آخر الأخبار

الديمقراطية الفاسدة!! الاستقلال المستحيل (18)

 

 


 

نصر القفاص

 

وجدت "بريطانيا" وقوات الاحتلال نفسها أمام شعب يختلف تماما عن الشعب الذى استعمروه لعشرات السنوات.. فالشعب الصابر.. الصامت.. منذ عام 1882.. اختفى وظهر شعب رافض.. غاضب.. مستعد للتضحية بكل ما يملك للتخلص من استعباد استمر مئات السنين.. كان قد حدث شئ.. أدى إلى هذا التغيير الجذرى.

 

نضجت ثمرة نضال الحزب "الوطنى المصرى".

 

الديمقراطية الفاسدة!! دم وأفراح!! (17)

سكنت الشعب أرواح "مصطفى كامل" و"محمد فريد" و"عبد الله النديم" والشيخ "محمد عبده" ومعهم العشرات من الذين قاموا بالتنوير وإضاءة نفوس الناس بالوعى.. كانت ثمرة أفكار "قاسم أمين" قد نضجت.. عرف الشعب تفاصيل قضيته.. وجد زعيما يثق فيه – سعد زغلول – فخرج المارد من القمقم.. وشهدت مصر زمنا اختلف عما سبقه.. وعاشت تجربة جديدة عليها تماما.. مفيد أن نرصد إيجابياتها, وضرورى كما هو مهم أن نعرف سلبياتها.

 

فرضت "ثورة 1919" على بريطانيا أن تراجع أوراقها وسياساتها.

إذا كان "دوفرين" قد صاغ إستراتيجية الاحتلال واستمراره, واعتمد "منهج الكذب" لاستهلاك الزمن.. فقد أصبحت تلك اللعبة مكشوفة.. وجدوا أنه من الضروري صياغة إستراتيجية جديدة لاستمرار الاحتلال.. من هنا ظهر اسم "ملنر" الذى تولى هذه المهمة.

 

لكي نفهم مهمة "ملنر" واستراتيجيته.. يجب أن ندقق فى التفاصيل!!

عجز "محمد سعيد" عن تشكيل الوزارة الجديدة, خشية أن يؤدى إعلانها إلى إعادة اشتعال حريق الثورة من جديد.. اختفى "السلطان فؤاد" من المشهد.. لعب "اللنبى" كل الأدوار!! أعطى لنفسه سلطة مجلس الوزراء بتأدية عمل الوزارة.. قام بتعيين عدد من وكلاء الوزارات واختارهم من الانجليز.. خاصة فى وزارة المالية.. قرر استحداث وزارة جديدة للمواصلات وعين قائما بأعمالها – سير جورج ماكولى – أصدر تعليمات للبوليس وقواته بتوقيف كل من يشتبهون فيه واعتقاله.. فرض رقابة خانقة وصارمة على الصحف.. أكد على أن المواجهة مع المظاهرات ستكون قاسية وشديدة.. أدى ذلك إلى مظاهرة ضخمة انطلقت يوم الجمعة الموافق 2 مايو.. شهد اليوم توزيع منشورات تحذر من لجنة تحقيق عينتها الحكومة البريطانية بقيادة "ملنر".. نشرت الصحف التفاصيل يوم 3 مايو.. أصدرت "دار الحماية" البريطانية بيانا رسميا كذبت فيه أن هناك لجنة تحقيق يتولاها "ملنر"!!

 

طوال هذه الفترة استمر إضراب طلبة المدارس.

 

صدرت تعليمات وإنذارات وتهديدات بفصل الطلاب الذين لا يعودون إلى مدارسهم.. تجاهل الطلبة كل ذلك.. نشر "اللنبى" بيانا فى الصحف يوم 3 مايو, على أنه صادر عن رئاسة مجلس الوزراء.. كان يحمل قراره بتعطيل وزارات الحكومة وكافة المصالح فى أنحاء مصر يوم 6 مايو 1919.. باعتباره "عيد جلوس جلالة ملك بريطانيا"!! كان الرد مظاهرات عارمة انطلقت إلى الأزهر.. رد "اللنبى" بإعلان إغلاق المدارس وتعطيل الدراسة حتى موعد استئنافها فى عام دراسى جديد – ألغى سنة دراسية – ثم أصدر قرارا بمنع أية اجتماعات تضم أكثر من خمسة أشخاص.. وذكر القرار أن ذلك يسرى على المقاهى والمطاعم والملاهى!!

