نحن لن نستسلم .. ننتصر أو نموت " عمر المختار".
كانت عيون ايطاليا تترصد حركة عمر المختار في عودته من رحلته من
مصر الى برقة ولكنها فشلت في اللقاء به قبل أن يصل إلى رفاقه وما كاد يصل الى بئر
الغبي حتى فؤجئ بعدد من المصفحات الايطالية و هناك دارت بينهم وقعة عرفت بمعركة
بئر الغبي..
أحداث المعركة كما رواها عمر المختار بنفسه:
(كنا لانتجاوز الخمسين شخصاً من المشايخ والعساكر وبينما تجمع
هؤلاء حولنا لسؤالنا عن صحة سمو الأمير، وكنا صائمين رمضان وإذا بسبعة سيارات
ايطالية قادمة صوبنا فشعرنا بالقلق لأن مجيئها كان محل استغرابنا ومفاجأة لم
نتوقعها، وكنا لم نسمع عن هجوم الطليان على المعسكرات السنوسية، واحتلالهم
اجدابية،...
فأخذنا نستعد في هدوء والسيارات تدنوا منا في سير بطيء فأراد علي
باشا العبيدي أن يطلق الرصاص من بندقيته ولكنني منعته قائلاً : لابد أن نتحقق
قبلاً من الغرض ونعرف شيئاً عن مجيء هذه السيارات كي لانكون البادئين بمثل هذه
الحوادث....
وبينما نحن في أخذ ورد وإذا بالسيارات تفترق في خطة منظمة المراد
منها تطويقنا، وشاهدنا المدافع الرشاشة مصوبة نحونا فلم يبق هنا أي شك فيما يراد
بنا فأمطرناهم وابلاً من رصاص بنادقنا، وإذا بالسيارات قد ولت الأدبار الى منتجع
قريب منا وعادت بسرعة تحمل صوفا، (*1)..
ولما دنت منا توزعت توزيعاً محكماً وأخذ الجنود ينزلون ويضعون
الأصواف (الخام) أمامهم ليتحصنوا بها من رصاصنا( ) وبادرنا بطلق الأعيرة فأخذ علي
باشا يولع سيجارة وقلت له رمضان ياعلي باشا منبهاً إياه للصوم فأجابني قائلاً: مو
يوم صيام المنشرزام ...(*2).
وفي أسرع مدة انجلت المعركة عن خسارة الطليان وأخذت النار تلتهم
السيارات إلا واحدة فرت راجعة، وغنمنا جميع ماكان معهم من الأسلحة) ......(*3).
ثم استمر المجاهدون في سيرهم حتى بلغوا الجبل الأخضر ووصلوا الى
زاوية القطوفية (مكان معسكر المغاربة) وقابلهم صالح الاطيوش والفضيل المهشهش، ووقف
عمر المختار على تفاصيل معركة البريقة وحال المجاهدين ثم واصل سيره الى جالو مقر
السيد محمد الرضا ليبلغ التعليمات التي أخذها من سمو الأمير.
وبعد أن تم اللقاء بين عمر المختار والسيد الرضا اتفقا على تنظيم
حركة الجهاد وإنشاء المعسكرات في الجبل الأخضر واقترح عمر المختار على الرضا أن
يرسل ابنه الصديق الى معسكر المغاربة عند صالح الاطيوش ومعسكر العواقير بقيادة قجة
عبدالله السوداني، وهي معسكرات قريبة من بعضها .
ثم غادر عمر جالو الى الجبل الأخضر وشرع في تشكيل المعسكرات
للمجاهدين ، وأنشئت معسكرات البراعصة والعبيد والحاسة، فاختار الرضا حسين الجويفي
البرعصي لقيادة البراعصة، ويوسف بورحيل المسماري لمعسكر البراغيث والفضيل بوعمر
لمعسكر الحاسة وأصبح عمر المختار القائد الأعلى لتلك المعسكرات.
وبدأ الجهاد الشاق والطويل واستمر متصلاً ومن غير هوداة حوالي
ثمانية أعوام.
وكانت عامي 1924م، 1925م قد شاهدت مناوشات عدة ومعارك دامية، ووسع
المجاهدون نشاطهم العسكري في الجبل الأخضر ولمع اسم عمر المختار كقائد بارع يتقن أساليب
الكر والفر ويتمتع بنفوذ عظيم بين القبائل..
وأخذ العرب من أبناء القبائل ينضمون الى صفوف المجاهدين وبادرت
القبائل بإمداد المجاهدين بما يحتاجون من مؤن وعتاد وأسلحة، وكان لقبائل العبيد،
والبراعصة، والحاسة والدرسة والعواقير وأولاد الشيخ والعوامة، والشهيبات والمنفا
والمسامير أكبر نصيب في حركة الجهاد.
كان معسكر البراغيث هو مركز الرياسة العامة ومقر القائد العام عمر
المختار : وهو النواة الأولى وحجر الأساس لمعسكرات الجبل الأخضر الثلاثة وكان عمر
المختار يلقب بنائب الوكيل العام، وكان السيد يوسف بورحيل يعرف بوكيل النائب ...
وهكذا فقد نظم الجهاز الحكومي في هذه المنطقة الواسعة بتشكيل
المحاكم الشرعية والصلحية وإدارة المالية (المحاسبة، والأرزاق وجباية الزكاة
الشرعية والخمس من الغنائم) ..
واستمر التعاون بين هذه المعسكرات الثلاثة وفروعها في السراء
والضراء وأخذت تقوم بحركات عظيمة ضد العدو وشن الغرة عليه في معاقله؛ كما كانت
تتصدى لزحفه عليها، فتهجم حيناً ، وتنسحب حيناً آخر حسب ظروف الحرب...... ..(*4).
أصبح تفكير إيطاليا محصوراً في برقة التي لم يتمكن الطليان منذ
زحفهم على اجدابية سنة 1923م من احتلال مواقع تذكر عدا مدينة اجدابية ولذلك اهتمت
ايطاليا ببرقة وانحصرت مجهوداتها في الفترة الواقعة بين سنة 1923م وبين 1927م على
معسكرات عمر المختار الذي لم يخرج يوماً من معركة إلا ليدخل في معركة أخرى.
وفي عام 1927م وقع الوكيل العام السيد رضا المهدي السنوسي في الأسر
بطريق الخديعة والخيانة والغدر وسقطت مناطق برقة الحمراء والبيضاء تدريجياً.
كانت قيادة الجيش الايطالي في برقة قد بدلت وتولى أمرها
الجنرال(ميزتي) لتنفيذ الخطة الجديدة التي تستهدف ضرب الحصار على حركة الجهاد في
الجبل الأخضر كما استبدل والي بنغازي الايطالي (مومبيلي) بخلفه الجنرال (تيروتس)
وهو من زعماء الحزب الفاشيستي ..
وزود تيروتس الجنرال ميزتي بعدد كبير من الجنرالات وكبار الضباط
وأركان الحرب لمساعدته ...
وفي نفس السنة تقدمت القوات الايطالية من طرابلس بقيادة الجنرال
غرسياني فاحتلت واحة الجفرة والقسم الأكبر من فزان واشتبكت قبائل المغاربة بزعامة
صالح الاطيوش وقبائل أولاد سليمان بزعامة عبد الجليل سيف النصر، ودور حمد بك سيف
النصر،
اشترك معهم بعض اللاجئين الى تلك الجهات من قبائل العواقير بزعامتي
عبدالسلام باشا الكزة، والشيخ سليمان رقرق، ودخلت هذه القبائل في معارك بجهات
الخشة وكان الغلبة فيها للجيش الايطالي الزاحف فالتجأ المجاهدون الى منطقة الهاروج
من الصحراء ...
ومن هناك اشتركوا مع العدو في معارك عنيفة منها معركة الهاروج،
ومعركة جبل السوداء، ومعركة قارة عافية وكان من بين من حضروا هذه المعركة الأخيرة
السيد محمود بوقويطين أمير اللواء وقائد عام قوة دفاع برقة في زمن المملكة الليبية
المتحدة، والسيد السنوسي الأشهب..(*5)
كانت القيادة الايطالية حريصة على الاستيلاء على فزان فخرجت في
اواخر يناير 1928م قوتان .. احدهما من غدامس والأخرى من الجبل الأخضر، وكان الجيش
بقيادة غراسياني....
