د. وسام الدين
محمد
الحادي عشر من محرم 1444هـ
التاسع من أوغسطس 2022م
هل وسام هو نفسه
وسام
أبناء جيلي، من تلقوا العلم في
المدارس العامة، بدئوا دراسة اللغة الإنجليزية في المرحلة الإعدادية. وفي الصف
الأول الإعدادي، قام معلم اللغة الإنجليزية في فصلي بكتابة اسم كل طالب في الفصل،
وهكذا أصبحت أكتب اسمي باللغة الإنجليزية Wisam،
فيما بعد زاملت مجموعة من الآيرلنديين الذين كانوا ينطقون اسمي (وايزام)، وبعدها
زاملت ألمانًا ينطقون حرف الواو فاء، فكانوا ينطقون اسمي (فايسام)، أما زملائي من
أبناء شبه القارة الهندية فيصرون على نطق اسمي كاملًا وسام الدين.
تخيل أن أحدهم كتب
سيرة حياتي، وذكر فيها أن العبد لله قد زار مثلًا آيرلندا وألمانيا والهند. ثم مضت
ألف سنة، وانهارت الحضارة وعدنا إلى ما كانت عليه الحضارة زمان الإسكندر مثلًا، ثم
راحت الحضارة تسترجع عافيتها، ويجد عالم أثار سيرة حياة العبد لله ويخرج على
الناس، ويقول إنه اكتشف أن هناك شخص عاش منذ قرون طويلة كان قادرًا على السفر إلى
هذه البلاد، ليخرج أحد المتنطعين، طاعنًا في تاريخية زيارتي لهذه البلدان بحجة أن
اسمي لم يرد في سجلات هذه البلدان، ضاربًا صفحًا عن هناك أسماء مثل وايزام وفايسام
ووسام الدين قد ذكرته وثائق مختلفة في هذه البلدان.
إن خليل الله إبراهيم
عليه السلام، قد ذكر في الأسفار الخمسة المنسوبة لسيدنا موسى عليه السلام من العهد
القديم، والتي نشير لها بالتوراة، بأسماء مختلفة متقاربه، مثل ابرام وإبراهام
وإبراهيم، وهذا لو دل فإنما يدل على أن قصة إبراهيم الخليل قد تداولت في أكثر من
مكان، وفي كل مكان كان اسمه ينطق بطريقة تناسب أهل هذا المكان؛ وليس هذا قاصرًا
على الأسماء المذكورة في الكتابات الدينية لليهود والنصارى، فحتى المصادر
التاريخية المختلفة تظهر استخدام أسماء تتقارب أو تتباعد مع اسم العلم، فمثلًا في
رسائل تل العمارنة، وهي مجموعة من الرسائل المتبادلة بين ملوك مصر وحلفائهم أو
أتباعهم في سوريا، نجد من يشار إليه في الرسائل الواردة من سوريا باسم منخبوريا،
والذي هو تحريف للنطق المصري من خبر رع، أحد الأسماء التي استخدمها أمنحتب الرابع
المعروف بأخناتون.
فالأسماء في الكتابات
التاريخية التي قد تدل على علم واحد مختلفة ومتباينة، وربما استخدم اسمًا ابعد ما
يكون – بمقاييس اليوم – عن اسم العلم الشائع.
تاريخية الرسول،
صلى الله عليه وسلم
ولأن البعض بيننا
مغرم بجحر الضب، ربما بسبب ولع المغلوب بتقليد الغالب، وربما التماسًا للشهرة،
وربما خدمة مدفوعة الأجر، فإن هناك من بيننا من أطلق زعم العجيب وهو أن الرسول
محمد صلوات الله عليه وسلامه، لم يوجد تاريخيًا، يجاري من زعم في الغرب بأن المسيح
عليه السلام لم يوجد قط أو أن موسى عليه السلام شخصية أسطورية. وكان حري بي أن أتجاهل
مناقشة هذا الزعم لوهنه، ولكني أردت مناقشته لا لشيء إلا لأبين للقارئ الكريم أن
أصحاب هذا الزعم، وإن سبق أسمائهم مئة لقب ولقب، يظلون أجهل من دابة، بل أن الدابة
لو علمت أنها تقدم على مهلكة لأحجمت عن التقدم، وهؤلاء جهلهم مركب، يخوضون فيما
يفضح جهلهم وحماقتهم ويراهنوا على خداع الناس، فأولى بي أن أفضحهم.
أما وجود الرسول صلى
الله عليه وسلم تاريخًا فثابت في المصادر الإسلامية وأولها القرآن الكريم، ثم في
السنة والسيرة، علمًا بأن أقدم سيرة مدونة للرسول هي تلك التي ألفها محمد بن إسحاق
في نهاية القرن الأول الهجري، والتي تعرف اليوم بسيرة ابن إسحاق، وكان محمد بن
إسحاق قد أدرك معمري الصحابة مثل أنس بن مالك ومحمود بن الربيع الخزرجي الأنصاري،
والتقى ببعض كبار التابعين ومنهم أبان بن عثمان بن عفان والقاسم بن محمد بن أبي
بكر.
ولكن، لندع المصادر
الإسلامية جانبًا، لأن من ينكر وجود الرسول صلى الله عليه وسلم تاريخيًا أجدر به
أن ينكر المصادر الإسلامية.
