نصر القصاص
أصحاب الضمائر الوطنية يدفعون الثمن.. والانتهازيون يجنون الثمرة
غالبا!!
يقرأ التاريخ الذين يحترمون الحقائق.. ويتاجر به الباحثون عن مكسب
رخيص وبينهما الأغلبية الساحقة التى ترتبط بالوطن, وتعتقد أنه أمانة فى عنق القادة
والزعماء!!
الثابت أن "الحزب الوطنى المصرى" كان شعلة البحث عن
الاستقلال.. وكان البذرة الأولى فى أرض الديمقراطية.. وكان الحزب الذى حاربه
الاستعمار, واحترمه المؤرخون.. كما كان الحزب الذى ظلمناه لأننا لم نتوقف طويلا
أمام دوره, وحجم ما فعله من أجل تحرير مصر واسترداد مكانتها.. لكن اسم مؤسسه
"مصطفى كامل" وخليفته "محمد فريد" بقيا كزعيمين يستحقا تقدير
شعبنا والتاريخ.
صادف "الحزب الوطنى المصرى" أزمة بوفاة مؤسسه بعد أيام
من إعلان قيامه.. وواجه أزمات عنيفة.. لكنه صمد منذ لحظة ولادته, حتى قامت ثورة
"23 يوليو".. ثم تعرض الحزب للإساءة حين رفع "أنور السادات"
لافتته باسم "الحزب الوطنى الديمقراطى" وجعله "دار أمان"
لأسراب من المنافقين والانتهازيين.. هنا حدث الخلط بين "الحزب الوطنى
المصرى" وتاريخه الناصع, و"الحزب الوطنى الديمقراطى" الذى أحرقه
الشعب فى لحظة غضب عارم!!
بعد رحيل "مصطفى كامل" تأثرت جريدة "اللواء"
خاصة حين غادرها كبير محرريها "أحمد حلمى" الذى ذهب إلى إصدار جريدة
"القطر المصرى" وحقق نجاحا كبيرا.. هنا لجأ "محمد فريد" إلى
الشيخ "عبد العزيز جاويش" باعتباره من الذين كان يقدرهم "مصطفى
كامل" لشجاعته فى مهاجمة الاستعمار الانجليزى, ولصراحته التى تصل إلى حد
العنف.. طلب منه أن يترك وظيفته فى "وزارة المعارف" ويتفرغ لرئاسة تحرير
"اللواء" بعقد لمدة خمس سنوات.. تم الاتفاق على إبعاد "على
كامل" شقيق زعيم الحزب من إدارة صحف الحزب, التى تدهورت أحوالها فى ظل توليه
أمرها!!
كان الشيخ "عبد العزيز جاويش" يعرف من أين يبدأ!!
إستهل عمله كرئيس تحرير بمقال أكد فيه على أنه سيهب حياته وقلمه
لقضية تحرير مصر حتى تنال استقلالها.. ثم كتب أول سلسلة مقالات فى أيام 9 و10 و11
مايو عام 1908 هاجم فيها "سعد زغلول" وزير المعارف الذى أصبح وزيرا
للعدل!! إتهمه فى مقالاته بالصمت على جريمة الاستعمار الانجليزى فى قرية
"الكاملين" بالسودان.. أطلق على أحداثها "دنشواى السودانية"..
وفضح قيام الجيش الانجليزى بإعدام 70 فلاحا وسجن 30 آخرين.. إضطرت وزارة الحربية
إلى نشر بيان, ذكرت فيه أن الجيش الانجليزى لم يعدم سوى 12 فلاحا سودانيا!! وتم
الإعلان عن تقديمه للمحاكمة بتهمة التشهير بالوزارة ونشر أخبار كاذبة.
خطف الشيخ "عبد العزيز جاويش" الأنظار.. وارتفع توزيع
"اللواء"!!
تحولت محاكمته إلى حالة جماهيرية.. الشعب يتابع القضية, ويحيط
بالمحكمة بالمئات.. تبرع للدفاع عن صاحب القلم عدد كبير من المحامين.. صدر الحكم
ببراءة "عبد العزيز جاويش" لتشهد القاهرة مظاهرات وأفراح صاخبة.. رفع
أعضاء الحزب وفئات الشعب صوره.. رفعوه على الأعناق من باب المحكمة وصولا إلى
بيته.. إعتبروا حكم البراءة إنتصارا على الانجليز!
تربص الانجليز بالجريدة ورئيس تحريرها.
