آخر الأخبار

التّوتّرات تتصاعد (٥) واشنطن و لندن تحاولان أن تحميا هيمنتهما على أوروبا

 

 


 

بقلم تييري ميسان

 

واشنطن و لندن مُصابتان بالطّرش (4)

في عالمنا الحالي، حتّى الأسرار المكتومة للغاية تنكشف بسرعة، ولكنّها لا تنتشر بالسّرعة ذاتها. بالرّغم من ذلك، تمّ تسريب الرّسائل السّرّيّة الموجّهة من الولايات المُتّحدة والنّاتو لروسيا، واطّلع الكثيرون عليها. بينما تحبس تحرّكات النّاتو العسكرية انتباه المشاهدين، تشهد الكواليس مسرحية أخرى، تتعلّق بتنظيم الشّبكات المُناطة بمراقبة الحلفاء التّابعة لأسيادهم الأمريكيين والبريطانيين. لأنّ واشنطن ولندن مقتنعتان بأنّ روسيا لن تهاجمهما، بل ستحاول أن تخطف حلفائهما.

 



عام ١٩٢١، اعتزمت المملكة المُتّحدة منع الولايات المُتّحدة من تطوير أسطولها وتحويل نفسها إلى القوّة البحريّة الأولى عالمياً. كاد البلدان أن يتحاربا، ولكنّهما عادا عن ذلك وقرّرا أن يتحالفا، بشكلٍ يسمح لهما بالهيمنة على العالم. بذلك بدأت علاقةٌ وصفها رئيس مجلس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل عام ١٩٤٦ ب"العلاقة المُتميّزة". من باب الاحتفال بهذه العلاقة، وُضِع تمثالٌ لأوّل رئيس أمريكي، جورج واشنطن، في قلب لندن، في ساحة ترافالغار. هذه "العلاقة المُتميّزة" هي أساس حلف النّاتو.


كُشِفَ جوابَيْ الولايات المُتّحدة والنّاتو على اقتراح روسيا لِمعاهدةٍ بهدف ضمان الأمن في صحيفة إل بايس الإسبانية ، بفضل- كما يُزعم- مصدرٍ أوكرانيٍّ يخشى أن تتحوّل بلاده إلى ملعبٍ للمواجهة بين الغرب والشّرق.



يتطابق جواب النّاتو مع ما كان أمينه العام ينز ستولتنبرغ قد قاله. هذا طبيعي، لأنّ النّصّ كان قد عُرِض على الدّول الثّلاثين الأعضاء وكان من المستحيل أن يبقى سرّيّاً لوقتٍ طويل. من جهة، يقترح الحلف إجراءاتٍ لتقليص خطر وقوع حربٍ نوويّة. من جهة أخرى، يطعن النّاتو بحقّ اختيار الشّعوب لمصيرها في ترانسنيستريا (مولدافيا)، في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية (جورجيا)، واخيراً في القرم (أوكرانيا). بعبارة أخرى، يرفض الحلفاء القانون الدّولي. لهذا السّبب لم يعودوا يأتون على ذكره، بل يزعمون أنّهم متمسّكين ب"قواعدٍ" يقومون وحدهم بتحديد مضمونها. يعتزم الحلفاء البقاء تحت حماية الولايات المُتّحدة والمملكة المُتّحدة، لكنّهم يريدون أن يُبعدوا خطر حربٍ عالمية.

 

المفاجأة في جواب الولايات المُتّحدة. كان الجميع يجهل مضمونه، حتّى الحلفاء وأَوكرانيا. لهذا السّبب، وكما يحدّده عنوانه، هذا الجواب هو "ليس ورقة" (كذا) وليس من الضّروري عرضه عليهم، بل يجب أن يبقى سرّيّاً. إذاً، لا يُرَجّح أن يكون هذا الجواب قد كشفه مصدر أوكراني، بل لا بدّ أن يكون أمريكي. يتعلّق الجواب بِ"حقول التّعهّد الّتي تسمح بتحسين الأمن". تُظهِر واشنطن نفسها على أنّها ترفض التّخلّي عن أيّ شيء، ولكنّها تقبل النّقاش بهدف تجميد الوضع الحالي، أي أن تحافظ على مشاريعها الحالية دون أن تبحث عن التّقدّم.

