بقلم تييري ميسان
الحرب في أوكرانيا أصبحت خُدعة بصريّة. وراء مظاهر
اتّحاد النّاتو وتقويته عبر انضمام أعضاء جُدد، تحاول عدّة دولٍ مُهِمّةٍ أن تلعب
على الحَبلَين. في الواقع، جميع من لم يغرق في بحر البروباغاندا الّتي روّج بنفسه
لها يعلم أنّ مُخيّمه سيُهزم، ويبحث من الآن عن أعداءٍ جُدُدٍ في ساحات معارك
أُخرى. تحاول واشنطن أن تتأقلم مع الانتكاسات وأن تشدّ صفوفها.
في الواجهة، يؤكّد النّاتو أنّ "جنون بوتين"
قد زاده قوّة، وأنّ أوكرانيا تُهاجم "المُحتلّ" وتردّه بعد تسليحها
بقوّة من قِبل الغرب.
على
الصّعيد الدّولي، العقوبات تنجح، كما أن السّويد وفنلندا اختارتا الإنضمام إلى
الحلف لشهورهما بالتّهديد. قريباً سيُطيح الرّوس "بالديكتاتور" القابع
في الكرملين.
ولكنّ الوقائع تُناقض هذه الرّواية الجميلة: فقط ثُلثُ
الأسلحة الغربية تقريباً يصل إلى الجبهات. الجيش الأوكراني مُنهك، ويتراجع على
جميع الجبهات، دون أن تُؤثّر بعض الانتصارات الصّغيرة على المجرى العام للأحداث. ثُلثا
الأسلحة الغربية، خصوصاً الثّقيلة منها، أصبح متوفّراً في السّوق السّوداء في
البلقان، خصوصاً كوسوفو وألبانيا، اللّتين أصبحتا عُقدتَي المُواصلات الأساسيّتَين.
أمّا العقوبات الغربية، فهي تزيد من خطر وقوع مجاعة، ولكن ليس في روسيا، بل في
بقيّة انحاء العالم، خصوصاً أفريقيا. تمنع كرواتيا وتركيا انضمام دولٍ جديدةٍ إلى
حلف النّاتو. من المُمكن إقناعهما، ولكنّ كلفة ذلك هي تغيّرات سياسية عميقة يرفض
الغربيّون القيام بها منذ فترة طويلة.
حتّى إذا كانت روسيا تملك الحكمة اللّازمة
للتَّمَنّع عن الاحتفال بصخبٍ شديدٍ عند انتصارها (مثلما تمنّعت في سوريا)، ستظهر
نهاية هذه الحرب على أنّها هزيمة أكبر تحالفٍ عسكريٍّ عرفه التّاريخ: النّاتو. الانتصار
سيكون مُبرماً، بعد أن تدخّل الحلف في مجرى القتال، بينما كان قد حافظ على مقعده
الجانبي في معارك سوريا. العديد من الدّول الخاضعة لواشنطن ستحاول أن تفكّ أغلالها.
على الأرجح، سيحافظ القادة المدنيّون على توجّههم الرّوحي نحو الغرب، بينما
سيتوجّه القادة العسكريّون بسرعةٍ أكبر نحو موسكو وبِكين. في السّنين القادمة،
ستُخلَط الأوراق من جديد. لن يتعلّق الأمر بالانتقال من سُطوة واشنطن إلى سُطوة
منتصرين جُدد، بل بِخلق عالمٍ متعدّد الأقطاب، حيث يصبح كلّ لاعب مسؤول عن نفسه. أي
أن اللّعبة ليست من أجل إعادة رسم مناطق النّفوذ، بل انتهاء العقليّة الهرميّة
الّتي تخلق تسلسُلاً عمودياً بين الشّعوب.
إذا عالجنا الأمور من هذا المنظور، يُصبح الخطاب
الغربي مُذهلاً.
العديد
من خُبراء العالم القديم يُؤكّدون أنّ روسيا تُعيد بناء إمبراطوريّتها، مع
احتلالها لِأوسّيتيا، القرم، واجتياحها للدّونباس اليوم. يُعيد هؤلاء الخُبراء
كتابة التّاريخ، مُستعينين بتصريحاتٍ مُزيّفةٍ ينسبونها للرّئيس بوتين عندما يقتضي
الأمر. جميع من يدرسون روسيا المُعاصرة ويتأكّدون من المُعطيات يعلمون أنّ كلّ هذا
غير صحيح. لا علاقة لِانضمام القرم (وقريباً الدّونباس، أوسّيتيا، و ترانسنيستريا)
إلى روسيا بِبناء إمبراطورية، بل بِإعادة توحيد الأُمّة الرّوسية، الّتي تقطّعت
أوصالُها عند انهيار الإتّحاد السّوفياتي.
التّوتّرات تتصاعد (١٨) كندا والبنديريّون
ضمن هذا الإطار، بات جزءٌ من القادة الغربيّين
يعترضُ على خيارات عرّابه الأمريكي. كانت هذه الظّاهرة قد حصلت سابقاً خلال فصلٍ
من الزّمن، في فترة انتهاء ولاية الرّئيس الفرنسي نيقولا ساركوزي. بعد أن رأى
الكارثة البشريّة الّتي ساهم في التّسبُّب بها في ليبيا وفشله في سوريا، قَبِلَ
ساركوزي بأن يُناقش اتّفاقية سلامٍ على حِدة مع هذا الأخيرة. ولكنّ واشنطن استشاطت
غضباً من تصرّفه المُستقلّ، ودبّرت هزيمته في الانتخابات لصالح فرانسوا أولاند. في
الأيام الّتي تَلَت وصوله إلى قصر الإيليزيه، أعاد هذا الأخير تشغيل مكينة الحرب
الغربية لعقدٍ من الزّمن. في هذه اللّحظة تحديداً قرّرت روسيا أن تتدخّل في سوريا.
خلال عامَين وضعت اللّمسات النّهائية على أسلحةٍ جديدة، ثمّ دخلت لِتُحارب
الجهاديّين المُسَلّحين من قِبل الغرب، والمُوجّهين من قِبَلِ النّاتو، عبر قاعدة
قيادته البرّيّة في تركيا.
إذا كانت خُرافات النّاتو قد هيمنت على الإعلام
الغربي، فإنّ دراساتنا عن تاريخ، أهمية، وموقع البنديريّين في أوكرانيا المُعاصِرة
قد انتشرت سريعاً بين قادة العالم بأسرِه. العديد من "حلفاء" واشنطن
باتوا يرفضون ان يدعموا هؤلاء "الأوكرانيّين"، مُتيقّنين أنّهم نيو-نازيّين.
في هذه المعركة، يرى "الحُلفاء" أنّ روسيا على حقّ. من الآن سمحت ألمانيا،
فرنسا، وإيطاليا لبعض الأعضاء في حكوماتهم بأن يتحدّثوا مع روسيا، دون أن يُعدّل
ذلك سياسات بلادهم الرّسميّة. ثلاثة أعضاء في الحلف الأطلسي، على الأقل، يخوضون
لعبةً مزدوجةً بِتأنٍّ. إذا ساءت أحوال النّاتو، سيكونون أوّل من يغيّر سياسته.
تماماً مثلهم، يُجري الكرسي الرّسولي اتّصالات ليس فقط مع البطريرك كيريل، بل مع الكرملين ايضاً. كلّ هذا بعد أن الفاتيكان قاب قوسَين أو أدنى من إعلان حملة صليبية جديدة ضدّ "روما الثّالثة" (موسكو)، وبعد أن تمّ نشر صورٍ للبابا وهو يُصلّي مع زوجات بنديريّي فرقة أزوف.
كلّ هذه الاتصالات، مهما كانت خفيّة، تثير غضب
واشنطن، الّتي تحاول من الآن أن تُقصي المُرسَلين السّرّيّين. ولكنّ إقالتهم
الرّسمية، تحديداً، تخدم هؤلاء، لأنّها تعطيهم مجالاً أوسعاً للتّفاوض.
المُهمّ
هو أن يتمكّنوا من إطلاع المسؤولين الرّسميّين عمّا يفعلون. اللّعبة خطيرة، كما أظهرت
هزيمة الرّئيس ساركوزي الانتخابية عندما حاول أن يستقلّ عن راعيه الأمريكي.
فرضيّة أولى: توسيع النّاتو قد يكون تأكيداً لهدفه
الوجودي الجديد
فلننظر إلى الأحداث عن بُعدٍ أكبر، لِنرى كيف يمكن
أن تذهب الأمور.
لكي تقبل تركيا وكرواتيا بِانضمام فنلندا والسّويد
إلى النّاتو، سيتوجّب أن يقبل هذا الأخير بِشروطهما. بالنّسبة لتركيا، يجب وضع حزب
العمّال الكردستاني والحِزمِت (حركة فتح الله كولِن) على لوائح المُنظّمات
الإرهابية ، إيقاف وتسليم أعضاءهم لتركيا، وإعادة إدخال الصّناعة الحربية
التّركيّة في برنامج بناء مُقاتِلات ف-٣٥. بالنّسبة لكرواتيا، يتعلّق الأمر بتغيير
القوانين الانتخابية في البوسنة والهرسك، لِتأمين المُساوات في السّياسة لِلأقلّية
الكرواتية هناك .
