آخر الأخبار

الفيض الإبراهيمي جسر للإبراهيمية الجديدة (3)

 




 

محمود جابر

 

سبق ان قلنا فى المقال السابق أن الولايات المتحدة الأمريكية عملت على إيجاد إستراتيجية جديدة تعتمد على رجال الدين والقادة الروحيين للقيام بدور عجزت عنه الدبلوماسية السياسية التقليدية، يهدف هذا المشروع عمل مشاريع بحثية تجمع ما بين الشخصيات الدينية فى الأديان المختلفة، كمشاريع الإيمان المشترك بين الأديان الإبراهيمية، وهذا مشروع يشرف عليه كلام من جامعة جورج تاون ونوتر دام، بالإضافة لدور الذى يقوم به كلا من مركز الدراسات الإستراتيجية الدولية، ومعهد الولايات المتحدة للسلام، وقد قام الرئيس الايرانى السابقة بالتعاون مع تلك المراكز خلال فترة رئاسته وما بعده، كمدخل للحوار الامريكى الايرانى، وهناك دور مشابه تقوم به تركيا بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، كما تقوم العربية السعودية بدور مماثل ، في السنوات الأخيرة، دخلت دولة الإمارات العربية على الخط وبقوة. وتساوق ذلك بالتأثير أو العمل المشترك مع دعوة الأزهر ومجلس الحكماء ومنتدى تعزيز السلم - من رفْع لواء التسامح والتعارف إلى الدخول من طريق المشترك الإبراهيمي، إلى وثيقة الأخوة الإنسانية بين شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان (4 فبراير/ شباط 2019)، إلى ميثاق حلف الفضول الجديد من جانب منتدى تعزيز السلم، ورئيسه الشيخ عبد الله بن بيه، عام 2019 أيضاً. وقد انطلق كلا الإعلانين من أبوظبي كما هو معروف.

 

محاولة التقاط الموضوع هو أشبه بتجميع الملح من الرمل، فقبل عقود ثلاثة مضت أصدر القس اللاهوتى الكاثوليكي هانس كينغ كتابا بعنوان: "الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي: المخطط الاستعماري للقرن الجديد".

 

مع العلم أنه لا يمكن القيام بتأسيس أى عمل (ابراهيمى) يرتكز على شخصية النبي إبراهيم الا كان معتمدا ومؤسسا على قاعدة لاهوتية بحتة، فكرت فيها أوساط كاثوليكية يسوعية وفرنسسكانية في خمسينات القرن العشرين تحت تأثير المستشرق البارز لويس ماسينيون (ت. 1961م)، ومن ضمن أنصارها رجال دين فرنسيون وإيطاليون وسويسريون (هانس كينغ)، ومن اللبنانيين ميشال حايك الذي كتب أُطروحة عن إبراهيم في القرآن، ويواكيم مبارك، وكلا الكاهنين من تلامذة ماسينيون، فكانت لذلك كلّه أصداء واسعة في مجمع الفاتيكان الثاني (1962 - 1965) ووثيقته النهائية.  التى تحمل عنوان "حصرية الحقيقة والخلاص؛ تقول وثيقة المجمع إنّ اليهود والمسلمين يشاركون في الخلاص، باعتبار الوحدانية، وباعتبار الدعوة الإبراهيمية الجامعة، كما يظهر في العهد القديم وفي القرآن. وهذا القاسم المشترك الكبير تأسست عليه كل دعوات الحوار منذ الستينات. وفي البداية، ما تحمس لذلك لاهوتيو اليهود، ولا الإنجيليون البروتستانت، كلٌّ لأسبابه الخاصة التاريخية والعقدية.

 

وللحقيقة فعملية استخدام الدبلوماسية الروحية، ليست جديدة ولا هى من بنات أفكار اوباما، بل أنها تسبقه بعقود حينما استخدمت فيها أمريكا الكنائس الإنجيلية الأميركية (في مؤتمر بباكستان، ومؤتمر ببحمدون في جبل لبنان)، وكان هناك عنوانان شديدا الالتصاق بالمسائل السياسية، وهما الإيمان والحرية، في مواجهة الإلحاد والاستبداد الشيوعي. كان المدعون من الجانب المسلم من غير الرسميين ودونما ذكرٍ لإبراهيم، و في الثمانينات من القرن الماضي، أيام الرئيس ريغان بطل حرب النجوم، وفي الوقت نفسه لاجتذاب البابا يوحنا بولس بداعية الثوران في بولندا. وفي السياق ذاته، حتى الثوار الأفغان صاروا مجاهدي الحرية والإيمان في وجه الطغيان الشيوعي!

 

السردية الإسلامية تتوازى مع السردية اليهودية في التحدر من إبراهيم نَسَباً من خلال إسحاق (جد الأسباط الاثني عشر) وإسماعيل (الجد الأعلى للنبي محمد)، ودعوةً من خلال الوحدانية. لكنّ الجدال الأول بشأن الانتساب إلى إبراهيم ما جرى مع اليهودية، بل مع المسيحيين بالجزيرة والشام. المسلمون عدوا أنفسهم توجُّهاً أو فرعاً (الحنيفية) في الشجرة الإبراهيمية الباسقة، فحتى الكعبة بمكة تشارك في بنائها إبراهيم وابنه إسماعيل من هاجَر. وقد كانت الدعوة المحمدية تهديداً لليهود في الواقع، أما في الاعتقاد فقد تنكروا لكلا الدينين، بصفتهم الوارثين الحصريين لإبراهيم ديناً وأرضاً، في حين كان الأمر مختلفاً تماماً لدى المسيحيين، فالشخصية المركزية في الدين هي المسيح، وبه يُعلَّلُ وجود العالم كلّه، بما في ذلك وجود إبراهيم الذي كان، مثله مثل كل الرسل السابقين، مبشِّراً بالمسيح.

 

وكانت هذه عقدة تحتاج الى بحث معمق لحلها من خلال فكرة لاهوتية ... كان خيطها الأول محى الدين بن عربي أو الخط الصوفى، لاسباغ فكرة واحدة جامعة لحل فكرة المركزية الدينية سواء فى الإسلام أو اليهودية أو المسيحية .

 

وإلى هذا الأفق الجامع أراد الرئيس السادات إسباغ كامب ديفيد  بفكّر تجعله يتجاوز السلوك السياسي والمأزق الداخلي فزعم انه يقوم بعملية سلام إبراهيمي!!

 

ثم ما لبست دعوة السادات، وما سبقه من دعوات وأعمال أن أطلت برأسها بعد عام 2001 بكثافة وإلحاح وحضور رسمى ورعاية رسمية، ولكن هذه المرة لابد ان يكون هناك تأسيس يتجاوز السياسى ويؤسس على قواعد لاهوتية، وكانت فكرة الفيض الالهى فى خلق العالم هى الفكرة المركزية التى يمكن ان يؤسس عليها هذا اللقاء، من خلال الفيض الإلهي في المسيحية واليهودية والإسلامية الصوفية والإمامية...


يتبع 


الفيض الإبراهيمي جسر للإبراهيمية الجديدة (2)

إرسال تعليق

0 تعليقات