والتحم المجاهدون مع ذلك الجيش في معركة دامية استمرت خمسة أيام
بتمامها، انهزم فيها الطليان شر هزيمة فتقهقروا تاركين مالديهم من مؤن وذخائر ثم
مالبث أن خرجت قوة أخرى قصدت فزان مباشرة، فعلم المجاهدون بأمرها بعد خروجها بثلاث
أيام وانسحبوا الى الداخل،...
وانتظروا حتى اذا وصل هذا الجيش الجديد الى مكان يقع بين جبلين
يعرفان بالجبال السود انقض المجاهدون على الطليان وأرغموهم على التقهقر، فعمل قواد
الحملة الى الفرار بسياراتهم تاركين وراءهم الجيش ، الذي وقع أكثره في قبضة
المجاهدين، فاستأصلوهم عن آخرهم، ...
وعندئذ لم يجد الطليان مناصا من أن يجددوا محاولتهم ، فخرجت هذه
المرة قوات عظيمة من جهات متعددة غير أن الطليان ما لبثوا ان انهزموا في هذه
المعارك وتركوا وراءهم غنائم وأسلابا كثيرة .....(*6)
وجدد الطليان المسعى وخرجوا من الجفرة في 30 فبراير 1928م بجيش
كبير وزحفوا على زله واحتلوها في 22 فبراير وواصلت القوات الايطالية سيرها واحتلت
آبار تقرفت في 25 فبراير ....
واستمرت العمليات وانتهت باحتلال مراده، وأصبحت زلة وجالو، واوجله
ومراده تحت سيطرتهم، ومما ساعد الطليان على احتلالهم لتلك الواحات سقوط الجغبوب
قبل ذلك في أيديهم، وسياستهم الرامية لتفتيت الصف بواسطة بعض عملائهم وكان الطليان
يبذلون الأموال والوعود لزعماء القبائل، لوقف القتال وقد نجحوا في ذلك نجاحاً
كبيراً.
كان احتلال الجغبوب ، جالو، اوجلو، وفزان وغيرها من الواحات قد جعل
عمر المختار في عزلة تامة في الجبل الأخضر ومع هذا ظل عمر المختار يشن الغارات على
درنة وماحولها حتى أرغم الطليان على الخروج بجيوشهم لمقابلته ،...
فاشتبك معهم في معركة شديدة استمرت يومين كان النصر فيها حليفه
وفرّ الطليان تاركين عدداً من السيارات والمدافع الجبلية وصناديق الذخيرة والجمال،
ودواب النقل...(*7).
وكانت القبائل تتعاون مع قائد حركة الجهاد تمده بالرجال، والمؤن
والمعلومات وعلى سبيل المثال كان حامد عبدالقادر المبروك من شيوخ قبيلة المسامير
يمد المختار بالمعلومات المهمة دون تأخر، ويشارك في عمليات الجهاد مع أبناء قبيلته
بدون علم الطليان ...
وكان يرجع من كتبت له الحياة إلى موطنه ويستشهد من يستشهد وكان
زعماء القبائل التابعة للحركة السنوسية يجمعون الاعشار والزكاة ويمدون بها حركة
الجهاد بالرغم من وجود الكثير منهم تحت السلطات الإيطالية، وخصوصاً من كان في
المدن كبنغازي، والمرج، ودرنة، وطبرق وغيرها،...
وكانت وسائل مد المجاهدين بأموال الزكاة والأعشار تتم في غاية
السرية وعجزت المخابرات الإيطالية عن اكتشاف اللجان الخاصة بالدعم المالي
للمجاهدين، ومن وقع في أيدي السلطات الإيطالية كانت عقوبة الإعدام....
وكانت الغنائم تمثل مصدراً مهماً لتمويل حركة الجهاد في فترة عمر
المختار، ومعظم الغنائم تم الحصول عليها في المعارك التي تمكن فيها المجاهدون من
هزيمة الإيطاليين مثل معركة الرحيبة في مارس 1927م.....(*8)
وقد وصف الشاعر المصري حافظ إبراهيم هذا المصدر في أبياته الشعرية
ساخرا من الطليان لفرارهم الدائم وترك الغنائم وراءهم للمجاهدين فقال :
حاتم الطليان قد
قلدتنا
منة نذكرها عاماً
فعاما
أنت أهديت إلينا
عدة
ولباساً !
وشراباً وطعاماً
وسلاحاً كان في
أيديكم
ذا ملال فغدا
يفري العظاما
أكثروا النزهة في
أحيائنا
وربانا إنها تشفى
السقاما
لست أدري بت ترعى
أمة
من بني الطليان
أم ترعى سواما(*9)
وقال الأستاذ
أحمد كاشف ذو الفقار:
يا آل رومة
تطلبون أمانياً
ختالة أم تطلبون
منونا
جئتم تجرون
الحديد ورحتم
بحديدكم في اليم
مغلولينا
ورقصتم فيه سكارى
فارقصوا
في الليلة
السوداء مذبوحينا
لكن استفزكم صليل
سيوفكم
فلقد تبدل زفرة
وأنينا
إلى أن قال:
هاتوا الذئاب إلى
الليوث فخمسة
منهم أبادوا منكم
خمسينا
واستجمعوا
حيتانكم ونسوركم
فالصائدون هناك
مرتقبون
واستكثروا الزاد
الشهي فإنكم
وسلاحكم و الزاد
مأخوذينا
لم يبق منهم معسر
أو أعزل
بعد الذي غنموه
منتصرينا
واستكملوا المدد
الكبير بفتية
سيقوا إلى
الهيجاء هيابينا
أحسبتم بطحاء
برقة حانة
لكم وغزو
القيروان مجونا (*10)
وكانت كل عائلة قد أخذت على عاتقها تزويد مجاهديها بما يلزمهم من
شؤون وملابس، ترسله شهرياً إلى الدور (المعسكر).
وكان الأمير إدريس يتحين الفرص لتزويد المجاهدين فقد ذكر الأشهب
بأن قافلة وصلت للمجاهدين قادمة من مصر وكان فيها سليمان العميري (من قبيلة أولاد
علي) وبو منيقر المنفى (من رفاق عمر المختار) يحملان رسائل من سمو الأمير ...
وكانت القافلة محملة بالأرز والدقيق والسكر والشاي وبعض الملابس،
وكان الطيب الأشهب موجوداً في معسكر المجاهدين وقت وصول القافلة....(*11)
وقد ذكر صاحب كتاب حياة عمر المختار بأن قافلة استطاعت أن تخرج من
السلوم محملة بمختلف العتاد والمؤن قاصدة معسكر المجاهدين في الجبل الأخضر، فعلم
الطليان بذلك وأرسلوا سياراتهم المسلحة لتعقبها، ولكن المجاهدين صمدوا لهم،
وأطلقوا رصاص بنادقهم على العجلات فتعطلت السيارات، وعندئذ انقض المجاهدون على
القوة الإيطالية فأبادوها عن آخرها وكان ذلك في عام 1928م .....(*12).
--------------------------------------------------------------------
(*1) كان الصوف الخام الكثيف يستعمل ضد الرصاص.
(*2) هذا المثل باللهجة البدوية ومعناه لم يكن اليوم من ايام
الصيام حيث أن صوت البنادق آخذ يدوي وكلمة المنشر هي اسم لنوع من البنادق وكلمة
زام دوى من الأدوية.
(*3) انظر : عمر المختار، ص64.
(*4) انظر: عمر المختار، ص70.
(*5) انظر: عمر المختار للاشهب، ص73.
(*6) انظر: حياة عمر المختار، محمود شلبي، ص114، 115.
(*7) المصدر السابق نفسه، ص114.
(*8) انظر: عمر المختار نشأته وجهاده، عقيل البربار، ص82،83.
(*9) انظر: عمر المختار للأشهب، ص91.
(*10؛ *11) انظر: عمر المختار للاشهب، ص95.
(*12) انظر: حياة عمر المختار، لشلبي، ص117،118.
0 تعليقات