آخر الأخبار

الجمهورية الثالثة !! الأمن والسياسة (5)

 

 


 

نصر القفاص

 

كان الخطأ الفادح الذى وقعت فيه "الجمهورية الأولى" هو الخلط بين وظيفة الأجهزة، وطبيعة الممارسة السياسية.. ويجوز القول أنقلب إلى تداخل، بظهور ما سمى "التنظيم الطليعى" كجناح سرى داخل "الاتحاد الاشتراكي" باعتباره التنظيم السياسي الوحيد.. أدى ذلك إلى محاولات وزير الداخلية – شعراوى جمعة – إلى تعظيم دوره بأساليب أمنية.. ولما كان فعل ممارسة السياسة يقوم ويرتكز على العلنية.. وهو عكس فعل العمل الأمني الذى يقوم ويرتكز على السرية.. أى أن الفعلين متضادين.. وإذا حاول فرد أو جهاز ممارسة الفعلين معا, تقع الكارثة!! وقد وقعت بهزيمة يونيو, التى كشفت تفاصيل ما ذهب إليه جهاز المخابرات.. لذلك أعلن "عبد الناصر" إسقاط ما أسماه "دولة المخابرات"!!

 

يكشف لنا "ثروت عكاشة" فى مذكراته، واقعة تشير إلى أن "عبد الناصر" أدرك ضرورة الفصل بين عمل وزارة الداخلية وأجهزتها السرية.. وممارسة السياسة.. فيقول أنه فوجىء بأن "سامى شرف" مدير مكتب الرئيس ووزير رئاسة الجمهورية، يدعوه بإلحاح إلى التواجد فى المطار.. ليحضر مراسم توديع الرئيس الموريتانى – مختار ولد دادة – وكان الحدث قبل رحيل "عبد الناصر" بأيام قليلة.. ويوضح "ثروت عكاشة" أنه كان قد استأذن من الرئيس سابقا فى عدم المشاركة فى مثل هذه المناسبات الشرفية.. وأن "عبد الناصر" سمح له وقال أنه لا يفرض على الوزراء التواجد فيها.. ثم يكشف الواقعة ذات المدلول.. فيقول: "أنه – عبد الناصر – بمجرد أن صافح وودع الرئيس الموريتانى، إلتف نحو الحضور من المسئولين والوزراء.. ثم نادانى وسألنى عن سر تواجدى غير المعتاد.. ابتسمت وقلت.. قد أكون احتجت إلى أن أراك وأصافحك.. هنا ضحك الرئيس وقال لى سنجلس قريبا طويلا لأن عندى الكثير لأناقشك فيه.. ثم نادى على شعراوى جمعة وخاطبه بصوت مسموع أمام الجميع قائلا.. يا شعراوى توقف عن التقارير التى ترسلها لى عن ثروت عكاشة.. لأننى لو صدقتها لأعدمته عدة مرات"!!

 

رحل "عبد الناصر" وانتهت "الجمهورية الأولى" بكل ما لها وهو كثير.. وما عليها وهو خطير!!

 

تولى "أنور السادات" وراح يطبق منهج "الجمهورية الثانية" العكسى.. لكنه تمسك بأحد أخطر عيوب سالفتها, الذى تمثل فى الخلط بين فعلى السياسة والأمن!! وإن كان "زمن عبد الناصر" قد تميز بوجود حشد هائل من رجال الدولة حوله وكان لكل منهم وزنا ثقيلا.. فإن "السادات" اختار التخلص من أبرزهم بما أسماه "ثورة 15 مايو" والتى ماتت برحيله.. ورغم أنه اضطر للاعتماد على عدد كبير آخر منهم أمثال: "محمود فوزى" و"عبد القادر حاتم" و"عزيز صدقى" و"عبد العزيز حجازى", إلا أنه أسرع فى التخلص من كل المؤمنين بمنهج "الجمهورية الأولى" وراح يحاول إعداد رجال "الجمهورية الثانية" وأوكل المهمة إلى "ممدوح سالم" وزير داخليته الذى أصبح رئيسا للوزراء ورئيس أول حزب أغلبية – مصر العربى الاشتراكي – بعد الذهاب إلى التعددية.. ويجب الإشارة إلى أنه كان متميزا فى عمله الأمني, ومتفردا عندما مارس السياسة.. لذلك تخلص منه "السادات" وراح يعتمد على رجال أمن مختلفين بداية من "النبوي إسماعيل" الذى راح يعبث بأجهزة الأمن, ويتلاعب بكل أطراف الساحة السياسية.. وبتولى الرئيس الثانى – حسنى مبارك – فى "الجمهورية الثانية", أصبحت السياسة والأمن وجهين لعملة واحدة!!

