آخر الأخبار

في فهم معنى «الغاز مقابل الروبل» 3- (خلية الرأسمالية الأولى)

 

 

 


 

 

 

مهند دليقان

 

 

هنا الحلقة الثالثة، ويمكن الرجوع عبر الرابطين للحلقة الأولى (1- العقوبات وسعر الصرف)، والثانية (2- إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا)



لكي نتمكن من الوصول إلى فهم الأهمية التاريخية لتسعير مصادر الطاقة، وأهمها الغاز والنفط، بعملات أخرى غير الدولار وغير اليورو، سواء الروبل أو اليوان أو الروبية أو غيرها، فلا بد من استكمال الرحلة التي نسير بها ضمن هذه الحلقات؛ والتي تسعى إلى إعادة تقديم شرح مبسط وموجز قدر الإمكان للتطور التاريخي الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه، والذي سمح لدولة مثل الولايات المتحدة أن تطبع أوراقاً خضراء دون تكلفة عملياً وتستولي من خلالها على ثروات العالم بالمجان... وإذاً، نتابع من حيث توقفنا في الحلقة الماضية...



المقايضة من أمرٍ عَرَضيٍ إلى متكرر

 

حين حدثت عمليات المقايضة الأولى، فإنها قد حدثت بشكلٍ عَرضيٍ، وتصادفي؛ فالمقايضة نفسها لم تبدأ -كما قلنا في الحلقة السابقة- إلا بعد أن تمكن البشر خلال تطورهم من الوصول إلى مرحلة باتوا ينتجون فيها بعض الفوائض عن استهلاكهم الذي يكفيهم للاستمرار ولحفظ النوع. تلك الفوائض هي التي سمحت بحدوث المقايضات الأولى، ولكنها كانت قليلة وغير ثابتة، ولذا فقد كانت المقايضات عرضية وتصادفية.



مع الوقت، ومع كل خطوة إضافية في تطور تقسيم العمل (وللتقريب نقول التخصص في العمل)، بدأت الفوائض تصبح أكثر ثباتاً، وبالتالي بدأت عملية التقايض تتحول من عملية عرضية إلى عملية متكررة، ومن عملية تصادفية إلى عملية ضرورية ومنتظمة أكثر فأكثر... وعند هذا الحد بدأ ظهور «البضاعة» أو «السلعة»، التي تطورت عبر التاريخ لنراها اليوم بشتى الأنواع والأشكال، بما في ذلك النفط والغاز...



المنتوج الطبيعي والبضاعة

 

اقترن ظهور البضاعة تاريخياً مع انتقال المقايضة من أمر عرضي إلى أمر متكرر ومنتظم. وللتوضيح أكثر، نقف قليلاً مع الفارق بين «المنتوج الطبيعي» والبضاعة.



يشترك كل من المنتوج الطبيعي والبضاعة في أمرٍ أساسي هو أنهما نتاج عملٍ بشريٍ؛ سواء كنا نتحدث عن منتوج زراعي أو عن لباس أو ألبان أو لحوم أو نفط أو أدوات عمل... وإلخ. (قد يتساءل قارئ كيف يمكن القول إنّ اللحوم أو الألبان مثلاً هي نتاج عملٍ بشري؟ والجواب هو أنّ ما نتحدث عنه ليس اللحوم والألبان كما هي موجودة في الطبيعة، بل اللحوم والألبان المعدة للاستهلاك البشري؛ فتحويل اللحوم والألبان وحتى النفط، الموجودة في الطبيعة إلى وضع تصبح فيه جاهزة للاستهلاك البشري، يتطلب عملاً بشرياً؛ يتمثل بالصيد أو بتربية المواشي، وبعدها عمل القصابة وإلخ).



الفرق بين «المنتوج الطبيعي» و«البضاعة»، هو أن «المنتوج الطبيعي» هو ذلك الذي ينتجه الإنسان (كمجموعة بشرية، كعشيرة، كعائلة، كفرد) لكي يستهلكه هو نفسه، في حين إنّ البضاعة هي المنتوج الذي ينتجه الإنسان، لا بغرض استهلاكه من قبله، بل بغرض مبادلته مع منتوجات أخرى، ينتجها آخرون، لاستهلاك تلك المنتوجات... (مثلاً، ضمن تجمع بشري ما، فإنّ العائلة التي تتخصص بحياكة الثياب، لا تستهلكها هي نفسها، بل تقوم بمبادلتها بمختلف أنواع المنتجات الأخرى التي تحتاجها، من خضار ولحوم وزيوت وإلخ...).



وإذاً فـ«المنتوج الطبيعي» هو: (1- نتاجٍ عمل بشري، 2- يلبي حاجة بشرية معينة، سواء مادية كانت أم روحية، 3- وهو معد للاستهلاك المباشر من قبل منتجه). أما البضاعة فتختلف في البند الثالث فقط لتصبح (1- نتاجٍ عمل بشري، 2- يلبي حاجة بشرية معينة، سواء مادية كانت أم روحية، 3- ويتم إنتاجه بغرض التبادل، لا بغرض الاستهلاك المباشر).



ضمن إجمالي ما يستهلكه البشر من بضائع و«منتوجات طبيعية»، فمن المفهوم أنّ حصة البضائع كانت صفراً لمرحلة طويلة لأن البشر كما أسلفنا كانوا بالكاد يستطيعون إنتاج ما يكفي استهلاكهم المباشر، كما أنه لم يكن هنالك تطور كاف في تقسيم العمل بينهم... مع تطور البشر وتطور عملهم وتطور تقسيمه، ظهرت البضاعة وبدأت بالتزايد شيئاً فشيئاً على حساب «المنتوجات الطبيعية»، وصولاً إلى العصر الذي ساد فيه أسلوب الإنتاج البضاعي. سيادة أسلوب الإنتاج البضاعي هي ما يسميه الاقتصاديون (الرأسمالية)...



الخلية الأولى

 

يفتتح ماركس كتابه الأشهر والأهم «رأس المال» بالعبارة التالية: (تبرز ثروة المجتمعات التي يسودها الأسلوب الرأسمالي في الإنتاج، بوصفها «تكديساً هائلاً من البضائع»).



لكي نصل إلى فهمٍ معقول لما يجري في عالمنا المعاصر، بتعقيداته العديدة، بما في ذلك الحديث عن البترودولار وعن (الغاز-روبل) وعن العملات على العموم، وبالجوهر عن النظام الرأسمالي السائد في الكوكب، فإنّ نقطة الانطلاق الضرورية، هي فهم الخلية الأساسية التي تكوّن هذا الجسد الرأسمالي... هذه الخلية ليست إلا البضاعة... ولذا سنقف عندها بعض الشيء، ودليلنا كما في كل هذه السلسلة هو كتاب ماركس «رأس المال».



جانبا البضاعة

 

ضمن ما سيأتي من كلام، سنستخدم مفهومين في تحديد البضاعة هما: «القيمة الاستعمالية»، و«القيمة التبادلية»...



القيمة الاستعمالية للبضاعة هي ببساطة منفعتها، كأن نقول إنّ منفعة الخشب هي في استخدامه للتدفئة أو للطبخ أو لصناعة الموبيليا...، وأن منفعة الفاكهة هي في أكلها والاستفادة من عناصرها وإلخ.



منفعة أي بضاعة تتحدد بخواصها الفيزيائية والكيمائية... أي بخصائصها الملموسة، وبكلامٍ آخر فإنّ جسد البضاعة هو مصدر قيمتها الاستعمالية، وهو محدد نوعيٌ لها؛ أي أنّه لا يمكن لأي بضاعتين مختلفتين أن تتساويا في قيمتيهما الاستعماليتين، فلكل بضاعة مختلفة منفعتها واستعمالها المختلف عن سائر البضائع الأخرى.



القيمة التبادلية للبضاعة، هي النسب الحسابية التي تدخل فيها هذه البضاعة في علاقة تبادلٍ (أو يمكن أن نقول علاقة تقايض في المراحل الأولى) مع البضائع الأخرى؛ فمثلاً القيمة التبادلية لسترةٍ يمكن أن تكون كالتالي:



1 سترة = 20 ذراع قماش



1 سترة = 10 كغ من الحنطة



1 سترة = 5 ليتر من الحليب



ويمكن لهذه القائمة أن تطول وتطول لتغطي كل أنواع البضائع الموجودة في سوق التبادل.



ليس من الصعب الاستنتاج أنّ القيمة الاستعمالية للبضاعة، أي منفعتها، تعبر عن علاقة بين البشر والطبيعة، حيث ينتفع البشر بمنتوجاتهم عبر الانتفاع بخصائصها الفيزيائية والكيميائية...وبشكل عام بخواصها الطبيعية. في حين إنّ القيمة التبادلية تعبر عن علاقة بين البشر فيما بينهم، فحين تتقابل سترة واحدة في السوق مع 20 ذراعاً من القماش، ويجري التبديل بينهما على أنهما شيئان متساويان، فإنّ هذه المقابلة، هذه العملية، تتم عملياً بين صاحب السترة وصاحب القماش.



وإذا كان من غير الممكن إطلاقاً البحث عن تساوٍ بين أي بضاعتين على أساس قيمتهما الاستعمالية، (لأنّ لكل بضاعة منفعتها المتميزة والمشتقة من جسدها بالذات)، فإنّ السؤال شديد الأهمية هو التالي: على أي أساس يمكن القول إنّ سترة واحدة تساوي 20 ذراعاً من القماش، أو 10 كيلوغرامات من الحنطة، أو 5 ليترات من الحليب وإلخ؟...



في المرحلة الإعدادية كان أساتذة الفيزياء بشكل خاص ينبهوننا دائماً إلى أنه من غير الدقيق القول إنّ 1 كم يساوي 1000 متر، بل الصحيح القول إنّ 1 كم يكافئ 1000 متر، لأنّ الوحدتين مختلفتين، ولا يمكن المساواة بين وحدتين مختلفتين، وذلك بالرغم من أنّ كلاً من المتر والكيلومتر يعبران عن جوهر واحد هو المسافة، فكيف يكون الأمر إذاً، إذا كان الحديث عن تساوٍ بين سترة وقماش، أو سترة وحنطة وإلخ...



يمكن أن يفترض المرء أنّ التبادل يتم على أساس توافقي، وعلى أساس أنّ صاحب السترة يحتاج الحنطة، وصاحب الحنطة يحتاج السترة، وبذلك فهما يتفقان على تبادل بضائعهما، ولكن لماذا السترة تقابل 10 كيلوغرامات من الحنطة وليس 5 كيلوغرامات مثلاً أو 20 كيلوغراماً...؟



البحث عن الوحدة المشتركة التي يتم على أساسها التقابل بين البضائع، والتي تتحدد على أساسها القيمة التبادلية لأي بضاعة مقابل البضائع الأخرى، هي السر الكبير الذي اكتشفه ماركس والذي أسس لقفزة معرفية كبرى في مجال العلوم الاجتماعية وضمناً الاقتصادية... وهو السر الذي سنقف عنده في الحلقة القادمة، والذي سيسمح لنا بالاقتراب أكثر من فهم نشوء النقد-المال... وصولاً إلى قراءة ما يجري هذه الأيام في مسألة الغاز والنفط واليورو والبترودولار...



 

إرسال تعليق

0 تعليقات