل فوكو" و"رينيه
دمون" وآخرين من كبار مفكرى فرنسا وأوروبا.. واتهموه بأنه يستخدم
"مستشفى الأمراض العقلية" للزج بخصومه فيها, وفتحوا ملف الكاتب الصحفى
"إسماعيل المهداوى"!! واعتبروا اتجاهه إلى تصفية أجهزة السينما والمسرح
باعتبارهما لا يحققان أرباحا.. محاولة لتهميش مصر ودورها فى محيطها.. غضب
"السادات" أخذ يتصاعد لأنه كان يرى أن هؤلاء "الافنديات" لا
يجيدون غير الثرثرة, ويعيقون مشروعه نحو بناء دولة عصرية حديثة!!
فوجئ الرأي العام بما نشرته جريدة "الثورة" العراقية فى
عددها الصادر يوم 2 مارس 1978, وكتب "أمير اسكندر" بأن وزارة الإعلام
والثقافة.. وقعت اتفاقا مع الشيخ "صالح كامل" المستثمر السعودى ومعه بعض
المستثمرين الأجانب وغيرهم من المصريين.. ينص الاتفاق على أن تؤول ممتلكات الوزارة
إلى شركة جديدة.. مقابل أن يدفع القائمين على الشركة قيمة هذه الأصول, وتتولى هى
الإنتاج التليفزيونى والسينمائى.. بمجرد نشر تلك الأسرار.. صدر تكذيب من وزارة
الإعلام.. تفجرت الفضيحة لأن كتابا كبار وفنانين كانوا يقدرون قيمة الفن, رفضوا
الصمت والتواطوء!! قرروا النشر مع إرسال برقيات احتجاج لرئاسة الجمهورية تتناول
الوقائع والحقائق التى كذبتها الوزارة.. تداعى أعضاء لجنة السينما فى المجلس
الأعلى للآداب والفنون.. إنتقلت الشرارة إلى مجلس الشعب الذى شهد تقديم أسئلة وطلبات
إحاطة.. إضافة إلى استجواب للوزير ورئيس الوزراء.. دعى "سعد الدين وهبة"
الذى كان يرأس لجنة "الثقافة والإعلام والسياحة" إلى جلسات استماع تحت
قبة البرلمان.. حضر الوزير وكان "عبد المنعم الصاوى" وراح يهاجم
الشيوعيين والناصريين والملاحدة, الذين لا يريدون خيرا لمصر.. إتهمهم بأنهم
يحاولون هدم ما أسماه "إستراتيجية مصر الثقافية" القائمة على الانفتاح
مستعينة برؤوس الأموال العربية والأجنبية.. وفوجىء الوزير بأن الفنانة "نادية
لطفى" تصرخ فى وجهه وتقول: "يا سيادة الوزير.. قل أنكم بعتونا وانتهى
الأمر.. قل لا داعى للمناقشة"!! ووقف الدكتور "يوسف إدريس" ليضيف
قائلا: "بعد أن بعتم هضبة الأهرام وهضبة بولاق – مثلث ماسبيرو – نرجوكم لا
تبيعوا هضبة المخ.. نحن نريد أن نحافظ على عقل مصر وفنها وفكرها بعيدا عن التحكم
والسيطرة من جانب الأجنبى"!!.. قاطع كلام "يوسف إدريس" النواب
الحاضرون بالتصفيق للوزير.. وتحدثوا لإعلان التأييد لسياسات الوزير المستنير..
تلقفت جريدة "الأهالى" الموضوع وخرجت بمانشيت مؤلم يقول "نستحلفكم
بالله ألا تبيعوا مصر" وكشفت عن أن عقد "الإستراتيجية الثقافية"
يشارك فيه نجل الوزير بربع مليون جنيه رغم أنه حديث التخرج من الجامعة!!.. وتناولت
تاريخ صناعة السينما التى أرسى قواعدها "طلعت حرب" منذ عام 1920, وأنه
كان حريصا على أن تقوم على أموال ومدخرات المصريين كما "بنك مصر"..