 

وأضاف أنه سيتم اعتقال كل من يلقى خطبة فى أى عدد من الناس بأى مكان!! ثم أصدر يوم 18 مايو أمرا بمقتضى الأحكام العرفية يحظر جمع أموال أو اكتتاب, ليمنع أى محاولة شعبية لتمويل "الوفد المصرى".

 

كان "اللورد كيرزون" وزير الخارجية يلقى بيانا مطولا أمام مجلس العموم البريطانى يوم 15 مايو ردا على سؤال حول ما أسموه "المسألة المصرية"!!

 

نشرت الصحف يوم 21 مايو تفاصيل ما جاء فى البيان نقلا عن وكالة "رويترز".. وتضمن بيان "كيرزون" أن الأحوال تحسنت فى مصر, وأصبحت تبعث على الرضا والارتياح.. وقال فى بيانه: "مازال الأزهر مركزا للتحريض.. وقد لعب الطلبة أكبر دور فى التحريض على المشاغبات.. وفيما يتعلق بما حدث فى بعض المديريات, لعلكم قرأتم بهلع وسخط عن قتل عدد من الجنود والضباط فى عمل ينطوى على الجبن وهم عائدون فى اكسبريس الوجه القبلى من الأقصر"!!

 

رئيس وزراء بريطانيا يخطر "برلمان" بلاده بأن قتل عدد من جنود وضباط الاحتلال عمل جبان.. ويتجاهل تماما سقوط مئات الشهداء وحرق القرى واغتصاب النساء.. بل يقول فى بيانه لأعضاء مجلس العموم عما حدث فى مصر: "لقد بذلوا – يقصد رجال الوفد – مساعى لخلق صورة تمثل أن جنودنا ارتكبوا أعمالا تنطوى على القسوة والتوحش.. ومثل هذه الاتهامات هى الكيفية الطبيعية التى يتخذها الوطنيون فى بث ونشر دعوتهم, وهى بعيدة كل البعد عن الحقيقة.. فقد أظهر الجنود جلدا وصبرا نشكرهم عليه.. خاصة عندما قتل الرعاع جنودا بريطانيين"!!

 

كان "اللورد كيرزون" يكذب.. ويمارس "تجويد الكذب" كمنهج!!

 

وعرض فى بيانه أنه تم السماح "للوفد المصرى" بالسفر إلى "باريس" ورغم ما توفر لهم من أموال واكتتاب من الشعب لم يحققوا نتائج.. ثم أعلن: "لقد اعترف الرئيس ويلسون بالحماية البريطانية على مصر.. كذلك اعترفت فرنسا وروسيا"!! وراح يسخر بعد ذلك من الثورة حين قال: "ماذا جنوا من الاضطرابات فى مصر, وما صحبها من خسائر فى الأرواح والممتلكات العامة؟!

 

فإذا كان الغرض من هذه الاضطرابات وضع حد لعلاقة البريطانيين مع مصر والحصول على الاستقلال.. فقد انتهوا إلى الفشل.. ويمكننى أن أؤكد على أن حكومة جلالة الملك لا تنوى مطلقا أن تتخلى عن القيود والتبعات التى تحملتها عندما وضعت مهمة حكم مصر على عاتقها"!!

 

المعنى بوضوح.. لا استقلال لمصر!!

 

قال الحقيقة.. نحن نحكم مصر ولن نتركها!!

 

تحدث بعد ذلك عن "الوفد" وزعيمه "سعد زغلول" فقال: "كنا على استعداد تام لسماع أقوال سعد باشا وزملائه, لو لم يبدأوا أعمالهم بطلب انسحابنا التام من البلاد.. وهذا أمر مستحيل, لا يصلح أن يكون قاعدة لبحث معقول.. وحكومة جلالة الملك آخر من يقول بعدم وجود أمانى حقة للمصريين أو شكاوى.. وسنعطيهم الترضية المناسبة شرط عدم المغالاة فيما يطلبون"!!

 

كان الاستعمار الانجليزى شديد الوقاحة!!

 

حكومة بريطانيا تستنكر حق مصر فى الاستقلال!!