ولكن ما العمل مع
المصادر المنسوبة لغير المسلمين؟ هل يمكن تجاهل المصادر السريانية والبيزنطية
والأرمينية التي صرحت بالرسول صلى الله عليه وسلم؟
أول هذه المصادر هو
تلك الوثيقة المسماة (شذرة الفتوحات العربية)، وهي عبارة عن مخطوطة بالسريانية
لإنجيل مرقص، وقد أضاف مؤلفها
بعد الإنجيل نصًا يشير إلى أن
محرره شهد المعارك الدائرة بين الرومان و(العرب من أتباع محمد) ومعركة اليرموك
بالذات، فخلص بعض العلماء أن هذا النص كُتبَ في حدود سنة 15ه/636م أي بعد أقل من
خمسة أعوام من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رجحت اختبارات الكربون-14 هذه
الفرضية. هذه المخطوطة محفوظة اليوم في المتحف البريطاني.
أما المصدر الأهم،
فهو تاريخ هرقل – نسبة لهرقل قيصر الروم البيزنطيين - الذي أُلِفَ في نهاية القرن
السابع الميلادي والنصف الثاني من القرن الأول الهجري، وهو تاريخ عام للنصرانية في
القرن السادس والسابع الميلادي، ومؤلفه هو أسقف أرميني يسمى سيبيوس، وقد ورد
توقيعه على محاضر عدد من المجامع الدينية الكبيرة في أرمينيا وفي القسطنطينية مما
يدل على رفعة مركزه، وفي تاريخه هذا أرخ سيبيوس للفتوحات العربية، ويعرض خلاصة
بحثه حول أصل المسلمين (ويسميهم في كتابه أبناء إسماعيل) والذي اعتمد فيه على
لقاءات وحوارات مع رجال دين ورهبان مسيحين في الشام والعراق، فيذكر أن هؤلاء
أخبروه أبناء إسماعيل يتبعون رجل يسمى محمد وأنه قد بدأ حياته تاجرًا، ولكن سيبيوس
لا يعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم، رسولًا أو
نبيًا، بل يصفه بأنه أول ملوك العرب. وتوجد خمسة نسخ من هذا الكتاب تعود إلى القرن
الأول الهجري محفوظة في مكتبات عالمية منها مكتبة معهد الاستشراق الروسي في موسكو.
إلى جانب هذه
المصادر، هناك مصادر أخرى مثل تاريخ توما القس أو حوليات عام 724، وهي محفوظة في
المتحف البريطاني، ومجموعة رسائل عمال هرقل له وهي محفوظة في متحف الفاتيكان،
وغيرها من الوثائق. ولا أدري كيف يمكن أن يزعم عاقل بعد ذلك أن الرسول، صلى الله
عليه وسلم، لم يوجد تاريخيًا، ولا أفهم هذا الزعم إلا في إطار جهل صاحبه جهلًا
مركبًا فهو مسكين جاهل، ويجهل أنه جاهل.
ختام
للفترة الأطول من
تاريخ الحضارة، ظل مفهوم التاريخ هو ما نسميه اليوم التاريخ السياسي، أي ذلك
التاريخ الذي يهتم بالأعمال السياسية والعسكرية في المقام الأول، بل أزعم أن
دراسات مثل التاريخ الاقتصادي والتاريخ الاجتماعي لا تعرف وتؤصل إلى في القرن
العشرين، وهكذا كانت المصادر التاريخية في أغلب الأحوال تدور حول الأعمال السياسية
والحربية، وقلما تناولت غير ذلك، فإن تناولته نظرته له باعتباره من عناصر خلفية
مسرح الحدث السياسي أو الحربي الأساسي التي تبرز هذا الحدث. ولذلك فليس من
المتوقع، أن تجد من ضمن مصادر تاريخية كتبت في المقام الأول لتمجيد شخص الحاكم ما
يشير إلى شخص غيره، فإذا كان هذا الحاكم قد دخل في صدام خاسر مع هذا الشخص، كصدام
فرعون وموسى مثلًا، فأولى بمحرري المصدر التاريخي إكرامًا (لأكل العيش) أن
يتجاهلوا هذه الواقعة.
إن دلالة الكتب
المقدسة القديمة على وجود تاريخي للأنبياء إجمالًا، هي نفسها دلالة كتب الفلسفة
القديمة مقطوعة السند والمشكوك في صحتها على وجود أصحابها من الفلاسفة، فالدلالة
الإجمالية للنص المتداول والمقبول بين الناس في فترة معاصرة أو لاحقة على الحدث
التاريخي، دليل على وقوع هذا الحدث. ومع ذلك فهناك أدلة تاريخية مختلفة تؤكد وجود
عدد من الأنبياء، تتفق مع مجمل ما جاء بشأنهم في الكتابات المقدسة القديمة لليهود
والنصارى، ولكن المشككون يتجاهلون مناقشة هذه الأدلة لحاجة في نفوسهم.
البعض اليوم يحاول استيراد
مسألة مناقشة الوجود التاريخي للأنبياء من الغرب، رغبة في ادعاء الثقافة وحبًا في
الظهور الإعلامي أو لأجندة يعمل عليها، ودون حتى أن يحاول أن يبدو منهجيًا
وعلميًا، وهو ما يجعل أصحاب هذه الدعوة من أبناء جلدتنا أصحاب هوى لا فائدة من
مناقشتهم، ولكني دونت هذا الكلام كي أبرأ ذمتي، عسى أن يفيد باحث عن الحق.
وختامًا...
)آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون
كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله(
والله من وراء القصد.
0 تعليقات