وانتشرت نار الفضيحة لتنذر بخطر.. خاصة وأن الدكتورة "نعمات أحمد فؤاد"
وكانت تكتب فى "الأهرام" نشرت مقالا سابقا حذرت فيه من أخطر عملية نصب
يباع بموجبها تراث مصر الخالد.. ووصفت الأمر بأنه عملية اغتصاب, وغزو أجنبى صريح
يشارك فيه "سماسرة"!! ونشرت "نعمات أحمد فؤاد" معلومات ووثائق
تؤكد أن اتفاقا وقعته قبل نهاية عام 1975 الهيئة المصرية للسياحة مع إحدى الشركات
المتعددة الجنسيات.. ويركز الاتفاق على أن تنفيذ الشركة مشروع ما يسمى "تطوير
هضبة الأهرام" بتكاليف تصل إلى 950 مليون دولار.. رغم أن رأسمال الشركة 3,4
مليون دولار فقط.. ويقضى الاتفاق بأن تستغل الشركة مساحة وقدرها أربعة آلاف فدان
فى هضبة الأهرام.. إضافة إلى ألف ومائة فدان فى منطقة "رأس الحكمة" على
البحر الأبيض المتوسط.. ويضم المشروع فيلات وفنادق وقرى سياحية ومطار خاص.. وذكرت
أن الجريمة شهدت رشاوى بالملايين لمسئولين كبار!!
الملف بأكمله تم التعتيم عليه, بعد التراجع عن التنفيذ.. لأن نقابة
المحامين عقدت ندوة موسعة شارك فيها أساتذة جامعات وصحفيين وكبار محامين.. وراح كل
منهم يكشف جانبا مما أسموه "فضيحة القرن" وانشغل الرأى العام بالقضية..
وتعددت الندوات واتسعت دائرة النشر داخل مصر وخارجها.. وأصبح الخوف شديدا من أن
يؤدى الموضوع إلى إشعال الجامعات.. عندما ذهب "السادات" إلى جامعة
الإسكندرية للقاء أعضاء هيئة التدريس.. خاطب غاضبا يوم 30 يناير 1977 المجلس
الأعلى للجامعات.. طالبهم بأن يخرجوا من صفوفهم "الشراذم" وكان يقصد
أمثال الدكتورة "نعمات أحمد فؤاد" وقال لهم: "أنتم تعرفونهم أكثر
منى.. عليكم أن تتحركوا لحماية أولادي من الطلاب"!! ودارت بعدها عجلة تواجه
أساتذة الجامعات لتطهيرها كما طلب الرئيس.. تولت الأجهزة الأمنية الملف من يومها!!
وبدأت عمليات شق صفوف الحركة الطلابية بنشاط شارك فيه الحزب الحاكم وقيادات ما
يسمى بالتيار الإسلامى الذى تم فتح الطريق أمامه, لقيادة الحركة الطلابية ونوادى
أعضاء هيئة التدريس.. وتم تطبيق المنهج فى عدد من النقابات المهنية.. كان الصراع
عبثيا.. ثم انقلب الرئيس على التيارات الإسلامية وجماعة "الإخوان" التى
اعتقد قادتها أنهم امتلكوا القدرة والقوة على مواجهة الرئيس الذى لعب بنارها!!
بدلا من تنفيذ تلك المشروعات لبيع العقل والثقافة والفكرة مرة
واحدة.. كان التراجع بخطوات للخلف.. ثم الشروع فى تنفيذها بطرق أخرى.. وكانت عبارة
عن عمليات كر وفر فى الكواليس, خلال سنوات حكم "حسنى مبارك" فيما بعد..
وتولى "صفوت الشريف" هندسة العملية بطرق أكثر دهاء وخطورة.. وشاركه فى
التنفيذ وزراء ثقافة ونواب برلمان.. ومازالت العملية مستمرة بعد أن تم إنجاز
معظمها.. حتى أصبحت مصر تقف حائرة وعاجزة عن فهم ما يحدث.. لأن أصل الحكاية تم
تجاوزه بطمسه والتعتيم عليه.. حدث ذلك باستخدام مفردات جديدة ذات معان ودلالات
غامضة.. فرفع الأسعار أصبح اسمه "تحريك الأسعار".. وأوامر الاعتقال تم
تدليلها لتصبح "قرارات تحفظ".. وسال لعاب كل من أغراه مهرجان
"النهب العام" فراح الباحثين عن فرص فى "مجتمع الأوف شور"
يبالغون فى تأييد الرئيس والحكومة.. رفعوا أصواتهم بتخوين أى رافض, إلى جانب تهميش
كل من يحاول أن يمضى على طريق "نادية لطفى" و"يوسف إدريس"
و"نعمات أحمد فؤاد".. وكل ما يحدث تحت دخان كثيف لحملات هدفها حرق
"زمن الخمسينات والستينات" والهجوم على "عبد الناصر".. فقد
تحول الهجوم إلى شهادة أمان يحتمى بها "رجال المال الجدد"..
يتبع
0 تعليقات