نصر القفاص
يمكننا أن نستفيد – بل
نتعلم – من الذين يؤيدون تجربة هذا الرئيس أو ذاك.. نحتاج آراء وتقييم الذين
ينحازون ويؤيدون هذه الجمهورية أو تلك.. لكننا سنهدر الوقت والطاقة, إذا حاورنا "الجهلاء
الجدد" أو اشتبكنا معهم.. لأن هؤلاء يتعاملون مع التاريخ على أنه "قصص
مسلية للأطفال" وينظرون للجغرافيا, كما نظرة "شادية" فى أغنية كان
ضمن كلماتها.. أين تقع فى الخارطة أوروبا؟.. وجاء الجواب: تبقى على شمال كوبرى
القبة!!
يعتقد البعض أننى
أسخر من كل "جاهل عصامى" وقد تكاثروا بصورة مفزعة.. بل أصبحوا متنفذين
ونجوم للمرحلة الأخيرة فى "الجمهورية الثانية" لمجرد أنهم يلمعون كما "السيراميك"
وقيمتهم تصنعها أجهزة ترى فيهم أدوات تحقيق الاستقرار!!
ورؤيتى يدعمها
ويؤكدها الدكتور "جلال أمين" الذى تناول هؤلاء فى كتاب "التنوير
الزائف" بقوله: "هناك طائفة من الكتاب والمثقفين المصريين فى هذه الفترة..
كما فى كل بلد من البلاد, وفى أى عصر من العصور.. يوجد دائما كتاب ومفكرين لا
تهمهم المبادىء فى قليل أو كثير.. إنما كل ما يهمهم هو مصالحهم الخاصة المباشرة.. والتى
تدور فى الأساس حول جمع مال أكثر وسلطة أكبر.. هذه الفئة تبحث دائما عن الجواد
الذى يبدو رابحا, فتراهن عليه وتعرض خدماتها لتتكلم بلسانه.. وتردد شعاراته"!!
عبر "جلال أمين"
عن رؤيته دون دهشة!!
أطرح رؤيتى مذهولا.. فقد
وصلنا إلى ما يتجاوز العبث!!
فى كل الأحوال علينا
أن نتوقف عن دخول "مزادات النفاق" إن شئنا البحث عن طريق للخروج من
النفق المظلم الذى أخذتنا إليه "الجمهورية الثانية" دون شك.. وللأسف قال
عنها "توفيق الحكيم" فى بدايتها أنها تمثل "عودة الوعى" وتمنيت
لو كان بيننا ليرى النتيجة ويقول كلمته.. لكن "لو" لا تفيد ولا تقدم
إجابة!!
إعتمدت "الجمهورية
الثانية" على تفكيك وهدم كل إنجازات "الجمهورية الأول" بداية من
تغيير شعارها الذى كان يقوم على "العزة والكرامة" واتخذت شعار "الرخاء
والرفاهية".. لنجد أنفسنا لم نحقق "الرخاء والرفاهية" وخسرنا "العزة
والكرامة".. كما خسرنا نهضة زراعية قامت على ضفاف إهم مشروع قومى فى العصر
الحديث – السد العالى – وخسرنا نهضة صناعية قامت على قلاع عملاقة من أسوان – كيما –
مرورا بنجع حمادى – مجمع الألومنيوم – وحلوان – الحديد والصلب – وليس انتهاء
بالمحلة الكبرى – الغزل والنسيج – وانتهى الرهان على "واشنطن" والغرب, إلى
أننا أصبحنا رهينة فى يد "البنك الدولى" الذى كان "عبد الناصر"
يراه قناع يلبسه "أحفاد دليسبس" وقال ذلك بوضوح فى خطاب تأميم قناة
السويس عام 1956.. وقد تناولت الخطاب بتفاصيله فيما سبق أن طرحته تحت عنوان "بوابات
الأموال القذرة"!!