 

يضيء هذا المستند على أعمال النّاتو العلنيّة الأخيرة: حملة بروباغاندا مندّدة باجتياحٍ روسيٍّ وشيك، نشرٌ للجنود حول أوكرانيا، وإرسال الأسلحة إليها. ولكنّ الأهمّ ليس هنا: هؤلاء الجنود وهذه الأسلحة ليسوا بأيّ شكلٍ قادرين على مقاومة اجتياحٍ روسيٍّ في حال وقوعه. ولكنّ هذه الظّروف تزرع الذّعر في قلوب القادة الأوروبيين (بمفهوم واسع، وليس فقط قادة الإتّحاد الأوروبي). واشنطن ولندن تعلمان أنّهما قادرتين على عدم الإجابة على اشتراط روسيا بأن تحترما المعاهدات، دون أن تهاجمهما موسكو. مخاوفهما ليست هنا، بل تتعلّق، كما حاول فلاديمير بوتين أن يفعل عام ٢٠٠٧ في ميونيخ، بأن تحاول موسكو أن تقلب حلفائهما ضدّهما، الواحد يلي الآخر. لأنّه، هذه المرّة، من الممكن لتراجع قوّة الولايات المُتّحدة أن تحملهم على التّفكير بذلك. لهذا السّبب تعيد وكالة الإستخبارات المركزيّة الأمريكية و إم آي ٦ البريطانية تنظيم شبكات ستاي بيهايند بِرِضا بعض القادة الأوروبيين اللّذين يتخيّلون اليوم احتمال عيشهم في بلادٍ تحتلّها روسيا.

 

عند انتهاء الحرب العالمية الثّانية وقبل أن يُكَوّن النّاتو حتّى، كانت الولايات المُتّحدة والمملكة المُتّحدة قد تخيّلتا طريقةً للهيمنة على غرب أوروبا حتّى خطّ أودر-نايسه، الّذي حدّده مؤتمر بوتسدام المعقود في الأيام الّتي تَلَت انتصار السّوفيات في برلين واستسلام النّازيّين. كانت هذه الحدود هي الّتي وصّفها رئيس الحكومة البريطاني ونستون تشرشل بِاسم "السّتار الحديدي" الّذي شطر القارّة الأوروبيّة نِصفَين . ثمّ أطلق الرّئيس الأمريكي هاري ترومان الحرب الباردة بهدف منع تقدّم السّوفيات إلى منطقة النّفوذ العائدة لهم بموجب مؤتمرَي يالطا وبوتسدام. كانت فكرة الأمريكيين والبريطانيين هي زرع شبكات مقاومة ضمن إدارات الحلفاء وتحضيرها للتّحرّك عند وقوع الإجتياح السّوفياتي "الحتمي". قاد الأنغلوساكسون هذه الشّبكات، ولكنّ جنودها تكوّنوا من القوميّين المُعادين للسّوفيات، وشمل ذلك قدماء الجيوش النّازية، اللّذين تمّت إعادة تدويرهم من أجل "الغاية النّبيلة".

 

عند تكوين النّاتو عام ١٩٤٩، تمّ دمج هذه الشّبكات الأوروبية الغربية فيه، وما زالت إلى اليوم تتبع أوامر واشنطن ولندن حصراً، بموافقة الدّول الحليفة المبدئية، ولكن دون أن تعلم تفاصيل أعمالها. في كلّ مرّةٍ يُسلّط الضّوء على هذه الشّبكات، يَعِد الجميع بِحَلِّها، ولكنّها تبقى. آخر "حادثة" وقعت في هذا الصّديد هي اكتشاف، عام ٢٠٢٠، أنّ الدّانمارك كان يتنصّت على قادة جميع الدّول الأوروبية لصالح النّاتو .



وسّعت المخابرات الأمريكية والبريطانية رقعة هذه الشّبكات لتشمل معظم الكوكب، فَهُما مثلاً من قامتا بِتكوين منظّمة الإتّحاد الدّولي ضدّ الشّيوعيّة خلال الحرب الباردة، وأقامتا ديكتاتورياتٍ دمويةٍ من تايوان إلى بوليفيا، مروراً بإيران والكونغو.

 

سلّط الكونغرس الأمريكي الضّوء على نشاطات وكالة الاستخبارات المركزية خارج إطار النّاتو (لجنة السّيناتور فرانك تشيرش ) بعد استقالة الرّئيس ريتشارد نيكسون. ظهر بذلك أنّ هذه الشّبكات كانت قد تطوّرت إلى أن تمكّنت من تكوين دولة ضمن الدّولة، ذاهبةً حتّى إلى تدبير فضيحة واترغايت لإسقاط رئيس الولايات المُتّحدة . شجّع الرّئيس جيمي كارتر مُتابعة نتائج هذه التحقيقات، وتمكّن من فرض سلطته على وكالة الاستخبارات المركزيّة مع الأميرال ستانسفيلد تورنر.

