د. وسام الدين
محمد
العاشر من محرم 1444هـ
الثامن من أوغسطس 2022م
أشرت من قبل إلى أن
عدم وجود مصادر لواقعة تاريخية لا يعني انتفاء وقوعها، إنما يعني ببساطة أنه لا
يوجد مصادر بحوزتنا حول هذه الواقعة. وكمسلم، فلا شك عندي أن القرآن الكريم مصدر
مؤكد للوجود التاريخي للأنبياء والمرسلين المذكورين فيه. ولكن، هؤلاء الذين يزعمون
عدم وجود أي مصدر تاريخي يؤكد وجود الأنبياء، يريدون مصدرًا على مقاسهم، معبد
لزيوس مثلًا نقشت على جدرانه قصة نبي الله موسى، ولو وجد مثل هذا المعبد فلن
يعتبروه دليلًا على وجود تاريخي للنبي موسى، ولكنهم غالبًا ما سوف يعتبرون أن هذا
دليل على قصة موسى عليه السلام اسطورة وثنية اقتبستها اليهودية، ذلك لأن أكثر
أصحاب هذا الزعم اليوم، إنما يحركهم الهوى والأجندات المحسوبة.
ومع ذلك ألا يعتبر
ذكر الأنبياء والرسل في الكتب المقدسة لليهود والنصارى دليلًا تاريخيًا. مرة
ثانية، كمسلم فإني أؤمن بأن التوراة والإنجيل والزبور كتبًا منزلة من عند الله،
ولكن أؤمن أنها قد حرفت – وهذا ما يعتقده الكثير من العلماء غير المسلمين الذين
درسوا ما بقي من هذه الكتب إلى اليوم – فأومن بها جملة دون تفصيل. وطبيعة هذا
الإيمان المجمل دون تفصيل، يتفق مع جرى من التعامل العلمي مع النصوص البشرية
القديمة، فوجود أرسطو مثلًا مقطوع به، بل يقطع بما نسب إليه من أقوال وأراء، على
الرغم أن ما بين أيدينا من كتب منسوبة إلى أرسطو، يقطع العلماء أن أكثر ما فيها هو
ما رواه ودونه تلاميذه وتلاميذ تلاميذه عنه، بل أن هذه الروايات والمدونات، قد
فقدت بعدما نقلت مكتبة أرسطو إلى آسيا الوسطى ثم إلى روما، ثم أعاد تحريرها ونشرها
أندرونيكوس الرودديسي في روما في القرن الأول الميلادي. ومع ذلك فإن أرسطو مقطوع
بوجوده التاريخي على الرغم من إنعدام أي مصدر معاصر له يدل عليه، ولكن العلماء
يعتبرون أن اجتماع الناس في هذه الفترة على وجوده ارسطو هو في حد ذاته دليل على
وجود هذا الرجل جملة، ولكن موضوع الجدل هو تفصيل حياته وأراءه.
نخلص من ذلك أن الوثائق
والكتابات الدارجة، والتي قد تكون أحيانًا غير منسوبة لمعين، إذا شاعت وقبلت في
زمانها، فإنها غالبًا ما تدل بالإجمال على وقائع تاريخية، وهو ما ينطبق على جاء في
الكتب المقدسة لليهود والنصارى من قصص الأنبياء، فهي دليل على وجودهم جملة، أما
تفصيل تلك الروايات فموضع نظر.
ومع ذلك، فقد قامت
كثير من الأدلة على وفرة مصادر تاريخية وافقت ما ذكر في هذه الكتب من وجود
الأنبياء، فدلت مثلًا لوحة مرنبتاح والتي اكتشفها فلندرز بتري عام 1896 على وجود
بني إسرائيل، أي في النصف الثاني من القرن الثالث عشر قبل الميلاد؛ وذكرنا سلفًا
كيف ذكر فلافيوس جوزيفيوس السيد المسيح في كتابه أثار اليهود والذي يعتقد العلماء
أنه قد بدأ في تأليفه نحو عام 70م وأخرجه للجمهور في عام 90م، أي أن جوزيفيوس، قد
بدأ تأليف كتابه هذا بعد رفع السيد المسيح مكانًا عليًا بفترة قصيرة، بينما لا
يزال ذكر السيد المسيح حيًا وسط الناس، ولا يمكن أن نزعم أن جوزيفيوس كان من أنصار
المسيح، فقد كان جوزيفيوس يهوديًا ومتعصبًا واشترك في ثورة مسلحة ضد الرومان، وقد
تهجم على السيد المسيح في كتابه المذكور؛ وقد أشرنا أيضًا إلى المؤرخ الروماني
تاكيتوس، وكتابه الحوليات، والذي يعتبر من مصادر الموثوقة للتاريخ الروماني في
القرن الأول من الميلاد، ومؤلفه إلى جانب أنه مؤرخ فهو رجل دولة روماني، وفيه يذكر
صراحة اسم السيد المسيح باعتباره رأس نحلة يهودية سببت المشاكل في زمانه.
ولكن وكما أشرت سابقًا فإن صاحب
الهوى سوف ينكر أي دليل لا يوافق هواه، ويحرفه حتى يستخدمه لمصلحته.
من يدفع للزمار
يفرض عليه اللحن
ما الذي يجعل واقعة
ما تاريخية وأخرى ليست تاريخية.
إن هؤلاء الذين
يطلبون دليل على وجود الأنبياء التاريخي في نقوش المعابد القديمة أو في سجلات
المحاكم الرومانية، ليس بوسعهم أن يدركوا سيولة مفهوم الواقعة التاريخية. فإذا
كانت تاريخية واقعة تتحدد بتأثير هذه الواقعة على التاريخ الإنساني فإنه ينبغي أن
يكون اختراع المحراث أو إبرة الخياطة من أهم وقائع التاريخ، ومع ذلك فإنك قلما
وجدت مرجع تاريخيًا صدر قبل نصف قرن من الآن يهتم بمثل هذه الوقائع.
يجب أن نفهم أنه على
طول التاريخ كان الحكام هم من يملكون القلم والمداد والقرطاس وفي كثير من الأحيان
اليد التي تكتب، ولذلك فإن المعابد والمقابر والوثائق حافلة بتمجيد هؤلاء، حتى ولو
كان ما قاموا به مجرد جرائم، إن الرجل الذي صنع الإبرة قد غير تاريخ الإنسانية،
ومع ذلك أهملت المصادر التاريخية اسمه، بينما شخص مثل جنكيز خان كل ما قام به يمكن
أن يوصف بأنه إبادة جماعية منظمة، يعتبر من أبطال التاريخ لأنه استطاع أن يجد ألف
مؤرخ، مدفوعًا بالرشوة أو بالخوف أو بروح القطيع، يروي جرائمه في صورة أعمال مجيدة.
ولطالما كان التاريخ هو سرد لمآثر الحكام والملوك، بل أن أول سجل تاريخي في تاريخ
الإنسانية، كان ثبت بأسماء وأعمالهم ملوك سومريين.
لنعود إلى لوحة
مرنبتاح، والتي ذكرت بني إسرائيل في جملة واحدة، تشير إلى أن الملك صاحب اللوحة،
مرنبتاح، قد أنزل هزيمة مؤلمة بهؤلاء، هذه اللوحة كانت قد وجدت في أطلال معبد بناه
أمنحتب الثالث، ولكن مرنبتاح جاء وأزال اسم أمنحتب الثالث عن هذا المعبد ووضع اسمه
عليه باعتباره معبده الذي بناه. فهل تتخيل أن يأتي رجل بهذا التفكير، ثم يأمر
مؤرخه أن يكتب أن سلفه، - والذي ربما يمت بصلة قرابة له وهو على الأقل يستمد
شرعيته باعتباره خلفه الشرعي – كان أحمق أعتقد أنه إله، وأن رجل عادي مثل موسى ليس
بملك ولا يؤيده جيش جرارًا، لا يؤيده إلا الله وحده، قد فضح حماقه من تجري أنهار
مصر من تحته، قبل أن ينتهي هذا الأحمق غريقًا بعد تحديه لله. هل تتصور أن يكتب
مرنبتاح على معبده مثل هذه القصة؟ ماذا سوف يحدث إذًا لعقيدة الملك الإله الذي ظل
ملوك مصر القديمة يستمدون شرعيتهم منها منذ أولى أسراتهم؟
بمقياس كتبة القياصرة
والأكاسرة، لا يعتبر وصول مجموعة من الرحل إلى مصر حدثًا تاريخيًا، وأجدر به أن
ينسى لو كان زعيمهم هو نبي الله إبراهيم يدعوا إلى عبادة الله الواحد القهار بدلًا
من عبادة من يدفع لهؤلاء الكتبة، ويقول المثل الإنجليزي من يدفع للزمار يفرض عليه
اللحن.
0 تعليقات