د. وسام الدين محمد
السابع من رجب 1443ه
الثامن من فبراير 2022م
صورة الإسلام المتخيلة في لا وعي فرنسا
«الملك مرسيل – ملك المسلمين – الذي يكره الرب، هزمناه
هذا الذي يخدم محمد ويصلي لأبوللو»
أبيات من أغنية رولان
في عام 732م، وعلى بعد مائتي كيلومتر من باريس، واجه الفرنجة تحدي
مصيري، في صورة جيش المسلمين الزاحف على فرنسا.
وفي هذه المعركة التي سوف يعرفها التاريخ الإسلامي باسم موقعة بلاط
الشهداء ويعرفها التاريخ الفرنسي باسم معركة تور- بواتييه، كان انتصار المسلمين
كفيلًا بأن يذهب بدولة برابرة الفرنجة، كما عصف انتصار المسلمين قبل ذلك بنحو
عشرين عامًا في معركة وادي لكه بدولة برابرة القوط الغربيين. ولكن المسلمين لم
ينتصروا هذه المرة، ولا عجب أن يعتبر الفرنجة إذ انتصروا على المسلمين في هذه
المعركة أن انتصارهم معجزة إلهية كما عبر مؤرخيهم فيما بعد.
بعد نحو نصف قرن، حاول شارلمان ملك الفرنجة، الزحف على الأندلس
منتهزًا فرصة الخلاف بين مسلمي الأندلس، لإنهاء تهديد الإسلام العسكري والسياسي
لدولته، وانتهت مغامرته بالفشل أمام أسوار سرقسطة، وأثناء انسحابه المخزي من الأندلس
أقدم على نهب مدينة بنبلونه المسيحية لتعويض خسائره، مما اضطر الباسك المسيحيين
إلى محاربته في واقعة ممر رونسيفو عام778م حيث أنزلوا به الهزيمة، لينتهي بذلك
تهديد شارلمان للأندلس.
على الرغم أن التهديد العسكري الإسلامي لدولة الفرنجة قد انحصر بعد
هذه الفترة، إلا أن هناك تهديدًا أخطر راح يمثله الإسلام بصورة مستمرة على دولة
الفرنجة، فبينما كان النبلاء الفرنجة قد حولوا السكان الأصليين للبلاد التي فتحوها
إلى عبيد أقنان بلا أدنى حقوق، تطلع هؤلاء بغيرة ودهشة إلى إخوانهم من سكان
الأندلس المسيحيين، والذين يحظون تحت الحكم الإسلامي بحريتهم وكامل حقوقهم
باستثناء الخدمة العسكرية ويدفعون جزية مقررة ومحددة وثابتة؛ وربما تحدثوا بإعجاب
وهم مجتمعين في ليالي الشتاء حول نيران المواقد في الضيعة، عن أقرانهم في الأندلس
الذين ارتقوا أرقى المناصب في المجتمع المسلم، مثل ريكموند، الذي يسميه العرب ربيع
بن سيد الأسقف، وأبو عمر بن كانديسالفوس، وكلاهما بلغا مرتبة الوزارة في الأندلس،
وهم في ذلك يرتقون بحكم مواهبهم وكفاءتهم، لا بحكم دينهم وأصلهم العرقي؛ أما
اليهود الفرنسيين والذين تعرضوا للاضطهاد كما في كل البلدان التي تدين
بالكاثوليكية، فكانوا اشد تطلعًا للمسلمين وحكمهم في الأندلس، وهم يرون يهودي مثل
حسيداي ابن شبروط يصبح وزيرًا ونديمًا لعبد الرحمن الثالث، ويتنعم إخوانهم بجميع
حرياتهم وأولها حقهم في ممارسة دينهم، وهي الجريمة التي كانت عقوبتها القتل تحت
حكم الفرنجة ثم أصبحت الحرق.