 

كُرّست مئات الكتب للبحث في جرائم المخابرات الأمريكية والبريطانية، أولاً بفضل صحافيين، واليوم بفضل مؤرّخين. ولكن جميعها كتباً أو أبحاثاً عن هذه العملية أو تلك. البعض حاول أن يضع جداولاً بهدف تلخيص الأحداث، ولكنّ أحداً لم يجرؤ على كتابة تاريخ هذه المنظومة أو رجالها، لأنّ الرّجال ذاتهم تنقّلوا لأماكن متعدّدة حول العالم بهدف ارتكاب هذه الجرائم.

 

رعى الرّئيسان رونالد ريغان وجورج بوش الأب هذه الشّبكات بشكلٍ علنيٍّ في بلدان حلف وارسو، حيث نظّمت عمليّات تخريبٍ اقتصادية وعسكرية واسعة. لم تظهر هذه الشّبكات للعلن لتلعب دوراً سياسياً إلّا مع انهيار الإتّحاد السّوفياتي. كان دور هذه الشّبكات مهمّاً في ضمّ بلدان أوروبا الوسطى، الشّرقية، البلقان، والبلطيق إلى النّاتو. ليس دعم رئيسة لاتفيا فايرا فايك فريبيرغا للتّظاهرات النّازية  أو وصول قادة نازيّين إلى مناصبٍ حكوميّةٍ في أوكرانيا  إذاً من باب الصّدف الّتي لا يمكن تفسيرها، بل ظاهرتين علنيّتَين لتمكّن الشّبكات السّرّيّة أحياناً من تنصيب أنفسها في قمّة الحكومات.

 

عند انتهاء الحرب العالمية الثّانية، كان من الواضح للجميع أنّ الإتّحاد السّوفياتي انتصر (ما بين ٢٢ و٢٧ مليون قتيل) بمساعدة صغيرة جدّاً من الأنغلوساكسون (أقلّ من مليون قتيل في حصيلة الولايات المُتّحدة والمملكة المتّحدة، وهذا الرّقم يشمل أيضاً المُستعمرات). صاغ السّكرتير الأول جوزيف ستالين (- الذين قضوا على الكولاك ، ثم المناشفة في غولاغز -) المصالحة الوطنية وإحساس القومية السّوفياتية حول المساواة بين الجميع في وجه نظام التّدرّج بين الأعراق النّازي (العنصرية)، الأمريكي (سياسة الفصل العنصري)، والجنوب أفريقي (الأبارتايد). تهدف النّقاشات حول "أنظمة القرن العشرين الشّموليّة" وقرارات البرلمان الأوروبي الإنكارية حصراً إلى تدمير الصّورة الّتي تركها ستالين عبر دمجها للجرائم النّازية والسّوفياتية، بالرّغم من طبيعتَيهِما المختلفَتَين جدّاً ووقوع كلٍّ منها في حقباتٍ زمنيّة مختلفة (لم ينتهِ عصر بروز مخيّمات القولاق مع وفاة "أب الشّعوب الصّغير" في عام ١٩٥٣، بل عام ١٩٤١ مع الإتّفاق بين جوزيف ستالين والكنيسة الأرثوذكسية بهدف الدّفاع عن البلاد. لا تميّز هذه المخيّمات إذاً لا العقيدة السّتالينية ولا الإتّحاد السّوفياتي). تسمح هذه الأعمال أيضاً بتنكير استخدام الولايات المتحدة والمملكة المُتّحدة للنّازيّين في سبيل توسيع رقعة نفوذهما، عبر، مثلاً، مخيّمات الاعتقال البريطانية في كينيا خلال خمسينات القرن الماضي.

 

تُظهر جميع هذه البراهين أنّ الولايات المُتّحدة والمملكة المُتّحدة لم تتردّدا في إعادة تدوير أعداء الأمس والطّلب منهم بأن يواصلوا أعمالهم، باستخدام نفس الطّرق الإجرامية، ولكن تحت إمرة الأنغلوساكسون.


إذا أخذنا هذا الماضي بعين الاعتبار، يتوجّب علينا أن نتساءل عن دور النّاتو الحقيقي. يؤكّد الرّأي الطّاغي أن السّبب وراء تكوين الحلف هو محاربة السّوفيات. ولكن، عدا عن أنّ هؤلاء، في ذلك الوقت، كانوا قد انتصروا على النّازيّين للتّوّ في برلين، لم يحارب حلف النّاتو السّوفيات يوماً، واليوم، لم يعودوا موجودين. على العكس، لم يخوض النّاتو طوال مدّة وجوده سوى حربَين تقليديّتَين: الأولى في يوغوسلافيا، والثّانية في ليبيا. كلّ تاريخه يتمحور حول التّدخّل في حياة أعضائه السّياسيّة الدّاخلية لإجبارهم على السّير وفق مصالح الأنغلوساكسون، وذلك بواسطة ثورات ملوّنة (أيار ١٩٦٨ في فرنسا)، اغتيالات سياسية (رئيس المجلس الإيطالي الدو مورو)، وانقلابات (حُكم العقداء العسكري في اليونان).

