محمود جابر
بعد ان أوضحنا فى
المقال السابق الكلام عن التفويض والجبر، وتطوره، من الاعتقاد بتفويض أفعال البشر
إلى أنفسهم، أي: نسبة قضاء الخير وقضاء الشر إلى الإنسان مباشرة، ثم تحول هذه
القضية وتطورها ودعوة البعض أن الأنبياء الأئمة لهم القدرة على التصرف بالكائنات
وأطلق فيما بعد على هؤلاء اسم المفوضة ، وهي مختلفة عن المفوضة في مبحث الجبر
والاختيار، ولكنه تطور منه.
وللحقيقة ان هذا
التطور امتد من القرن الثاني الهجري الى الثالث بصورة خاصة، و بدأت سلسلة جديدة من
الأفكار المغالية والمتطرفة بالترعرع، وقد ورثوا هؤلاء وتَبَنوّا كثيراً من نظرات
الغلاة، وكانت نتيجة مباشرة للأفكار التي تبناها ما يسمون بالكيسانيين والقائلين
بالطبيعة الإلهية للأئمة، والتى تم تخفيف وطئتها إلى ما سمى بعد ذلك بـ "
الإرادة التكوينية".
تزعمت الكيسانية – وهى فرقة ظهرت زمن الإمام الصادق - هذه الأفكار وفق نظرية أن آل محمد على موجودات فوق البشر، ذو علم
مطلق يشمل علم الغيب، ولهم القدرة على التصرف في الكائنات، هذه الفرق الجديدة لا
تعتبر النبي أو الأئمة آلهة، ولكنها تعتقد أن الله تعالى قد فوض إليهم أمور
الكائنات من الخلق والرزق، وأعطاهم صلاحية التشريع، وبالتالي فإنهم بالناحية
العملية يقومون بجميع الأعمال التي يفعلها الخالق.
وللحقيقة إن كلام المفوضة فى الطبيعة الإلهية أو الإرادة التكوينية أشبه ما
يكون بكلام اليهود (وَقَالَتْ
الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ).
وهذا اعتقاد يفرض
للأئمة نمطا من القدرات فى التكوين والخلق والرزق، وبهذا فقد ادعوا بهتانا وإثما
عظيما، وهذا كلام يحالف صريح القرآن وبشرية الأنبياء والرسل قال تعالى: (وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ
مَسْنُونٍ) ، وكذا قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى
إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ
رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ
أَحَدًا).
وكذلك أكدت الآيات
القرآنية على القدرة المحدودة للعلم البشري فقال عز من قائل: ( قُلْ لاَ أَقُولُ
لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ
إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) ، وكذا قوله تعالى:
(قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ
وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي
السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ، وأمثال ذلك
مما تفيض به آيات الكتاب العزيز.
ففي الوقت الذي أكد فيه القرآن
على بشرية الرسل، قام بتأكيد مفهوم التفويض الممنوح للأنبياء ولكن من خلال وضعه
تحت إطار إذن الله كما في حديثه عن آيات عيسى(عليه السلام) كقوله تعالى:
(وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ
فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ
وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا
تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنينَ) .
وكما في قوله تعالى: (إِذْ
قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى
وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ
وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي
فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ
بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ) ، ومثل هذا التأكيد نرى أن عملية
التفويض المشار إليها في حديث المفوضة والغلاة جاءت مناقضة للمفهوم القرآني، فلا
القرآن يعطي للرسول استثناءات خالقية، ولا هو يجعل إرادته الإعجازية بمعزل عن
إرادة الله بل يجعلها مرهونة بإرادة الله تعالى.
أن الجذور الفكرية
والعقدية للمفوضة تمثل صورة متكاملة لعقائد غلاة الصدر الأول، ويبدو أن آراء
المفوضة كانت حصيلة تزاوج بين نظريتين كانتا سائدتين بين غلاة الكيسانية في أوائل
القرن الثاني للهجرة وهى نظرية الحلول وهو حلول روح الله أو نوره في جسم النبي
والأئمة، لأن غلاة القرن الأول كانوا يعدون أن النبي(صلى الله عليه وآله) أو
الأئمة(عليهم السلام) هم الله والتجسيد الكامل لهويته الإلهية، ثم تطورت الفكرة
بعد ذلك إلى عد الإمام مظهرا لجانب من روح الله، أو موضعا لحلول قبس من نوره، الذي
انتقل من آدم عن طريق سلسلة من الأنبياء حتى وصل إليهم.
أما الثانية فهى
نظرية الإله الأكبر والأصغر و التى جاء بها بيان بن سمعان النهدي ( ت119هـ/737م )
وهي تمثل تفسيرا شاذا لقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي
الأَرْضِ إِلَهٌ) فهذه الآية بزعم بيان
تتحدث عن إلهين: واحد في السماء وهو الإله الأكبر، والآخر في الأرض وهو أصغر من
إله السماء وهو مطيع له.
بينما نلحظ أن أبا
الخطاب (ت 138هـ/755م ) زعيم الغلاة الخطابية في العقد الرابع من القرن الثاني زعم
أن الإمام الصادق هو الإله في زمانه وليس هو المحسوس الذي يرونه ولكن لما نزل إلى
هذا العالم لبس تلك الصورة فرآه الناس فيها، ثم ناد بعد ذلك إلى عقيدة التفويض، أي
أن الله خلق محمداً وعلياً وفوّض إليهما مهمة خلق بقية العالم.
أن الفكرة التي تسربت واندمجت في البنية
العقيدية للغلاة وأصبحت مرتبطة بغلاة الشيعة وما لبثت أن حظيت الفكرة بدعم المفوضة
فيما بعد.
وبمجرد أن ظهرت هذه العقائد
الجديدة في الغلو بين صفوف الشيعة الإمامية حتى أخذت بالانتشار،
فما كان من الإمام الصادق إلا
أن اتخذ موقفا صلباً وحازماً من هذه العقائد الدخيلة والمنحرفة الغالية، ويبدو من
بعض الروايات التي وصلت إلينا .
الإمام الصادق(عليه
السلام) يوضح الالتباسات الواقعة في عملية فهم مصطلح التفويض، ومن المحتمل كان
منشأ هذه الشبهة التي أخذ بها المفوضة هو بعض الروايات التي قد يفهم منها هذا
المعنى فيقول الإمام: (أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب، فجعل لكل شيء سببا
وجعل لكل سبب شرحا وجعل لكل شرح علماً، وجعل لكل علم باباً ناطقاً، عرفه من عرفه،
وجهله من جهله، ذاك رسول الله(صلى الله عليه وآله) ونحن).
ومع هذا الاعتراف
فليس النبي والإمام من أسباب الخلق والتدبير، وإنما هم وسائط بين الخالق والخلق في
إبلاغ الأحكام وإرشاد العباد، وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق لأحد أصحابه بقوله:
(إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه فلما أكمل له الأدب قال: (إِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ)، ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده، فقال عز وجل: (مَا
آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وإن رسول
الله(صلى الله عليه وآله) كان مسدداً موفقاً مؤيداً بروح القدس، لا يزل ولا يخطئ
في شيء مما يسوس به الخلق، فتأدب بآداب الله).
وقد ألقى الإمام
الصادق(عليه السلام) الضوء على طبيعة علوم الأئمة، إذ كان يثير دهشة أصحابه عندما
يقول لهم أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض، ويعلم ما في الجنة ويعلم ما في
النار، ويعلم ما كان وما يكون، ثم يبين أن مصدر تعاليمهم هي القران الكريم،
والمصدر الثاني لعلوم الإمام السنة النبوية، وقد سئل مرة عن موارد الإمام في
استنباط الأحكام، فكان رده أن المورد الأساسي لذلك هو الكتاب، وإن لم يكن فيه
فبالسنة. وإن لم يجد قال: (يوفق ويسدد وليس كما تظن).
وكان لمواقف الإمام المتشددة
تجاه هذه الظاهرة المتنامية داخل البنية العقيدية الإمامية حتى بادر معه كثير من
أصحابه إلى الوقوف أمام هذا التيار الجديد وبقوة، ورفضوا إعطاء أي صفة فوق بشرية
للأئمة وأكدوا على أنهم خلفاء الحق للرسول صلى الله عليه وآله،
ففي الوقت الذي كانوا يعارضون
بقوة إعطاء الأئمة أية صفة غير طبيعية كالعلم بالغيب الذي يضاهي علم الله تعالى
فإنهم كانوا يسلمون تماما للأئمة ويعتبرونهم القيادة الشرعية للإسلام.
وإن أبرز شخصية تمثل هذا
الاتجاه هو أبو محمد عبد الله بن أبي يعفور العبدي (ت131هـ/748م) ويعد من أوثق
أصحاب الإمام الصادق. فضلا عن ذلك ما ورد عن الإمام الصادق من الثناء والمدح
والتزكية بحقه إذ كان يقول أنه ما وجد أحدا اخذ بقوله وأطاع أمره وحذا حذو أصحاب
آبائه غير رجلين هما: عبد الله ابن أبي يعفور وحمران بن أعين، ويعدهما الإمام
مؤمنان خالصان من شيعتنا، ويؤكد الإمام مرة ثانية هذا المدح والإطراء عليه من
ناحية التزامه وطاعته لأوامر الإمام التي انفرد والتزم بها دون صحابته الآخرين.
يمكن النظر لهذا الإطراء
الممنوح من قبل الإمام الصادق في حق عبد الله بن أبي يعفور على أنه دلالة واضحة
على مسيرة هذه الشخصية التي لم يتخللها أي تعثر عقيدي، وكانت تنطلق أولاً وآخراً
بالتزاماته بتعاليم الإمام وعدم الخروج عليها والتأثر بالهزات العقيدية التي عانى
منها المجتمع الإمامي، لأنه قد استوعب مرتكزات العقيدة الإمامية وكان على علم
واطلاع بتحركات بعض العناصر الغالية ذات العقائد والآراء المختلفة والمتناقضة،
إضافة إلى التعليمات والوصايا الواردة عن الإمام الصادق والتي استوضح منها كثير من
المسائل التي كانت مثار أخذ ورد بين المجتمع الشيعي حول طبيعة الإمام، فما أن ظهرت
هذه الفرق الجديدة على الساحة حتى رفض بشدة جميع الأفكار التي ترفع الأئمة فوق
بشريتهم، وقد جرى مرة بينه وبين المعلى بن خنيس.
أحد أصحاب الإمام الصادق حوار
حول هذا الموضوع إذ قال ابن أبي يعفور أن: الأوصياء علماء أبرار أتقياء، وقال ابن
خنيس: الأوصياء أنبياء، قال: فدخلا على أبي عبد الله عليه السلام قال: فلما استقر
مجلسهما، قال: فبدأهما أبو عبد الله(عليه السلام) فقال: يا أبا عبد الله أبرأ ممن
قال إنّا أنبياء. الذي يرى أن الأئمة هم في منزلة الأنبياء فما كان من الأمام إلا
أن دعم وجهة نظر ابن أبي يعفور وخطأ المعلى بن خنيس بقوة.
نالت آراء عبد الله بن أبي
يعفور الصريحة والشديدة تأييد واسع من قبل المجتمع الإمامي في ذلك العصر، وتجلى
ذلك في موكب تشييع جنازته الذي شاركت فيه جموع غفيرة من الشيعة، وشن الغلاة
والمفوضة هجوماً شديداً على عبد الله بن أبي يعفور وأنصاره في حياته وبعد وفاته،
وكانوا يهاجمونه أحيانا أمام الإمام الذي كان باستمرار يؤيده ويشجب مخالفيه، وألقى
هؤلاء على الجماهير الحاشدة التي اشتركت في تشييع جنازته لقب مرجئة الشيعة، في
محاولة لاتهامهم بضعف العقيدة ؛ لأنهم يعتقدون أن الأئمة من جنس البشر وليس من جنس
الإله.
وقد ظهرت خلال عصر المهدي (158ـ
169هـ/774ـ785م ) فرقة شيعية تسمى اليعفورية تمتاز بآرائها المعتدلة لاسيما في
المسائل الخلافية، إذ لا تعد منكر الإمامة كافراً.
0 تعليقات