 

ولأن ما حدث فى "25 يناير" كاد ينهى هذه المسألة, سنجد أن الساحة السياسية التى كان يسيطر عليها الباحثين عن فرصة فقط للنفوذ والثروة.. ذهب رموزها – إن جاز التعبير – إلى الأجهزة الأمنية وسلموا أنفسهم, لنصل إلى حالة غموض إن شئنا فصل الأمني عن السياسي.. وعلى التوازي كانت الأجهزة الأمنية قد حملت عبء المسئولية فى اختيار القيادات التنفيذية والسياسية والإعلامية.. وأصبح ذلك عمودا فقريا فى منهج حكم "الجمهورية الثانية" المستمرة فى مسارها!!

 الجمهورية الثالثة!! " معنى الاختيار" (4)

كشف ذلك "محمد حسنين هيكل" فى وثيقته بين دفتى كتاب "وقائع تحقيق سياسى" خاصة وأن الهيئة القضائية التى حققت معه, كانت تمارس عمل "لجنة انضباط حزبى" بمناقشته فى آرائه ومواقفه.. وكان الأخطر هو أن هذه الهيئة القضائية حققت معه فيما ورد إليها من تقارير أعدتها هيئة الأمن القومي – المخابرات – وأجهزة أمنية أخرى.. فقد سأله "المدعى العام الاشتراكي" قائلا: "يرى المحللون فى جهاز المخابرات أن مقالك.. تحية للرجال - وكان هيكل قد كتبه عام 1973 وقت أن كان رئيسا لمجلس إدارة الأهرام إلى جانب رئاسة تحريرها – أنك أوردت تفصيلات فى مقالك عن مسرح العمليات المنتظر بصورة خيالية ومبالغ فيها, ولأناس لا يعنيهم أن يلموا بصورة المعركة على وجهها الكامل!! وهذا فيه خفض لمعنويات جنود القوات المسلحة, وأن هذا المقال بث الرعب فى قلوب عائلات وجنود وضباط القوات المسلحة"!!

 

"هيكل" هنا متهم بذكر تفصيلات لأناس لا يعنيهم أن يلموا بصورة المعركة.. هؤلاء الناس هم قرائه من الشعب المصرى.. أى أنه أصبح متهما بممارسة مهنته.. ويكشف السؤال أن جهاز المخابرات كتب تقريرا ضد أحد أهم رجال "عبد الناصر" وأبرز الرجال الذين دعموا "السادات" فى صراعه للانفراد بالسلطة.. مع ضرورة الأخذ فى الاعتبار أنه كان وزيرا للإعلام, وقام بعمل وزير الخارجية لمدة شهرين!! والتحقيق فى الواقعة المذكورة يكشف إلى أى مدى أصبح السياسى والصحفى يمارسان عملهما, مع الوضع فى الاعتبار حالة رضى هذه الأجهزة عنهم!!

 

تفاصيل رد "هيكل" على السؤال كانت درسا فى أصول ممارسة مهنة الصحافة.. كما كانت درسا لكل من أراد أن يحترف ممارسة العمل السياسى.. لكن ما يهمنا أنه قال ضمن ما قال: "لابد أن أبدى تحفظى الشديد, لأن يكون تقرير كتبه جهاز المخابرات فى عصر مراكز القوى موضوعا لتحقيق معى بعد ثمان سنوات"!! ليكشف أن "أنور السادات" الذى أعلن انتهاء مراكز القوى, بقى يتعامل مع تقاريرهم وفكرهم ومنهجهم بتقدير.. ويتمسك بالخطأ البارز فى زمن "الجمهورية الأولى"!!

 

تتكرر أسئلة "المدعى العام الاشتراكي" القائمة على تقارير المخابرات, وأضاف إليها تقارير وزارة الإعلام.. فقد سأله فى موضع آخر: "إنتهى المعلقون فى جهاز المخابرات العامة ووزارة الإعلام, إلى أنك نشرت أربع مقالات أثارت التشكيك فى سلامة الإستراتيجية المصرية.. وهذا يسئ إلى سمعة البلاد"!!.. وبدأت إجابة "هيكل" بقوله: "أرى أنهم أطلقوا القول على عواهنه.. كعادة معظم كتاب التقارير فى أجهزة الأمن المصرية"!!

 

الأخطر من كل التفاصيل حول الأسئلة القائمة على تقارير أمنية.. وأن الذى يستند إليها قاض من هيئة قضائية.. أن "هيكل" حدثهم عن مقال نشره فى "الأهرام" يوم 20 ديسمبر عام 1968 بعنوان "أزمة الشك فى الصحافة المصرية" وذكر فيه: "إن حرية الصحافة لا يمكن أن يكون لها محك, إلا قدرة الصحافة على مناقشة القرار السياسى.. من الذى يحكم؟! ولصالح من يحكم؟! وما هو أسلوب الحكم ودستوره وقانونه وضوابطه وضماناته"!! وأضاف "هيكل" قارئا مقاطع من مقاله فقال: "المناقشة فى السياسة.. مناقشة القرار السياسى.. هو صميم الديمقراطية عندما تمارس حرية الصحافة.. أما مسائل المواصلات والإسكان والتليفونات إلى آخره.. فإن الحرية فيها مسألة فرعية"!!

 

الحقيقة أن لا "هيكل" ولا غيره تم معهم تحقيق على هذا النحو فى زمن "الجمهورية الأولى"!

 

والحقيقة أيضا أن أقصى ما كان يتعرض له هو قرار إداري من رئيس التحرير.. لكن الحقيقة أن الصحافة فى زمن "الجمهورية الثانية" أصبحت كما جسدها "لينين الرملى" فى فيلم "البداية" الذى أخرجه "صلاح أبو سيف" ثم وصلت إلى حالة دفعت أحد الوزراء ليسألنى عند إعلان آخر حركة تعيينات لرؤساء تحرير الصحف, فيقول لى: "هل رئاسة تحرير صحيفة تحتاج لأكثر من شهادة محو الأمية؟"! وحتى لا تتهمنى بالمبالغة سآخذك إلى جزء من إجابة "هيكل" على السؤال نفسه حين قال: "أخشى أن يجىء يوم يصبح فيه الرقيب على الصحفى, شعورا بالخوف قابع فى أعماق قلب أى صحفى.. لأن ذلك وضع أخطر من وجود رقيب أمامه.. يناقشه ويحاوره فيما يريد حذفه.. أو ما يسمح بنشره"!!

 

قال "هيكل" هذا الكلام عام 1978 واستعرض مقاله المنشور عام 1968.. وظنى أن المسألة لا تحتاج إلى تعليق أو إضافة.. لكنها تفرض الأسى والحزن على ما أخذتنا إليه "الجمهورية الثانية" لكى نصل إلى "زمن إعلام السامسونج" ويضاعف الأسى والحزن أن تفقد الصحافة قيمتها وقوتها وقدرتها وهيبتها.. ثم لا يبقى من الإذاعة غير "إذاعة الأغانى" أما "الفضائيات" فقد تحولت إلى مصدر هم بما تفجره من غضب فى النفوس, بعد أن احتل الشاشات "أراجوزات" يقدمون سخفا وكذبا ونفاقا رخيصا.. لدرجة أن "المنشورات العلنية" التى تحملها "وسائل التواصل الاجتماعي" أصبحت "الصداع المزمن" فى رأس كل مسئول!!

 

كان يمكن القول أن "الجمهورية الأولى" انتهت بهزيمة يونيو 1967.. لكن الشعب حين جدد الثقة فى قائده وزعيمه علق مسئولية تصحيح الأخطاء والجرائم فى رقبته.. وهو من جانبه استجاب بإعلان "بيان 30 مارس" الذى حفل بأقسى نقد ذاتى للنظام, ثم راح يعيد البناء ويحاول تجديد الثقة.. لكن "الجمهورية الثانية" رفضت الانفجار الشعبى فى 18 و19 يناير 1977 ووصفته بأنه "إنتفاضة حرامية" فكان الثمن قاسيا وفادحا.. كما تجاهلت "الجمهورية الثانية" فى عهد رئيسها الثانى – مبارك – إنذار 25 و26 فبراير 1986 وتحايلت عليه.. نجحت فى استهلاك الزمن.. ناورت معه وبه, حتى وصلنا إلى لحظة "خليهم يتسلوا" ثم كان ما بعدها!! ولما حاول الطرف الثانى فى معادلة الحكم – جماعة الإخوان – التمسك بالمنهج ذاته إستنادا إلى "الحق الإلهى" دفعت ثمنا جعلها تخسر "الجلد والسقط".. وكل ذلك جعلنا نطرح ضرورة أن نذهب إلى "الجمهورية الثالثة" التى أصبحت ضرورة حتمية.. لأن استمرار منهج "الجمهورية الثانية" فى نسخته شديدة الرداءة ينذر بما يتجاوز الخطر.. ربما يرجع ذلك إلى "الصدمة الشعبية المروعة" فيما حدث ويحدث بعد "30 يونيو 2013" الذى يسميه الدستور "ثورة" تفرض السؤال الذى تحدث عنه "هيكل".. من الذى يحكم؟!.. ولصالح من يحكم؟!

 

الإجابة على السؤال حددت ملامح منهج الحكم فى "الجمهورية الأولى".. كما أن الإجابة حددت ملامح منهج الحكم فى "الجمهورية الثانية" ويظل السؤال مطروحا.. وإجابته ستحدد منهج الحكم فى "الجمهورية الثالثة".. بعيدا عن الإعلانات والبروباجندا اللذان انتهى زمنهما بسقوط "الاتحاد السوفيتي" بعد انهيار "ألمانيا" قبل ذلك بنحو أربعين عاما.. فنحن وصلنا إلى زمن يقتصر فيه "الإعلان" على ترويج السلع.. وأصبحت "البروباجندا" شىء من الماضى, يستخدمه الذين لم يتعلموا – لأنهم لا يقرأون – التاريخ!!

 

ويراهن عليه الذين لا يحترمون – لأنهم لا يقرأون – علم الاجتماع.. ويعتقد فى "البروباجندا" الذين لا يقدرون – لأنهم لا يقرأون – قيمة الجغرافيا!! وكما قال هيكل فى التحقيق.. فى كتابه الذى تركه لنا: "مصر إذا عجزت عن دورها باعتبارها الطليعة والقلعة, فإن ما سوف يتبقى منها لن يكون إلا حشدا سكانيا هائلا.. يشكل عبئا على بقية الأمة العربية, ولا يعطيها ميزة تتحصن بها"!!

 

يأخذنى أمر ربى بأن "أقرأ", إلى مواصلة القراءة فى ماض أحترمه, وحاضر أتمنى أن يتغير بسرعة شديدة.. ومستقبل أدعوكم للتفاؤل به!!..

 

 يتبع



 

إرسال تعليق

0 تعليقات