 

في هذه الظّروف، يجب أن نتساءل عمّا إذا كانت كلّ هذه الضّوضاء مسرحية تُنكّر امراً آخراً: تعزيز هيمنة واشنطن ولندن على حلفائهم، بالرّغم من تزامن ذلك مع تراجع قوّتيهما.

 

يجب أن نتساءل عن السّبب وراء توقّف روسيا عن مُطالبتها بأن يُعَدّل النّاتو ليتوافق مع ميثاق الأمم المتّحدة (١٧ كانون الأول ٢٠٢١). لا تريد واشنطن ولندن أن تتخلّيا عن مركز السّيّد، ولا يريد حلفائهما أن يتخلّوا عن مركز التّابع لسيّده. بذلك، لم يعد هنالك من معنىً لِحلّ النّاتو، لأنّ كلّ عضوٍ يريد أن يحتفظ بدوره بدلاً من أن يحصل على استقلاله والمسؤولية الفرديّة الّتي تتبع ذلك. إذا اختفى حلف النّاتو، سيلحق به هيكلٌ مشابهٌ له. المشكلة ليست إذاً في الحلف الأطلسي، بل في طريقة تفكير كلٌّ من الأنغلوساكسون وحلفائهم.

 

من الممكن ألّا يكون السّبب وراء هذا الاختلاف الفكري ثقافيٌ فقط، بل أن يعود ذلك للثّورة المعلوماتية. النّماذج العمودية، التّحليلات وفق مناطق النّفوذ، والنّظريّات الجيوسياسية تعود جميعاً للعصر الصّناعي. أمّا القرارات المتعدّدة الأقطاب، التّحليلات الّتي تُلائم كلّ فرد، والنّظريّات الشّبكيّة، فهي تميّز المجتمعات قيد البناء اليوم. في هذه الحالة، موسكو وبكين، بكلّ بساطة، تسبقان الغرب.

 

في النّهاية، في وقتٍ مُحدّد، سيتوقّف أحد الحلفاء عن الانحناء أمام واشنطن ولندن. ليست عبارات الرّئيس البولّندي أندري دودا المؤيّدة للصّين، أو عبارات الرّئيس الكرواتي زوران ميلانوفيتش المؤيّدة للرّوس، إلّا فكرة عن ما يمكن أن يكون شكل المُستقبل. عام ١٩٦٦، تفاجأ الحلفاء عندما طعن الرّئيس الفرنسي شارل ديغول بشبكات ستاي بيهايند وطرد قوّات النّاتو من بلاده. من المُرَجّح اليوم أن تختلف ردّة فعلهم في حال قرّر أحد الأعضاء أن يخرج من القيادة المُتكاملة دون أن يطعن بحلف شمال الأطلسي. بما أنّ القادة الأوروبيين يتصرّفون في الكثير من الأحيان مثل خِراف بانورج، من الممكن أن يلحق الجميع بعضوٍ أوّلٍ وأن يخرجوا جماعياً.

 

أيّاً كان، تواصل موسكو وبِكين تقرّبهما. لا يتعلّق الأمر بالنّسبة لهم بسحق أيّ أحد، بل بالدّفاع سويّاً عن نظرتهما المُشتَرَكة للعلاقات الدّوليّة وحقّ الجميع بالتّنمية الاقتصادية. نشر الرّئيس الرّوسي فلاديمير بوتين والرّئيس الصّيني تشي جينبينغ بياناً مُشتَرَكاً جديداً في ٤ شباط ٢٠٢٢ إستفاد الرّئيسان من المناسبة لِيَسخرا من محاولة الغرب بأن ينصّب نفسه "عالَماً حُرّاً" مبنيّاً على الديمقراطية. لَحظَ الرّئيسان أنّ بلدَيهما، بعيداً عن الكمال، يُعطيان أهمّيّة أثقل بكثير للمواطنين من تلك الّتي يعطيها نظيرَيهُما الأنغلوساكسون لِمُواطِنيهم.

 

لم يُعِر الغربيّيون، اللّذين لا يستمعون إلّا لأنفسهم، انتباهاً لخطاب الرّوس والصّينيّين. لو استمعوا له، لكرِهوه، مُتسائلين كيف يمكن للرّوس وللصّينيّين أن يتكلّموا بهذه الطّريقة، ولكن ليس لما.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات