نصر القفاص
يفرض الواقع على مصر
صياغة منهج جديد للحكم!
صعب جدا العودة إلى منهج "الجمهورية
الأولى"بصيغته التى وضعها "جمال عبد الناصر" وبكل ما حفلت به
تجربته من انتصارات كثيرة وعظيمة, وانكسارات خطيرة!! ومستحيل الاستمرار فى الأخذ
بمنهج "الجمهورية الثانية" الذى تركه "أنور السادات" لخلفائه..
فهذه الجمهورية – الثانية – تتعرض لعواصف بدأت بانتفاضة 18 و19 يناير عام 1977.. وأخذتها
صدمة 6 اكتوبر عام 1981 أدخلتها فى حالة دوار, حتى تمكن الرئيس الثانى – فى
الجمهورية الثانية – من استعادة توازنها بمناورات صغيرة.. وإذا كانت قد لطشتها
أحداث 25 و26 فبراير عام 1986, فقد استطاعت تجاوز هذا التحدى.. حتى اعتقدنا
بسقوطها فى 25 يناير 2011, بانكسار الفساد كأحد طرفى معادلة الحكم, إلا أن الطرف
الثانى متمثلا فى الإسلام السياسى بقيادة "جماعة الإخوان" أعطاها قبلة
حياة!! فكان ما حدث فى 30 يونيو 2013 الذى يمثل أهم وأغلى الفرص الضائعة على مصر
فى العصر الحديث!!
أجتهد وأقول كلمتى مع
إدراكى أن ثمنها قد يكون فادحا!!
لكننى تعلمت من "طه
حسين" القائل: "أنا مدين لمصر بما أكتبه.. لأنى لم أتعلم لأنتفع وحدى
بما تعلمت.. وحق على كل مصرى أن يبذل ما يملك من قوة لإصلاح ما أصابها من فساد.. لأن
الوطنية الصحيحة تعمل ولا تعلن عن نفسها".. كما علمنى "عميد الأدب
العربى" أن: "الاختلاف على تقسيم الثروة ونظام الحكم.. كان وسيظل دائما
مصدرا للثورات"!! وقد أفاض الشرح فى كتابه "الديمقراطية" الذى أعده
وقدم له بإبداع "إبراهيم عبد العزيز" وترك بين دفتيه دروسا لمن أراد أن
يعلم أو يتعلم.. وغير هؤلاء وجودهم ضرورى لنعرف قيمة الضحك ومعنى البكاء!!
يعلم من يدقق فى
قراءة التاريخ أن ثورة 1919 كانت فرصة ضائعة, وتأكد ذلك بعد عشرات السنوات بقيام
ثورة 23 يوليو.. ثم كانت ثورة 30 يونيو 2013 فرصة ضائعة, رغم أنها استردت ثورة 25
يناير 2011 التى سرقتها "جماعة الإخوان".. وشاء الذين يرفضون منطق
التاريخ, التمسك بمنهج "الجمهورية الثانية" بعد أن وجدوا من استعان بهم,
باعتبارهم يعتقدون فى أن الوطن سوق يخضع لقواعد البيع والشراء!! وتم الأخذ بنظرية "الخداع
الاستراتيجى" للمؤيدين والمعارضين.. للحلفاء والأعداء. للباحثين عن قيمة وطن,
وكذلك الباحثين عن قطعة من لحم الوطن.. وإذا كانت "ثورة 1919" إستمرت
عشرات السنوات تصارع وتحاول البحث عن الاستقلال.. فإن "ثورة 30 يونيو" لا
تملك رفاهية هذه المساحة الزمنية الطويلة بحكم تغييرات كثيرة وجذرية, عاشتها مصر..
إضافة إلى تغيرات شديدة السرعة يشهدها العالم بأثره, وفى قلبه العالم العربى مع
إفريقيا اللذين يمثلان المجال الحيوى لمصر.
مثير أن نتذكر قولة
الشيخ "عبد المجيد سليم" وكان شيخا للأزهر, ورفض الصمت على منهج الحكم
الملكى.. عندها أطلق صيحته: "تقتير هنا.. وإسراف هناك".. ولأنها جملة
كانت كالصاروخ وقت أن كان "فاروق" ملكا.. فقد دفع ثمنها راضيا, عندما تم
عزله من مشيخة الأزهر.. لأن الرجل رفض أن يعيش الملك وكل من حوله فى بذخ, وتركوا
الشعب فقيرا.. جائعا.. حافيا.. باعتبار أن المشروع القومى لحكومات "الولد
الذى حكم مصر" واسمه "فاروق" كان يتمثل فى "مكافحة الحفاء"!!
وكانوا يطالبون الشعب بالصبر والصمت, مع خداعهم بأن موعدهم الجنة فى الآخرة.. وهى
المعانى التى سخر منها "جمال عبد الناصر" فى خطاب شهير, طرح فيه سؤال.. لماذا
الآخرة للفقراء والدنيا للأغنياء؟! ثم خاطب "خدم الملكية والاستعمار" قائلا:
"لماذا لا تأخذوا نصيبا من الآخرة, مقابل جزء كنصيب للفقراء فى الدنيا؟!"..
وهؤلاء الذين حاولوا الانتصار لصاحب نظرية "الخداع الاستراتيجى" ومعادلة
الحكم القائمة على "الفساد والإخوان" فقالوا عن أنفسهم "ساداتيين"
ربما لمواجهة الذين تاجروا بتجربة "عبد الناصر" حين رفعوا راية "الناصرية"
وتحالفوا مع كل الذين تربصوا بتجربة
"23 يوليو".. وقد
أصبحوا مكشوفين بما لا يحتمل شكا.. والطرفين استعارا لغة حوار كانت سائدة بعد "ثورة
1919".. عندما اختلف "سعد زغلول" مع "عدلى يكن" فرفع
مناصرى الطرف الأول راية "الزغلولية", أمام أنصار الطرف الثانى الذى راح
يلوح براية "العدلية".. ولما انكشفت اللعبة وانصرف عنها الشعب, عبر عنها
فن الكاريكاتير برسمة تظهر اثنين من المواطنين.. أحدهما يقول للآخر: "إنت
وفديست وللا عدليست؟!.. فرد من تلقى السؤال: أنا فلست"!!
من هنا يجب أن نراجع
تجربتى "الجمهورية الأولى" وكذلك "الجمهورية الثانية" بعيدا
عن الذين يتاجرون باسم "عبد الناصر" وأولئك الذين يستثمرون ويتربحون من
اسم "السادات" لأن الأغلبية الساحقة أصبحت تقول: "أنا فلست"!!
ولما كان تاريخ مصر فيه الكثير الذى يجب أن نتذكره بعد أن نعلمه.. فلا يجب أن ننسى
صراخ الشعب ضد أحد حكامه قبل أن يطل زمن "محمد على" عندما ألهب الحاكم
ظهر الشعب بسياط الضرائب, وكان اسمه "البرديسى" فخرج الشعب عليه هاتفا:
"إيش تاخد من تفليسى.. يا برديسى"!! كل هذه الوقائع والمراحل والتجارب, ونتائج
ما حدث خلالها يدخل فى صلب معنى "بناء الوعى" بمعناه الصحيح والدقيق.. لأن
"الوعى" ليس نفاقا ولا ارتزاقا بالكذب والخداع!!
المؤسف أن تجاربنا
درسها الأعداء بعمق وأمانة.. ولعلى أذكر شهادة كتبها أحد السفراء للولايات المتحدة
الأمريكية فى "زمن عبد الناصر" وتركها كوثيقة بين دفتى كتاب عنوانه "ذكريات
الشرق الأوسط" عن فترة عمله بالقاهرة ما بين أعوام 1961 و1964.. وضمن شهادته
على القطاع العام وقرارات يوليو الاشتراكية يقول: "حينما صدرت القوانين
الاشتراكية كنت سفيرا فى القاهرة.. ثارت وقتها ضجة حولها, فقررت تكوين فريق عمل من
رجال السفارة لدراستها بدقة.. إنتهينا إلى أن حجم القطاع العام الجديد فى مصر, أقل
منه فى إسرائيل والهند وفرنسا وبريطانيا.. بل أقل من حجم القطاع العام فى الولايات
المتحدة الأمريكية.. وتأكدنا أن ناصر لا يصادر القطاع الخاص, ولم يغلق الطريق أمامه..
بل على العكس كانت قراراته لتحفيزه ودفعه للمنافسة, فى ظل اقتصاد مختلط كما فى
الدول التى ذكرتها"!
يمضى "جون بادو"
فى كتابه الذى تركه للتاريخ ليقول: "لقد توصلنا وتأكدنا أن 18% من قوى
الإنتاج هى التى تم تأميمها.. وعند المقارنة سنجد أن القطاع العام فى إسرائيل يمثل
نسبة 30% من قوى الإنتاج – فى نفس الوقت – وفى الصين كان القطاع العام يمثل 25%.. أما
الولايات المتحدة الأمريكية فقد كان القطاع العام يمثل 29% من قوى الإنتاج"!!
الكتاب تم إخفاؤه رغم
ترجمته للعربية فى زمن "الجمهورية الثانية"!!
هنا قد تسألنى.. كيف
تم إخفاؤه؟!.. وأجدنى مضطر للاستئذان فى تأجيل الإجابة, لأنها ستأتى فى سياق آخر..
المهم أن هذه شهادة لصالح "القطاع العام" والهدف من تأسيس وبناء قاعدته
التى أنقذت مصر قبل حربى 1967 و1973.. وثمن هذا "القطاع العام" الذى
تجرى عمليات هدمه وبيعه وصلت إلى ترليونات تم نزحها منه.. ومازالت العملية مستمرة
تفكيكا وهدما وبيعا, ويصاحب ذلك حملات تصب اللعنات عليه وتطول الذى أبدعه.. حتى
وصلنا إلى زمن سمعنا فيه من وزير يفاخر بأنه حفيد "الخديوى إسماعيل" يقف
أمام "مجلس النواب" ليقول عن أهم وأكبر القلاع الصناعية – الحديد والصلب
– أن ثمنه لا يساوى عشرة قروش!! مع أنه يعلن أن أرضه فقط بعشرات المليارات!!
السفير الأمريكى أنصف
"القطاع العام"!!
وزير مصرى أهال
التراب على "القطاع العام"!
للإنصاف.. ليس حفيد "الخديوى
إسماعيل" فقط الذى ارتكب هذه الجريمة.. بل سبقه إليها وزراء ورؤساء وزارات.. وكل
منهم كان ينال تقديرا من رؤساء "الجمهورية الثانية" الذين أخفوا شهادة
سفير أمريكى, وراهنوا على "مطابخ أمريكية" لها توجهات أخرى.. قد يقول
البعض أن ما ذكره السفير الأمريكى الأسبق, كان وجهة نظر.. هنا أجدنى مضطر إلى
توضيح وتأكيد ما تركه السفير كوثيقة, بأنه كان نتيجة دراسة قام عليها فريق عمل
أمريكى!! وفى كتابه نفسه يضيف السفير – جون بادو – قائلا: "لمزيد من
الاطمئنان من جانب واشنطن, فقد أوفد الرئيس جون كنيدى مبعوثا خاصا هو الدكتور
إدوارد ماسون أستاذ الاقتصاد الشهير.. وبعد أن قام بدراسة مفصلة للقوانين والأوضاع
فى مصر.. قدم تقريرا للرئيس الأمريكى خلاصته أنه ليس أمام ناصر طريق آخر.. أو أفضل
مما فعل"!!
مضى على رحيل قائد
وزعيم "الجمهورية الأولى" أكثر من نصف قرن.. وطوال هذه السنوات كان من
يحاول المشاركة فى "بناء الوعى" بتوضيح الحقائق يدفع ثمنا فادحا.. وكان
من يمارس "الكذب" و"التجارة" باسم "ناصر" يحصل على
مكافآت ثمينة, إذا شارك فى تشويه التجربة.. لأن لافتة "الناصرية" المزيفة
تروق كثيرا للذين يحلمون بقتل الحقيقة فى عقول وقلوب المصريين!!
ولعلنا يجب أن نذكر –
ونكرر – أن أول من قال "لن تغيب شمس الناصرية" كان "موسى صبرى"
فى مقال فى الأخبار يوم 30 سبتمبر عام 1970, ومعلوم بالضرورة أنه كان أبرز رجال "الجمهورية
الثانية" ومن رعيلها الأول!!
هنا سنجدنا نطرح
السؤال.. كيف عاشت "الجمهورية الثانية" هذا الزمن الطويل؟!
الإجابة.. هى ذاتها
عنوان هذه المحاولة للتفكير بصوت عال.. وهى نفسها سبب اجتهادى للقول أن مصر وصلت
إلى ما قبل "الجمهورية الثالثة" بخطوات قليلة.. لأن هذه الجمهورية
المنشودة لم تعد مجرد رغبة أو أمنية.. ولا حلما بعيد المنال.. فقد أصبحت ضرورة, ويجوز
لى القول أنها أصبحت مسألة مصير.. خاصة وأن أعداء "الجمهورية الأولى" وصلوا
إلى آخر حلقة فيما أرادوه بخلق مسافة واسعة وهوة عميقة, بين الشعب والمؤسسة
العسكرية.. ونحن نتابع ضرباتهم المتلاحقة ضد ما يسمونه "إقتصاد الجيش" وهم
فى هجومهم يستندون إلى شكل يصعب إنكاره.. أما المضمون والهدف فهما شىء آخر تماما..
لذلك رحت إلى تجربة "القطاع العام" كدرع للوطن, وكيف حاربوه وليدا كذبا
وبهتانا بشهادة رجال "واشنطن" حتى تأكدوا أنه راح يلفظ أنفاسه الأخيرة..
إستداروا لإنهاء المهمة بتوجيه نيرانهم تجاه المؤسسة العسكرية بدعوى "اقتصاد
الجيش" ويجب أن أكرر وأؤكد أن الدعوى مقبولة شكلا.. لكن الهدف لا يختلف عما
حدث قبل احتلال مصر بخيانة "الخديوى توفيق" الذى اختار الاستقواء
بالانجليز فى مواجهة الجيش بقيادة "أحمد عرابى" الذى كان ينادى
بالديمقراطية ويطالب بالدستور باسم الجيش الوطنى.. وعلينا فى تلك اللحظة أن نتذكر
أول قرار لقائد الاستعمار الانجليزي, وكان "حل الجيش المصرى"!
إذا كنا قد وصلنا إلى
مرحلة "أنا فلست" فيجب أن ينطق الضمير!
بما أننا أصبحنا فى "مفترق
طرق" بحق وليس ابتذالا للمعنى والكلمات.. يجب أن نصحو!!
يبدو كلامى هتافا.. لكن
العلامات التى أستند إليها, تجعله رؤية أقولها متجردا.. لأننى لا أدعى أننى "ناصرى"
ولا أحب أن أكون "ساداتى" لرفضى الذين يمارسون النصب تحت اللافتتين.. ولعلمى
أن "الوفدست" ومعهم "العدلست" سقطوا تحت أقدام القائل "أنا
فلست"!!
القطاع العام الذى تم
ضربه كان قد انطلق فى الستينات.. أما "الإصلاح الزراعى" الذى تم هدمه
فقد بدأ بعد قيام "ثورة 23 يوليو" بأربعين يوما تقريبا.. ويجب أن نتوقف
أمام البداية بهدم "الإصلاح الزراعى" من جانب "الجمهورية الثانية"
وأسباب ذلك.. فتلك معلومات ضرورية ومهمة يجب أن نعيد قراءتها وفهمها.. ربما لأننا
فى لحظة تشغلنا فيها كارثة "سد النهضة" وسلاح "القمح" الفتاك
كأحد ملامح الحرب على رقعة شطرنج اسمها "أوكرانيا"!! وستكون لنا عودة
إلى أساليب تدمير "القطاع العام" التى كانت تتلون كالحرباء بتغيير كل
رئيس من رؤساء "الجمهورية الثانية" باعتبار أن الصناعة كانت من أهم
أعمدة "الجمهورية الأولى"!..
يتبع
0 تعليقات