لا يُمثّل حزب العمّال الكردستاني عامّة الأكراد،
بل جزءاً منهم فقط.
في بادئ الأمر، كان هذا الحزب يعتنق الماركسيّة-
اللّينينيّة ويُحارب الدّيكتاتورية العسكرية التّركية خلال الحرب الباردة. بعد
إيقاف قائده وانهيار الإتّحاد السوفيتي، قفز حزب العمّال إلى المُخيّم الآخر،
وأصبح حزباً تحرُّريّاً في خدمة البنتاغون في الشّرق الأوسط. اليوم، أصبح حزب
العُمّال ميليشيا مُرتزقة تُشكّل غطاءً للاحتلال الأمريكي لسوريا. اعتباره
مُنظّمةً إرهابيّةً يعني إخلاء القوّات الأمريكية من سوريا وإعادة آبار النّفط
لدمشق.
فتح الله كولن هو الأب الرّوحي لِمُنظّمة خيريّة
هائلة الحجم، ومُتواجدة في عدّة بلدان. ترحيله من الولايات المتحدة واعتبار
مُنظّمته إرهابية يعني حرمان وكالة الاستخبارات المركزيّة من صِلاتٍ لها في العديد
من الدّول الإفريقية والآسيوية النّاطقة باللّغة التّركية. لا يمكن تخيّل ذلك في
واشنطن إلّا في حالة نشر قيادتها الإفريقية (أفريكوم) في القارّة، عناوةً عن
منفاها الحالي في ألمانيا.
المُفاوضات جارية لليوم: نشر الافريكوم في
صوماليلاند، مُقابل الاعتراف به دوليّاً.
نظراً لِلائحة الهجومات الطّويلة الّتي نفّذها حزب
العُمّال الكردستاني في تركيا، ولِمحاولة اغتيال الرّئيس إردوغان الّتي تبعتها
محاولة انقلاب في تمّوز ٢٠١٦ لعبت فيها الحِزب دوراً مُهمّاً، فإنّ مطالب أنقرة
شرعيّة.
إعادة تركيا إلى لائحة الدّول الّتي تُصنّع مُقاتلة
ف-٣٥ لا يُكلّف شيئا، ولكنّ شطبها كان ردّة عقاباً لها على شرائها، لمنظومة
الدّفاع الجوّي س-٤٠٠ الرّوسية. إرضاء أنقرة من أجل توسيع النّاتو في وجه روسيا
سيكون على الأقلّ مُتناقضاً وغير مفهوم. بالإضافة إلى ذلك، بناء مقاتلات ف-٣٥ علي
يد قوّةً لم تستحِ عن الطّعن بمزايا هذه الطّائرة المزعومة قد يكون مزعجاً.
أُسّسِت البوسنة والهِرسك على يد السّتراوسيّين (لم
يكن ريتشارد بيرل عضواً في البعثة الأمريكية، بل البوسنيّة، في فترة توقيع
اتّفاقات دايتون). تناغُماً مع طريقة تفكير السّتراوسيّين، تمّ تخيُّل كياناً
مُتجانساً، وبذلك تمّ إقصاء وتحييد الأقلّيّة الكرواتية (١٥٪ من السّكّان). لا
يُعتَرَف بِلُغتهم، ولا يتمتّعون بأيّ تمثيلٍ سياسي. القبول بالطّلبات الّتي
ترفعها كرواتيا بِاسمهم يعني التّخلّي عن الأسباب الّتي افتعل السّتراوسيّون من
أجلها حروب يوغوسلافيا (فصل الإثنيّات وتشكيل شعوباً مُتجانسةً ومُنفصلة). اليوم،
السّتراوسيّون هم من يتحكّمون بأوكرانيا.
إذا افترضنا تحقيق الشّروط
الثّلاث أو تحييد القادة السّياسيّين الّذين طالبوا بها، فإنّ توسيع الحلف الأطلسي
ليشمل السّويد وفنلندا من شأنه أن يُؤكّد التّغيّر في طبيعة النّاتو. لن يتعلّق الأمر
مُطلقاً بعد ذلك بِهيكلٍ هادفٍ إلى تأمين استقرار منطقة شمال الأطلسي كما تنصّ
معاهدة الحلف، وهو ما كان قد دفع الرّئيس الرّوسي بوريس يِلتسين، في عام ١٩٩٥، إلى
البحث بِجِدّيّةٍ عن إدخال بلاده في الحلف. بذلك، سيُكمل النّاتو تحوّله إلى إدارة
عسكرية أمريكية لِإمبراطوريّتها الغربيّة.
فرضيّة ثانية: العقوبات والدّعم العسكري الغربي
يهدفان إلى التّحضير لحروبٍ جديدة
فللنظر الآن إلى التّبعات الفعليّة للعقوبات الغربية:
لم يتحقّق الهدف المرجوّ من العقوبات، الّتي حاولت أن تعزل روسيا عن النّظام
المالي الدّولي. ما زالت هذه الأخيرة تُصدّر وتستورد ما تحتاجه، ولكنّها تضطّر إلى
تبديل البائعين والزّبائن. تقوم روسيا سريعاً ببناء نظامٍ موازٍ لنظام سويفت
المالي، بالاشتراك مع بقيّة دول البريكس (البرازيل، الهند، الصّين، جنوب إفريقيا)،
ولكنّها غير قادرة على مُمارسة التّجارة بشكلٍ مُباشرٍ مع بقيّة العالم. من الآن،
أصبح شراء سماد البوتاس مستحيلاً في إفريقيا، إذ أنّ روسيا وروسيا البيضاء هما
المُصدّرتان الأساسيّتان. بدأت ملامح مجاعةٍ تظهر، وقرع الأمين العام لمنظّمة
الأمم المُتّحدة أنطونيون غوتيريش ناقوس الخطر من الآن، مُطالباً الغربيّين برفع
حظرهم عن كلّ ما يخصّ سماد البوتاس.
في الحالة المُرجّحة، أي حالة عدم تغيير واشنطن
لموقفها، ستسبّب المجاعة حروباً جديدةً وموجات تهجيرٍ واسعةٍ نحو الإتّحاد
الأوروبي.
من المدهش أن أقل ما يقال أنه بعد سقوط ماريوبول ،
كانت الولايات المتحدة على استعداد لإرسال 40 مليار دولار إضافية إلى أوكرانيا حيث
خسرت بالفعل 14 مليار دولار أخرى. في الواقع ، لم يصل ثلثاهم إلى وجهتهم. تم
اختلاس هذه المبالغ. وقريباً ستتوفر أسلحة بقيمة 18 مليار دولار في كوسوفو
وألبانيا. إمّا نعتبر أنّ البنتاغون يرمي بِأمواله إلى النّيران، إمّا أنّه
يستثمرها عبر سحب هذه التّرسانة الهائلة من نطاق رقابة الكونغرِس.
بذلك، توجّهت نائبة وزير الخارجية الأمريكي في مجال
الشّؤون السّياسية فيكتوريا نولاند إلى المغرب في ١١ أيار، لِتترأّس اجتماعاً للائتلاف
الكونيّ ضدّ داعش. شاركت ٨٥ دولة في الاجتماع، مُمثَّلين بوزراء الخارجيّة. كما
كان مُتوقّعاً، ندّدت السّيّدة نولاند بعودة داعش، ليس في الشّرق الأوسط، بل في
السّاحل. دعت نولاند جميع الحاضرين إلى مُحاربة هذا العدوّ مع الولايات المُتّحدة
الأمريكية. ولكن، بما أنّ جميع الحاضرين قد لَحِظَ دعم البنتاغون الواسع
للجهاديّين في العراق وسوريا، جميع الدبلوماسيين الحاضرين فهموا أنّ العاصفة تقترب.
الأسلحة كانت تنقص لذلك، ولم يُرِد البنتاغون أن يُظهر دعمه للجهاديّين مُجدّداً. كلّ
ما عليه أن يفعله اليوم هو سَوقِ الأسلحة من البلقان، حيث تقبع في صناديقها
مُنتظرةً وصولها إلى مُستهلِكِيها النّهائيّين.
لن يُشكّل وقوع حربٍ في السّاحل أيّ مُشكلة: لن
تطال الحرب القوى الكُبرى، ولن تقتل غير الإفريقيّين. ستدوم الحرب مع دوام تمويلها،
ولن يتجرّأ أيٌّ من الحلفاء على الاعتراف بأنّ هذا الصّراع لم يكن ليكون إلّا بعد
اجتياحهم وتدميرهم لِليبيا. ستستمرّ الأمور مثلما كانت سابقاً: بالنّسبة لجزءٍ من
البشريّة، سيبقى العالم أُحادي القُطب، وستظلّ واشنطن عاصمته.
0 تعليقات