ومن المؤكد أن من بين العبيد الأقنان واليهود المضطهدون في فرنسا،
من كان من الذكاء والشجاعة أن يقارن ما بين حكم الفرنجة وحكم المسلمين في الأندلس،
وهي مقارنة ما كانت لتكون بأي حال من الأحوال في صالح الفرنجة؛ بل لعل الفرنجة
أنفسهم لم ينسوا كيف أن مظالم ارستقراطية القوط الغربيين العسكرية للسكان الأندلس
الأقدم ولليهود كانت الدافع لأن يطلب هؤلاء من المسلمين غزو الأندلس كما نقلت كتب
التاريخ. كما أن البابا، وقد خسر حليف قوي تمثل في دولة القوط الغربيين التي
ازالها المسلمين، والتي اعتنقت الكاثوليكية منذ وقت قريب واضطهدت أعداء البابا من
أتباع آريوس ومن اليهود، فكان ينظر بقلق للمسلمين الذين أحدقوا بعرشه في روما وقد
ملكوا صقلية والأندلس ورست مراكبهم على شواطئ ايطاليا نفسه، ومن المؤكد أنه قد
انزعج وهو يشهد تحول الكثير من أهل الأندلس المسيحيين واليهود إلى الإسلام.
فإذا كان التهديد العسكري الإسلامي قد تم تحييده، فإن تهديد المثال
الذي يقدمه الحكم الإسلامي للأندلس للمستضعفين تحت حكم الفرنجة والبابا، أكثر
خطرًا على استقرار حكم الفرنجة واستعلاءهم في الأراضي التي فتحوها، كما كان خطرًا
على استمرار هيمنة البابا وكنيسته؛ وهذه ليست نتيجة أخلص لها، ولكنها حقيقة حفظها
التاريخ ووثقها، وانظر معي إلى كتاب الراهب بطرس المبجل المسمى (ضد هرطقات
السراسنة Contra
sectam sive haeresim Saracenorum) – والسراسنة الاسم الذي استخدمه برابرة أوروبا للمسلمين – والذي
الفه في القرن الثاني عشر الميلادي بعدما زار الأندلس وظل فترة بين المسلمين، إذ
يخلص في كتابه إلى أن تهديد الإسلام كدين وثقافة وحضارة أكبر من تهديده العسكري،
وربط بين أهم الحركات الفوضوية المسيحية في جنوب فرنسا في زمانه، حركة
البتروبريوسيانيين، واعتبر أن هذه الحركة استلهمت أفكارها من المسلمين، وهو رأي
يتبناه اليوم مؤرخ الفوضوية المسيحية المعاصر آلكسندر كريستيانوبولس، كما اعتبر
المؤرخ المعاصر أليا جونج فيل في كتابه The rise of the Global South تلك الحركة سلف حركات الإصلاح الديني. إذًا
تلك الشهادة التي وثقها بطرس المبجل في كتابه دليل على مدى رعب الذي أصاب الفرنجة
والكنيسة من المثال الذي ضربه مسلمي الأندلس لرعاياهم، وقوة تأثير المسلمين الفكر
المسيحي في فرنسا في هذا الوقت.
بقي أن نعرف أن بطرس الراهب ترجم القرآن إلى اللاتينية، وظلت
ترجمته وكتبه عن المسلمين المرجع الأساسي لطائفة الرهبان البندكتيين، الذين لعبو
الدور الأساسي في حرب البابا ضد ناقديه من المسيحيين أنفسهم، وقادوا محاكم التفتيش
الرهيبة التي ألقت الرعب في نفوس المسيحيين واليهود في أوروبا، ولاحقًا في قلوب
المسلمين الأندلسيين بعد سقوط الأندلس.
وفي سبيل مواجهة تهديد المثال الإسلامي، عمد الفرنجة والكنيس إلى
شن حرب دعائية على المسلمين، بغرض خلق حاجز من الرعب بين رعاياهم والإسلام، يحول
بين رعاياهم والاقتراب بأي شكل من الإسلام أو المسلمين، واستخدموا في حربهم هذه
الطرق المتاحة في زمانهم، قس القداس والمغني الجوال.
يتتبع المؤرخ الأمريكي المعاصر بنيامين برتراند في كتابه المعنون
(المسلمون الوحوش Monstrous
Muslims)،
صورة المسلم كما كان يتم ترويجها في فرنسا ما بين القرن العاشر والثاني عشر
الميلادي، من خلال الوثائق التاريخية والكنسية المحفوظة من هذه الفترة، حيث كان
القساوسة في الأبرشيات الريفية يروجون بين العبيد الأقنان أن المسلمين شعوب من
المتوحشين داكني البشرة كريهي الرائحة، آكلي لحوم البشر، والذين يغزون أراضي
المسيحيين بسبب حبهم لتناول لحم الأطفال المسيحيين، ورغبتهم المتوحشة في اغتصاب
المسيحيات، وإن ما يحركهم هو دين اخترعه قس مسيحي مهرطق اسمه محمد – يعنون النبي
صلاة الله عليه وسلامه - فر إلى الجزيرة العربية حيث نشر دعوته، ويعمل أتباعه من
المسلمين على تحقيق برنامجه وغرضه تدمير الكنيسة والقضاء على جميع المسيحيين؛ وعمل
هؤلاء القساوسة على تشويه صورة الإسلام نفسه، فهو دين وثني، حيث يعبد المسلم ثلاثة
آلهة، أحدهما النبي محمد نفسه، والآخرين شيطان يسمى ترفاجانت والمعبود اليوناني
القديم أبوللو! يتقرب لهم بسب السيد المسيح.!!!
كانت عظة القداس التي تبدأ بتشويه المسلمين تنتهي دائمًا بالتأكيد
على أن الطريق الوحيد للنجاة من المسلمين هو إتباع تعاليم الكنيسة التي تنوب عن
الرب في الأرض والخضوع للنبيل الفرنجة الذي يقاتل المسلمين نيابة عن المسيح.
ويلاحظ برتراند، أن هناك التركيز على تشويه المسلمين كان يزيد عندما كانت تثور في
الأرجاء اضطرابات اجتماعية أو فوضوية مسيحية، وعندما يدعو البابا إلى حرب صليبية،
وهو ما يؤكد أن تشويه المسلمين والإسلام بهذه الطريقة، كان ممنهجًا ومقصودًا في
إطار خطة لمواجهة الإسلام.
لعب المغني الجوال أو التروفير Trouvere دورًا لا يقل خطورة عن القس في الحرب
الدعائية المعلنة على الإسلام والمسلمين، وكان المغنون الجوالون هم طريقة الترفيه
الوحيدة في العصور الوسطى، حيث كانوا يتجولون في الأرياف ويقوموا بإنشاء أغانيهم
في الأسواق وساحات البلدات وبلاطات النبلاء، وقد أعاد هؤلاء إنتاج الوقائع
التاريخية على نحو يجعل نبلاء الفرنجة والكنيسة ابطالًا وشهداء، بينما يصف
المسلمين بأحط الصفات، فواقعة نهب بنبلونة المدينة المسيحية على يد جيش شارلمان،
وما تبعها من هزيمة مذلة لشارلمان على يد الباسك، تحولت في القصيدة الملحمية
الطويلة المسماة (أغنية رولان
لقرون طويلة، تعرض الأقنان لعملية غسيل مخ ممنهج من قبل
الارستقراطية الحاكمة في فرنسا والكنيسة الكاثوليكية، والغرض منها إنشاء حاجز عال
بين مستضعفي فرنسا والإسلام، حتى انغرست هذه الصورة المشوهة عن الإسلام في ثقافة
الفرنسيين ولا وعيهم الجمعي، واليوم عندما يقوم سياسي فاشي بالتحريض على الإسلام
بين الفرنسيين، فإنه في الواقع يقوم ما هو كامن في ثقافتهم من خوف من المسلمين
وكراهية للإسلام استغرق زرعها في هذه الثقافة أجيال طويلة، ولذلك فإن دعوى
الاسلامفوبيا تلقى قبولًا واسعًا بين الفرنسيين مواطنين وهيئات، بسبب جذورها
التاريخية في ثقافتهم، ويزيد من خوف الفرنسيين من المسلمين والإسلام إصرار غالبية
المسلمين الفرنسيين على الانعزال عن المجتمع الفرنسي، مما يجعلهم أقلية غامضة يمكن
أن يصدق الناس كل ما يدور حولها من شائعات.
(ملحوظة: الصورة الملحقة للإمبراطور شارلمان تخيلها الفنان
الألماني ألبرشت دورير في القرن الخامس عشر بناء على ما بقي من تماثيل ومصورات
صنعت لشارلمان في حياته، وفي الصورة يضع شارلمان تاج الإمبراطورية الرومانية فوق
رأسه، ويحمل السيف في يد والصليب في اليد الأخرى)
[يتبع]
0 تعليقات