 

ثم ذهب فى بيانه إلى ما تقرر, وقال: "كانت حكومة جلالة الملك تنوى انتداب لجنة عظيمة إلى مصر بعد انتهاء الحرب ومفاوضات الصلح.. أملا فى أن تحدد هذه اللجنة صفة الحماية الجديدة, وتعرض رأيها بإدارة البلاد فى المستقبل.. لذلك ترى حكومة جلالة الملك أن تقترح انتداب لجنة خاصة عرضت رئاستها على اللورد ملنر للتحقيق فى أسباب الاضطرابات الأخيرة فى مصر.. وللبحث فى الحالة الحاضرة وفى شكل النظام الدستورى الذى يعود على مصر بالسلام واليسر والنجاح والتقدم, فى سبيل الحكم الذاتى وحماية المصالح الأجنبية فى ظل الحماية.. وستعمل اللجنة بعلم المندوب السامى وموافقته"!!

 

هل نحتاج إلى دلائل وبراهين أكثر على أن "الكذب" عندهم "منهج وعقيدة"!!

 

هل نحتاج إلى أكثر من وثائقهم.. لنعلم أنهم ما كانوا يتركون مصر دون "ثورة 23 يوليو"!!

 

تلك مقتطفات من بيان "لورد كيرزون" رئيس وزراء بريطانيا أمام مجلس العموم البريطانى.. وكلامه لا يختلف إطلاقا عن الذين سبقوه عندما احتلوا مصر عام 1882.. فهذا هو "الشرف البريطانى" الذى يقسمون به ويباهون به الأمم.. دون داع للحديث عن مؤامرة حتى لا يغضب "خدم الملكية والاستعمار" وأبواقهم التى تولى أمرها, ما يسمون "رجال الأعمال"!!

 

أنهى "لورد كيرزون" بيانه بقوله: "أعتقد عن صدق – لاحظ كلمة صدق – بأن نتيجة أعمال لجنة ملنر ستكون إزالة سوء التفاهم.. وسنثبت الحماية البريطانية على مصر, على قواعد توجب رضا الدولة الحامية وسكان البلاد على نسبة واحدة"!!

 

قرأ الشعب المصرى تصريحات وزير خارجية بريطانيا.. وحملت صحف الصباح نفس الرسائل المتبادلة بين "السلطان" و"رئيس الوزراء" الجديد, مع إعلانه تشكيل الوزارة.. لكى يتولى "محمد سعيد" رئاستها مع وزارة الداخلية.. وتولى "إسماعيل سرى" وزارة الأشغال والحربية والبحرية – أصبح رئيس وزراء فيما بعد – و"يوسف وهبة" وزيرا للمالية – رئيس وزراء فيما بعد – و"أحمد ذو الفقار" وزيرا للحقانية – العدل – و"عبد الرحيم صبرى" وزيرا للزراعة – تزوج السلطان ابنته نازلى فيما بعد – و"أحمد زيوار" وزيرا للمعارف – رئيس وزراء فيما بعد – و"توفيق نسيم" وزيرا للأوقاف – رئيس وزراء فيما بعد – كانت خريطة الالتفاف على الثورة تتشكل!!

 

رجال الاستعمار يتم تمكينهم ليتبادلوا لعب أدوار البطولة فى الزمن "الليبرالى" وخلال أزهى عصور "الديمقراطية" التى عاشتها مصر بعد "ثورة 1919"!!

 

ضرورى أن نلفت النظر إلى أن ما حدث جرت وقائعه فى زمن يختلف عن زمننا.. فإذا كان "أحمد عرابى" قد طلب "الدستور" و"مجلس نيابى" و"تسليح الجيش" ليكون الرد بالاحتلال.. فإن "مصطفى كامل" و"محمد فريد" عندما طلب "الاستقلال التام أو الموت الزؤام" جعلوهم "متمردين" وطاردوا كل من سار على دربهم.. ولحظة أن انفجر الشعب فى ثورته, علق الأمانة فى رقبة "سعد زغلول" ومعه رجال "الوفد" الذين اجتهدوا وحاولوا قدر استطاعتهم.. وكان لرؤيتهم "منهج" راهنوا عليه.. ستتكشف ملامح هذا المنهج, من معرفة ما حدث فى "باريس" والاطلاع على تفاصيل أخرى تضعك على أرض تقييم موضوعى.. دون التفات إلى "جامعى أعقاب السجائر" من المتطفلين على التاريخ.. والذين يمرحون بجهلهم النشيط لتزوير التاريخ!! لكل ذلك نترك الصورة فى مصر.. نضع ما تم إعلانه فى "بريطانيا" خلف ظهورنا مؤقتا.. ونذهب إلى "باريس" لنتابع ما حدث هناك..

 

 يتبع

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات