نصر القفاص
قراءة التاريخ تمثل
بالنسبة لى رياضة عقلية، وسباحة فكرية.. وكشف الحقائق هدفه تبديد شكوكى تجاه الذين
تم توظيفهم ليمارسوا دور "النخبة", والأهم هو التفكير بصوت عال مع
المؤمنين بأن فعل "إقرأ" يمثل ركنا مهما من أركان العبادة!
أفهم أن يكون تزوير
التاريخ وتشويه الحقائق, سلاح يستخدمه أعداء وطن ومجتمع.. لكننى لا أفهم أن يمارس
الفعل ذاته.. أو يرتكب الجريمة نفسها حاكم أو مسئول.. وأفهم أن الذين تم تعيينهم
بدرجة "وزير" أو "نائب فى البرلمان" يمارس بعضهم الانتهازية
والنفاق..
لكننى لا أفهم
الاعتقاد فى أن "أراجوزات التنوير" يمكن أن يقتنع الناس, بأن ما يفرغونه
من معدتهم هو رأى أو موقف!!
أستطيع الزعم أن
المجتمع المصرى تجاوز حالة الذهول, إلى أعتاب الجنون لصعوبة استيعاب ما وصلنا إليه
بفعل "الجهلاء الجدد" الذين تكاثروا كالذباب.. خاصة وأن الذباب أصبح
يلقى كل الرعاية مع تجريم محاولات التخلص منه حفاظا على الصحة العامة!!
منهج تخريب الزراعة
وتدمير الصناعة, بدأ مع "الجمهورية الثانية" وكان يصاحبه إصرار على
إخفاء الدلائل والبراهين بقوة قانون صدر عام 1979, جعل كل الوثائق والمستندات سرية
لمدة خمسين عاما.. ولأن الحقيقة لها من يدافع عنها مهما كان الثمن.. لا نجد غير
التاريخ نعود إليه إن شئنا تأسيس "الجمهورية الثالثة" التى أصبحت ضرورة
حتمية.
حاولت الإشارة إلى أن
"قانون الإصلاح الزراعي" كان نتيجة اجتهاد مجتمع ما قبل "ثورة 23
يوليو" لهدف إعادة الهرم المقلوب إلى وضعه الطبيعى والصحيح.. وإشارتى إلى أن "القطاع
العام" ليس هذا الشيطان الرجيم الذى فشلوا فى إقناع "الشعب المصرى
الشقيق" بتجنب إتباعه وطريقه!! وأكد ذلك تقرير صدر عن "البنك الدولى"
الذى كان أعدى أعداء "الجمهورية الأولى" وصدر بعد ست سنوات من إنزال
راياتها ورفع رايات "الجمهورية الثانية" لأنه صدر عام 1976.. وذكر بوضوح
شديد أن مصر حققت معدلات تنمية غير مسبوقة فى تاريخها وقت أن حكم "عبد الناصر"
وثورته التى تم إجهاضها بعد رحيله!!
عدنا إلى الدائرة
المفرغة التى وجدت "ثورة يوليو 52" نفسها داخلها منذ اللحظة الأولى
لقيامها.. والحقيقة أن تلك الثورة بقيادة وزعامة – عبد الناصر – حاولت قدر ما
استطاعت مع "القطاع الخاص" وما يسمونه "المستثمرين" وأعطتهم
أكثر مما كانوا يتمتعون به قبل الثورة.. لكنهم تلاعبوا.. نفذوا تعليمات الذين
يلعبون ورقتهم من خلف المحيط ووراء البحر!! فنحن نسينا أن رؤساء مجالس إدارات
الشركات فى مصر قبل الثورة.. كان بينهم 25 بالمائة فقط من المصريين.. بينما 30
بالمائة من الأوروبيين.. وكان 18 بالمائة من اليهود.. إضافة إلى 8 بالمائة يحملون
الجنسية اليونانية.. وتتبقى 11 بالمائة يحملون الجنسية المصرية لأصول أجنبية
وغالبيتهم أتراك!! ولتنظيم عمل هذه الشركات صدرت عدة قوانين كانت كلها لتحفيزهم, واستجابة
لما كانوا يطالبون به بينها القانون 156 الصادر فى ابريل عام 1956.. والقانون 324
لسنة 1953 الخاص بالرسوم الجمركية لتشجيع الصناعة وتحريض المستثمرين على زيادة
الإنتاج والتصدير.. وبعدها صدر القانون 430 لسنة 1953, والقانون 26 لسنة 1954, وتعديله
برقم 155 لسنة 1955, لتأكيد الحرية الاقتصادية وحماية "المستثمر"!!
حدث ذلك استجابة
لتوصيات خبراء من الأمم المتحدة وأساتذة اقتصاد أجانب, كان بينهم "آرثر لويس"
الأستاذ بجامعة "مانشيستر" وكذلك "تيودور شولتز" الأستاذ
بجامعة "شيكاغو" إضافة إلى آخرين أجانب – أيضا – كانوا قد وضعوا ما يمكن
تسميته "روشتة" علاج لما يجب الأخذ به لتحقيق تنمية اقتصادية فى الدول
المتخلفة – كما كانوا يطلقون علينا – وهؤلاء أكدوا على أن السبيل الأكثر نجاعة
للنهوض بالصناعة وتحقيق تنمية هو إنشاء "قطاع عام" قوى.. ورغم ذلك تمهلت
"الجمهورية الأولى" فى الذهاب إلى هذا الطريق لنحو خمس سنوات.. حتى كانت
معركة "تأميم قناة السويس" التى مازال "خدم الملكية والاستعمار"
يرونها قفزة فى الهواء.. ومهما قلت لهم حول معركة مد امتياز قناة السويس لأربعين
عاما, وانتهت باغتيال "بطرس غالى" لموافقته على ذلك عام 1910.. ستجدهم
يمارسون هواية القفز للأمام, دون رغبة فى أن يسمعوا أو يناقشوا لأنهم يريدونك أن
تصدق الكذب وتفقد الذاكرة تجاه الحقيقة!!
كان مؤسس "الجمهورية
الثانية" واعيا ومدركا لأهمية وجود "نخبة" تنحاز إليه ولمشروعه.. وكان
يعرف صعوبة التخلص من "نخبة الجمهورية الأولى" فلجأ إلى استثمار وقت ما
قبل معركة التحرير – أكتوبر 1973 – بأن يعتمد على عدد من رموز النخبة القائمة.. إضافة
إلى حركة سريعة لبناء "نخبة" هذا النظام.. لذلك تتبدد الدهشة حين نجده
يعتمد فى سنوات حكمه الأولى, على أمثال "محمود فوزى" و"عزيز صدقى"
و"عبد العزيز حجازى" و"عبد القادر حاتم" ليملأوا فراغ الذين
تخلص منهم بما أسماه "ثورة 15 مايو".. واعتمد على آخرين كانوا فى الصف
الثانى والثالث.. فعمد إلى تقريب أبرزهم ومنهم "فؤاد مرسى" و"إسماعيل
صبرى عبد الله" و"مصطفى خليل" مع "سيد مرعى" و"حافظ
بدوى" و"رفعت المحجوب" وصولا إلى "ممدوح سالم" الذى كان
أحد أبرز المسئولين عن أمن "عبد الناصر" قبل رحيله.. ثم كان التخلص من
معظم هؤلاء وعلى رأسهم "محمد حسنين هيكل" الذى استمر إلى جانبه كشريك فى
السلطة قبل الإطاحة به.. وكان السبب أن أغلبيتهم قدموا تنازلا بالمضى فى طريق "أنور
السادات" اعتقادا منهم أنه ينشد التصحيح لمسار "ثورة 23 يوليو" وقد
يكون حرصا على مكتسبات هذه الثورة وخوفا عليها!!
إعتمد "أنور
السادات" طريقا موازيا لتمكين "نخبة" تؤمن برؤيته للوطن من بقايا
رجال "عبد الناصر" إضافة إلى الذين وضع عينه عليهم قبل الحكم.. وكشفت
الوقائع والأحداث أن الذين أعلنوا استعدادهم للترقى والبقاء فى السلطة.. ساروا على
دربه بتقديم أصابعهم لكى "يبصموا" فوق كل ما يراه.. ويطعنوا أنفسهم فى
ضمائرهم قبل أن يطعنوا الشعب والمجتمع فى عقله.. وهؤلاء أصبحوا نجوم المرحلة التى
فتحت أبواب الفساد على مصراعيها, كما فتحت الأبواب لجماعة "الإخوان" وكل
"الجماعات المفقوسة عنها" ليبدأ الفرز الواضح عقب "انتفاضة الشعب"
فى أحداث 18 و19 يناير 1977.. وأطلق عليها "أنور السادات" وصفا مفزعا – انتفاضة
الحرامية – ليؤسس إلى بداية زمن السخرية من الشعب والحط من شأنه.. وصولا إلى القول
عنه "شعب ناكر للجميل"..
و"شعب جاهل"
كما يتردد فى المرحلة الأخيرة للجمهورية الثانية المحكوم عليها بأن تلفظ أنفاسها
ويتم دفنها بعد الاستقرار على مراسم توديعها غير مأسوف عليها!!
كانت مياه كثيرة قد
جرت فى النهر, عندما بدأت مرحلة "صديقة كيسنجر" وتشريف "نيكسون
بابا.. بتاع الووتر جيت", بالمعنى الذى صاغه "أحمد فؤاد نجم" وذاع
بصوت "الشيخ إمام" ليصبح المجتمع الدولى هو "واشنطن" والذين
معها!! وأصبح صوت "الانفتاح الاقتصادى" الذى أسماه "أحمد بهاء
الدين" بإبداع شديد البساطة "انفتاح السداح مداح" وكلها كانت خطوات
على طريق "السلام المزعوم"!! ورغم أن الاتجاه نحو هذا السلام بدأ برسالة
سرية بعث بها "أنور السادات" إلى الأمم المتحدة يوم 15 فبراير عام 1971,
والتى حملت رغبة لا تحتمل شكا فى اتفاق مع إسرائيل.. وخلال هذا التوقيت كانت إشارة
البدء لتخريب "القطاع العام" والارتداد عن طريق "الإصلاح الزراعى"
عبر قوانين واتفاقيات يتم تمريرها وسط حالة غليان بحثا عن انطلاق معركة التحرير, والانشغال
بصراع على السلطة حسمه "أنور السادات" بخفة وسرعة شديدين!!
حدث ذلك وقت أن كان "الإصلاح
الزراعى" حارسا لاستقرار اجتماعى.
وحدث
ذلك وقت أن تحمل "القطاع العام" أعباء معركة التحرير.. بعد حمله عبء
سنوات النكسة!
فإذا كنا قد أوضحنا
بعض الشىء أن "الإصلاح الزراعى" كان استجابة للمجتمع.. فإن "القطاع
العام" كان أمرا مختلفا, لأنه جاء استجابة لتحديات صعبة.. قاسية.. إستمرت
لنحو عشر سنوات, ووصلت إليه مصر كنتيجة لاختيارها الاستقلال الوطنى بكل ما يحمله
المعنى.. فهذا "القطاع العام" لم يتم إعلانه بقانون بعد أيام ولا شهور..
ولا حتى سنوات من قيام الثورة.. بل ذهبنا إليه بعد إخفاقات متتالية فى إقناع
الرأسمالية المصرية بالمشاركة فى تحقيق التنمية.. وبعد أن أحجم الذين يسمونهم "المستثمرين"
لارتباطهم بسياسات خلف المحيط ووراء البحر!! ولنا أن نعلم أن القطاع الخاص حتى
مطلع عام 1961 كان صاحب اليد العليا بشئون الاقتصاد المصرى.. والأرقام التى لا
يعرفها "أراجوزات التنوير" تؤكد ذلك.. وهذه الأرقام يعرفها الذين
ارتكبوا جريمة تشويه الحقائق, لكى نراهم مليارديرات قبل نهاية "الجمهورية
الثانية" المحتومة!!
تؤكد الأرقام أن 66
بالمائة من قدرة وقوة الاقتصاد المصرى, كانت بيد "القطاع الخاص" وهذا ما
أكده "جون بادو" السفير الأمريكى فى القاهرة – آنذاك – مع خبراء أرسلهم "جون
كيندى" رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.. وتفصيلا سنجد أن الزراعة فى مصر
عموما كانت كلها بيد القطاع الخاص.. لأن "قانون الإصلاح الزراعى" قام
بإعادة توزيع جزء من الأراضى المنهوبة على الفلاحين, واستمر من يملكون يحتفظون
بأراضيهم.. وتوضيحا سنجد أن الدولة كانت كل علاقتها بالزراعة هو رسم السياسات
الزراعية ومتابعة تنفيذها ودعمها.. وكانت نسبة 79 بالمائة من التجارة يملكها "القطاع
الخاص" الذى كان يملك – أيضا – 76 بالمائة من شركات المقاولات.. وقد تندهش
إذا علمت أن 56 بالمائة من الصناعة كانت بيد هذا القطاع..
هذه حقائق نائمة.. إعتقدوا
أنهم دفنوها!!
يؤكد ذلك أنه إذا كان
قد تم الالتفاف على "الإصلاح الزراعى" بسرعة.. فإن معارك تفكيك بعد
تخريب "القطاع العام" مازالت مستمرة.. وكشفت هذه المعارك بمرور السنوات حجم الخسارة الفادحة للوطن والمجتمع, عندما
وجدنا أنفسنا مفروض علينا أن نتوقف عن إحتساء "مشروب الرخاء والرفاهية" المحرم
قانونا.. حتى فى الدول التى وصلت إليهما.. لأن "الرخاء والرفاهية" تحققهما
الزراعة والصناعة بالدرجة الأولى.. ثم بالتعليم الذى حولوه إلى تجارة تحقق ربحا
يتجاوز ما تحققه تجارة المخدرات.. وتحمى الزراعة والصناعة صحة مجتمع إنصرفت عنه "الجمهورية
الثانية" ووجدت ضالتها فى تعليق كل فشل تنجزه برقبة "عبد الناصر" مع
"ثورة 23 يوليو" وصولا إلى حالة "المدنى" و"العسكرى"
التى أصبحت الخطر الأكبر على مصر وشعبها.. وهى الحالة التى تفرض علينا أن ندق
ناقوس الخطر, باعتبارها تكرارا لما سبق أن حدث وقت احتلال الانجليز لمصر!!
تفاصيل عملية بناء "القطاع
العام" تشهد عليها قوانين وتواريخ وأرقام!!
التفاصيل كلها يتم
اختزالها فى أن "القطاع العام" كان فاشلا وفاسدا.. وأنه دليل على جهل
الذين حرروا مصر من الاستعمار!! والحقيقة تؤكد أن "القطاع العام" كان
عملية إنقاذ وإعادة بناء لطريق طويل قطعه رائد الصناعة الوطنية "طلعت حرب"
الذى احترمت إنجازه "ثورة 23 يوليو" وجعلته عنوانا لاستئناف نهضة وضع
أسسها.. وتعرضت للاستنزاف والتخريب بعد رحيله.. وخلال السنوات التى سبقت الثورة
لحساب مغامرين فاسدين, كان "إبراهيم عبود" يتصدرهم كواحد من الذين عاشوا
معنا بوجه مصرى.. مع أن عقله وقلبه كانا فى "لندن" و"واشنطن"..
كما هذا "الثرثار" الذى يسخر من الوطن بأن يمارس هواية "الدى جيه"
فى ملهى يملكه بعد أن قرر إغلاق "ملهى" أسماه "مهرجانا سينمائيا"..
والفارق الوحيد بين "عبود باشا" و"الثرثار باشا" تكشفه ضحالة
وجهل من يدفع لهم "الثرثار" وتعتمد عليهم السلطة!!..
يتبع
0 تعليقات