عشرات السنوات لم
تتوقف خلالها "ماكينات الكذب والتزوير" عن صب اللعنات على "القطاع
العام" وصولا إلى تخريبه مع سبق الإصرار والترصد.. ثم كانت عملية تفكيكه, قبل
عرضه للبيع بأبخس الأثمان تحت عنوان "الخصخصة" الملعونة.. وما تبقى منه
تجرى عملية حرقه تحت عنوان "التخارج" الذى بدأنا نسمعه.. والحقيقة أن "الجمهورية
الأولى" عقدت آمالا على من نسميهم "المستثمرين" وكانت لديها الرغبة
والإرادة, فى أن يشاركونها البناء.. وحدث ذلك بعد ساعات من قيام "ثورة 23
يوليو"!
أصدق دهشة من يقرأ.. وقد تتبدد
الدهشة إذا عدنا للحقائق والوقائع!
تحمل الجريدة الرسمية
مرسوما صدر يوم 30 يوليو عام 1952, كان يحمل تعديلا للقانون رقم 178 لعام 1947.. ونص
التعديل على خفض نسبة المساهمة الإجبارية لرأس المال المصرى من 51 بالمائة إلى 49
بالمائة.. وهذا يعنى ببساطة أنه فتح الأبواب أكثر أمام الذين نسميهم "المستثمرين"
وأعطى "القطاع الخاص" أكثر مما كان يتمتع به قبل الثورة.. وقد حدث ذلك
استجابة لنصيحة قدمها "عبد الجليل العمرى" وزير المالية – آنذاك – وكذلك
الدكتور "أحمد حسنين" سفير مصر فى "واشنطن" خلال هذه الفترة..
وكانت رؤيتهما أن تلك الخطوة ستبدد خوف المستثمرين الأجانب, وتفتح أبواب التنمية
الصناعية.
أى أن "ثورة
يوليو" كانت تشغلها الصناعة بقدر ما شغلتها الزراعة.. وأن الثورة لم تستهدف "القطاع
الخاص" إطلاقا.. وتأكد ذلك بمرسوم صدر يوم 3 اكتوبر 1952, وبعد ساعات من
إعلان "قانون الإصلاح الزراعى".. وكان مرسوم إنشاء "المجلس الدائم
لتنمية الإنتاج الوطنى" ويمكن الرجوع لتلك الحقيقة – أيضا – عبر صفحات "الجريدة
الرسمية" ويومها نشرت الصحف أن الفكرة قدمها "أحمد فؤاد" الذى ترأس
مجلس إدارة بنك مصر فيما بعد.. وكان "مدنيا" مشاركا فى قيام "ثورة 23
يوليو" وله دور مهم وخطير فى أحداثها!!
أستطيع أن أضيف لذلك
حقيقة أخرى تقول أن قادة "الاتحاد السوفيتى" كانت رؤيتهم للثورة أنها
صناعة أمريكية.. وهو الزيف نفسه الذى تم ترويجه بدعم من مؤسس "الجمهورية
الثانية" وجماعة "الإخوان" حين أطلقوا عبر دار نشر إخوانية اسمها "الزهراء للإعلام العربى"
كتابا لواحد من الذين تم استخدامهم لضرب الثورة وزعيمها وقائدها.. واسمه "محمد جلال كشك" مؤلف
كتاب "ثورة يوليو الأمريكية" ورغم أنه صدر فى نهاية السبعينات, فقد تم
تجديد نشره – الطبعة الثانية – عام 1988 ليلقى ترويجا فى الصحف على نحو يثير
الذهول!!
الحرب على "الجمهورية
الأولى" لم.. ولن تتوقف!!
تزوير التاريخ تدور
عجلات ماكينته بسرعة, جعلتنا نسقط فى أيدى "أراجوزات التنوير"!
ويجب أن نعرف عن
الولايات المتحدة الأمريكية أنها اعتقدت فى إمكانية ترويض هؤلاء الذين تحركوا
لتحرير مصر, وصنعوا استقلالها.. بل انتزعوه بالدم والنار.. فقد لعب "جيفرسون
كافرى" السفير الأمريكي كل الأدوار الممكنة للتقرب من الثورة ورجالها.. فكان
سباقا فى إعلان دعم بلاده وتأييدها لقانون "الإصلاح الزراعى"!! ولم يكتف
بمجرد موقف.. بل تقدم بمشروع لإنشاء "المصلحة المصرية – الأمريكية للتطوير
الريفى" برأسمال مشترك تسهم فيه مصر بمبلغ 5,5 مليون جنيه مصرى, وتدفع أمريكا
3,5 مليون جنيه مصرى.. وتم الاتفاق على أن تقوم "المصلحة" باستصلاح
أراضى لإنشاء مزارع نموذجية يتم توزيعها على الفلاحين!!
حدث ذلك بعد أشهر
قليلة من صدور قانون "الإصلاح الزراعى"!
لم ترفض الثورة وقائدها أى
تعاون مع "الولايات المتحدة الأمريكية"!
كان السفير الأمريكى
فى عجلة من أمره لإظهار الدعم للثورة ومنهجها.. وتكشفت الحقائق فيما بعد.. فقد وصل
"جون فوستر دالاس" - وزير الخارجية - فى منتصف مايو عام 1953 فى زيارة
للقاهرة.. قدم التهاني و"التبريكات" مع استعداد بلاده لدعم الثورة ونظام
الحكم الجديد.. ثم عرض أن تنضم مصر إلى حلف دفاعى عن الشرق الأوسط.. كان الحلف
مازال فكرة, قبل أن يتم إنشاؤه باسم "حلف بغداد" الذى ناصبته مصر العداء
ثم دمرته.. لأن المنهج الذى قامت عليه "الجمهورية الأولى" يرفض التبعية
بكل أشكالها, مهما كان ثمن هذا الرفض.. وقد دفعته!!
مازلنا فى عام 1953, الذى
شهد صدور قانون أعفى الصناعات الجديدة من الضرائب لخمس سنوات, وأعفى الأرباح التى
تتحقق من نصف الضرائب, إذا تم إعادة ضخها فى مشروعات صناعية جديدة – قانون 30
يونيو 1953 – وبعدها بشهور تم الإعلان عن إنشاء شركة "الحديد والصلب" وجاء
فى الإعلان عن المشروع, أن "البنك الصناعى" مع "بنك مصر" سيقوما
بالتنفيذ فى حفل مشهود يوم 10 فبراير عام 1954.. وكانت المفاجأة خلال الحفل إعلان
موافقة شركة "ديماج" الألمانية على المشاركة بالاستثمار فيه.. ثم تم
الإعلان يوم 18 مارس 1954 عن اتفاق مع شركة كهرباء فرنسا على تنفيذ برنامج إدخال
الكهرباء فى طول البلاد وعرضها.. وأنه مشروع واستثمار طويل الأجل لمدة عشرين سنة!!
هنا نتوقف لنقلب فى
صفحات مذكرات "كيرمت روزفلت" أحد أبرز رجال المخابرات المركزية
الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط.. فقد قال: "كان الوزير دالاس – وزير الخارجية
الأمريكى – يعتبر كل عمل لا يتفق مع سياسته غير أخلاقي.. لذلك اعتبر عبد الناصر
رجل غير أخلاقي.. وبفحص وثائق وزارتى الدفاع والخارجية مع المخابرات المركزية.. ستكتشف
بسهولة مثاليتنا فى العلن وانتهازيتنا فى السر.. وأن ما هو خير للولايات المتحدة
الأمريكية, هو خير للعالم أجمع كما كان يقول كثيرا الوزير دالاس"!!
كل ما أطرحه من
معلومات.. تم دفنها بمجرد رحيل "عبد الناصر"!!
كل هذه الحقائق أنفقت
"واشنطن" الملايين على أصدقائها – هكذا تسميهم – لكى ينفذوا لها ما
أرادت, بتشويه "الجمهورية الأولى" ثم تمجيد مؤسس "الجمهورية
الثانية" والذين حكموا بعده.. ولا مانع عندهم من أن يتخلصوا بدم بارد, ممن
يرون أن عمره الافتراضي انتهى! وفعلوها مع عشرات الحكام فى آسيا وإفريقيا وأمريكا
اللاتينية كما يعرف الذين يقرؤون.. لدرجة أنه أصبح شائعا ما يردده الكافة "المتغطى
بأمريكا عريان"!! حتى دارت عجلات الزمن, لنرى لحظة شديدة الخطورة والأهمية.. فنحن
نتابع تداعيات الحرب "الروسية – الأوكرانية" وهى فى حقيقتها الحرب "الروسية
– الأمريكية" وهى ليست موضوعنا.. لكن الإشارة واجبة لكى أضع خطوطا تحت "سخرية
القدر" التى تقدم لنا حيادا تمارسه دول الخليج, الذين كانوا يباهون الأمم
بأنهم الشريك الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية.. وكم كان مدهشا أن نقرأ
ونسمع – دون تكذيب من الجانب الأمريكي – حول رفض حاكم الإمارات وكذا حاكم السعودية
الرد على محاولات من يسمى نفسه "سيد البيت الأبيض" فى الاتصال بهما.. أى
أننا احتجنا إلى أكثر من نصف قرن على رحيل من فعلها – عبد الناصر – وصانع منهج "الحياد
الإيجابي" ثم شارك فى تأسيس "كتلة عدم الانحياز".. لكى نعرف أن ما
فعله كان صوابا.. بعد أن وظفوا "خدم الملكية والاستعمار" لهدم تجربته
وتشويهه.. تاريخا يتحداهم بصمته.. أو قل بمحاولات كتم صوته!!
الذين حاربوا "الجمهورية
الأولى" وقائدها وزعيمها.. ينحنوا تقديرا لهما!!
والذين كانوا وراء "الجمهورية
الثانية" ورؤسائها.. تخلصوا منهم بأساليب مختلفة!
بعد رحيل "عبد
الناصر" بسبعة عشر عاما.. كتب "سالزبرجر" وكان كاتبا رفيعا فى "النيويورك
تايمز" مقالا فى ذكرى رحيله – سبتمبر 1987 – قال فيه: "عبد الناصر لم تكن
لديه خطوط مفروضة على تفكيره أو موضوعة مقدما.. كان يدير سياساته حسب الظروف
المحيطة به.. هو شخصية عالمية تتسم بخيال خصب مقرون بشعور عاطفى.. إن هذا المصرى
جم النشاط يعيد إلى ذاكرة العرب, ملايين العرب فى العصر الحديث, القائد البطل صلاح
الدين الأيوبى, الذى ظهر كأسطورة فى قلب الصحراء منذ حوالى 800 سنة ليهزم ريتشارد
قلب الأسد والصليبيين.. والواقع أنه لم تظهر شخصية عربية تمتعت بحب الجماهير فى
الشرق الأوسط مثل شخصية جمال عبد الناصر, الذى تتطلع بلاده إلى القيام بالدور
الحائر وينتظر بطل فى الشرق"!!
صحف أمريكا ترى فى "صلاح
الدين الأيوبى" أسطورة!!
شاشات مصر بعدها
بسنوات تقدم "مدعى" يطعنه ويشوه تاريخه!
صحف أمريكا تكتب عن "عبد
الناصر" بكل احترام.. وعندنا سفهاء يهيلون عليه التراب لحساب أسيادهم.. وإن
كنت أعود لكاتب أو كتاب, فهناك مئات كتبوا المعنى ذاته.. فهم لا يمكن أن يجعلوا "نجوم
السيراميك" أصحاب قيمة أو مكانة.. ولأن اللصوص عندهم مكتوب عليهم "الجرسة"
والسجن.. وعندنا مكتوب علينا أن يكونوا "نجوم مجتمع"..
يتبع
0 تعليقات