رفض الشيخ "عبد العزيز جاويش" رسالة التخويف الصادرة من
سلطة الاحتلال.. فنشر تقريرا كتبه "جورست" المندوب السامى البريطانى إلى
وزارة المستعمرات فى بلاده.. كان التقرير يحمل أرقاما حول نسبة الأقباط فى دواوين
الحكومة.. ونسبة تمثيلهم فى أجهزة الأمن, وخاصة الجيش رغم أنه لم يكن هناك جيش
بالمعنى الحقيقى.. تناول التقرير كاتب بجريدة "الوطن" إسمه "فؤاد
كامل" فى مقال, جاء فيه: "إن الاعتزاز بالقوة والاستهتار بالضعف, هما
الحجران اللذان بنى عليهما ما يسمونه مجد الإسلام"!! كتب الشيخ "عبد
العزيز جاويش" ردا عنيفا وقاسيا على الكاتب.. كادت تشتعل أزمة طائفية.. عقدت
اللجنة المركزية للحزب اجتماعا, وأصدرت بيانا استنكرت فيه محاولات تقسيم الأمة إلى
طوائف.
إلتف حول "الحزب الوطنى المصرى" الشباب وعدد كبير من
العمال.. تم استيعابهم فى مدارس ليلية فتحها الحزب.. راح ينظم تكوين جمعيات
استهلاكية ونقابات عمالية.. حققت هذه التنظيمات نجاحا غير مسبوق.. وصل عدد
النقابات عام 1911 إلى إحدى عشر نقابة, وانضم إليها أكثر من ستة آلاف عامل.. غير
الآلاف الذين نشروا وأشرفوا على الجمعيات الاستهلاكية.
تسبب مقال كتبه "عبد العزيز جاويش" يوم 4 يونيو 1908 فى
غضب "المندوب السامى البريطانى" حين ذكر فيه: "ها هو السيد جورست
يحاول أن يقدم لقومه قبل سفره إلى لندن ما يثبت مهارته.. حتى إذا حط الرحال هناك
قال لهم.. هآنذا نلت ما لم ينله سلفى – كرومر – ونجحت فيما فشل فيه أستاذى.. فقد
تمكنت عبر تقريرى من التفريق بين عنصرى الأمة.. نجحت فى طعن المسلمين بالأقباط,
والأقباط بالمسلمين.. لقد خلقت الفرقة التى حاول أن يصنعها اللورد"!!
مابين نجاح الجريدة وزيادة توزيعها.. ونجاح الحزب فى حركته بين
الناس.. وجد "جورست" وسلطات الاحتلال أن الأمور يمكن أن تتصاعد.. أدركوا
أن الغضب المكتوم يمكن أن ينفجر.. فهذا "الشيخ" عبر ما يكتب.. إضافة إلى
نشاط زعيم الحزب – محمد فريد – وتأثيره على الرأى العام, يمكن أن يتسببا فى غليان
ظهرت بوادره.. طلاب المدارس العليا – الجامعات – يتظاهرون بتحريض من جريدة
"اللواء" التى تبنت إضرابا لكلية الهندسة.. كما تبنت مظاهرة لطلبة كلية
الحقوق, رفضا لحضور الخديوى إستعراض عسكرى للجيش الانجليزى فى ميدان عابدين.. كذلك
أشعلت الجريدة مظاهرة ضخمة للطلاب إنطلقت من حدائق الأزبكية, إلى جريدة
"المؤيد" تندد بدفاعها عن الجيش الانجليزى.. وفى الوقت نفسه نظم خمسة
آلاف من طلاب الأزهر مظاهرة.. وكان عدد طلاب الأزهر وقتها 19 ألف.. إحتجاجا على
برنامج إصلاح المناهج الذى كان يتبناه الشيخ "حسونة النواوى".. أوعزت الحكومة
إلى المجلس الأعلى للأزهر بأن يتم فصل عدد من المتظاهرين.. أعلن
"الخديوى" عزل الشيخ "حسونة النواوى" وتعيين الشيخ "خليل
حمادة" شيخا للأزهر إعتقادا منه أن هذا سيؤدى إلى تهدئة الطلاب.. تولت
"اللواء" توضيح الحقائق ونشرت خبر تقديم الشيخ "حسونة
النواوى" لاستقالته إحتجاجا على فصل الطلاب المتظاهرين.. إنقلب الموقف وراح
طلاب المعاهد الدينية فى طنطا ودسوق ودمياط يتظاهرون ضد "الخديوى"
والاحتلال!!
كان لابد من تفجير الحزب والجريدة من الداخل!
تم اختلاق أزمة بين "على فهمى" وورثة "مصطفى
كامل" باعتبارهم حاملى أسهم الجريدة, وبين الحزب وزعيمه مع رئيس تحرير
الجريدة.. وعلى الجانب الآخر أرسل "جورست" إلى وزارة الخارجية
البريطانية يطلب إعادة العمل بقانون المطبوعات.. فالقانون يسمح بإقاف ومصادرة أى
صحيفة تنشر أخبارا كاذبة أو تسىء إلى الأخلاق أو الدين أو النظام العام!.. فكان رد
الشيخ "عبد العزيز جاويش" أن كتب مقالا هاجم تلك الخطوة.. جاء فيه:
"أيها القلم فلتكن كما يريدك البريطانيون والحكومة المصرية.. إما نائما أو
ميتا إلى الأبد.. لكن ستترك وراءك عيونا يقظة لا تنام.. وأيدى لا يمكن
تقييدها"!!.. فتجددت المظاهرات دعما وتأييدا للجريدة.
إدرك "أحمد حلمى" خطورة الأمر.. كتب مقالا فى جريدة
"القطر المصرى" ذكر فيه: "مجلس الوزراء عدد أعضائه تحصى على أصابع
اليد.. أما الشعب فهو بالملايين.. لذلك لا يمكن لبضع أفراد مصادرة حرية
أمة"!!.. هنا أعلنت كل من فرنسا والمانيا والولايات المتحدة الأمريكية عبر
سفاراتهم بالقاهرة, رفضهم إعادة هذا القانون وتطبيقه على رعاياهم.. كان لابد من
إسكات "عبد العزيز جاويش" فتمت ملاحقته بعدد من الدعاوى القضائية.. صدر
ضده حكم بالسجن ثلاثة أشهر.. فوجئت سلطات الاحتلال به يسلم نفسه لتنفيذ الحكم.. لم
يهرب خارج البلاد كما تمنوا وخططوا.. إحتج الطلاب.. تظاهر العمال دعما له.. تم
الإعلان عن اكتتاب لصناعة "وسام ذهبى" لتقديمه له عقب انتهاء فترة
سجنه.. وكان يوم خروجه فرحا شارك فيه الآلاف بشوارع العاصمة..
كانت "الآستانة" تعيش أياما صعبة.
الإمبراطورية العثمانية تترنح بفعل صراعات داخلية.
إنتهزت "بريطانيا" الفرصة.. طرحت مبادرة مد فترة امتياز
قناة السويس الذى ينتهى عام 1968.. إقترحت المد أربعين عاما أخرى تنتهى عام 2008..
على أن تحصل الحكومة المصرية على أربعة ملايين جنيه يتم سدادها على أربعة أقساط
اعتبارا من عام 1910.. قدموا نصا للاتفاق الجديد يرفع صافى ما تحصل عليه مصر من
أرباح إلى 12% إعتبارا من عام 1921, بعد أن كانت تحصل على 4% فقط!! وأن تحصل
اعتبارا من عام 1968 على نصف صافى الأرباح.. وأن يكون لها ثلاثة أعضاء فى مجلس
إدارة شركة قناة السويس.
يوم 9 فبراير عام 1910 إجتمعت الجمعية العمومية للشركة.
حضر "الخديوى عباس الثانى" الاجتماع, وقام خطيبا فى
الحضور ليوصى بالموافقة على اتفاقية مد امتياز قناة السويس.. تأهبت الحكومة لإعلان
موافقتها.. تسرب أن مجلس شورى القوانين الذى يرأسه الأمير "حسين كامل" –
السلطان فيما بعد – ينوى الموافقة على الاتفاقية.. أشعلت "اللواء" الرأى
العام رفضا.. واشتعل الحزب مقاوما.
تعجلت سلطات الاحتلال تنفيذ إجراءات الموافقة.. بدا أن المسألة لم
يبق فيها غير التوقيع على الاتفاقية.. هنا تقدم صيدلى شاب إسمه "إبراهيم ناصف
الوردانى" حاملا مسدسا.. أطلق النار على "بطرس باشا غالى" رئيس
الوزراء.. سقط مصابا.. فشلت محاولات إنقاذه.. فارق الحياة!!
تم القبض على "إبراهيم ناصف الوردانى".
رفض "الحزب الوطنى المصرى" إنكار عضويته فى صفوفه.. أوضح
أنه ترك الحزب من فترة وانضم إلى جمعية "التضامن الأخوى" السرية.. إعترف
القاتل بجريمته وقال أنه نفذها بمبادرة شخصية.. قال فى التحقيق معه أنه قتل
"خائنا" وقع مع الانجليز إتفاقية الحكم الثنائى فى السودان.. وصفه بأنه
فصل مصر عن السودان.. قال أنه ترأس "محكمة دنشواى" التى أعدمت أبرياء..
أضاف بأنه حاول توقيع اتفاقية مد امتياز قناة السويس.. ويحاول مصادرة حرية الشعب
والصحافة بقانون المطبوعات.
كتمت مصر أنفاسها وراحت تتابع محاكمة "الوردانى".
فشلت محاولات إنقاذه.. صدر الحكم بإعدامه.. إستقال "حسين
كامل" من رئاسة مجلس شورى القوانين خشية أن يلقى المصير نفسه.. أعلن أعضاء
المجلس رفضهم التصديق على الاتفاقية.. تم تنفيذ حكم الإعدام يوم 28 يونيو 1910..
أصبح "الحزب الوطنى المصرى" أعدى أعداء الانجليز..
يتبع
0 تعليقات