محمود جابر
الاستشراق والقرآن:
أبصرت الدراسات القرآنية النور إجمالا في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر متأثرة
بشكل خاص بالمنهجية التاريخية النقدية التي شقت طريقها في عصر التنوير ومورست في
دراسات حول الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد قام بها علماء بروتستانت في
ألمانيا بعيدا عن أي تأثر ديني وبروح علمية بحثه لا تتعلق بقدسية أي نص، حيث انكب
بعض علماء اللغات السامية على دراسة القران محاولين اكتشاف الوقائع التاريخية
المرتبطة به وكيفية حدوثها وعلاقتها بنشوئه ومصيره بعد ذلك.
مثل تاريخ القران واحدا من تلك المجالات الاستشراقية التي لاقت
انتشارا واسعا وشهرة كبيرة في هذا المجال النقدي، ويأتى المستشرق الألماني ثيودور
نولدكه فى مقدمة هؤلاء المستشرقين المهتمين بمجال القرآن، معالجا مسألة نشوء
القران الكريم وجمعه وروايته، كما ناقش مسألة التسلسل التاريخي للسور واقترح
ترتيبا لها يختلف عن ترتيبها بحسب زمن نزولها، مشروع نولدكه سعى الى تأريخ النص
القرآني معالجته كوثيقة من وثائق التاريخ الإنساني معتمدة في الدراسة على البحث
اللغوي والفيلولوجيا وكذا بعض الأحداث التاريخية التي تشير إليها بعض النصوص
والآيات، وربطها بعضها ببعض بهدف تشكيل قاعدة تاريخية يمكن الاستناد عليها في
إعادة ترتيب زمني للسور والآيات ترتيبا تخمينيا يؤدي بدوره إلى فهمها بشكل أفضل.
مصدر القرآن والوحي الذي تلقاه النبى:
لم يشكك نولدكه في صدق النبي، بل اعتبره نبيا حقا وأنه كان مستغرقا
تماما بالدعوة حيث أمن بأن الله الذى اصطفاه من أجل تبليغ الرسالة والهداية لقومه
ودعوتهم الى الإيمان بالله، فتمتعه بشخصية قوية جعلته يؤمن بحقيقة ما دعي إليه،
وإيمانه بنبوته وذكاءه العملي الشديد مكناه من التجريد المنطقي، مما جعله يعتبر ما
حرك نفسه أمرا موحى به منزلا من السماء، واعتبر هذه الغريزة التي تحركه صوت الله
الذي يقوم عليه الإسلام، فأعلن عن سور أعدها بتفكير واع بواسطة استخدام قصص من
مصادر غريبة مثبتة وكأنها وحي حقيقي من الله، وبما أنه لم يكن في وسعه الفصل بين
الروحانيات والدنيويات، فغالبا ما استعمل سلطة القران ليفرض أمورا لا علاقة لها
بالدين مع عدم إغفال الترابط القوي الذي كان عليه الدين ونظام المجتمع، فالنبي
استقى معارفه من الكتابات العقائدية والطقوس وليس من الكتاب المقدس، فالقصص
المستقاة من العهد القديم تشبه الهجادا ( الأساطير اليهودية المقدسة)، والأخرى
المستقاة من العهد الجديد أسطورية الطابع وتشبه ما يسر في الأناجيل المنحولة،
فالمصدر الرئيس للوحي الذي نزل على النبي حرفيا هو بدون شك ما تحمله الكتابات
اليهودية، وتعاليم محمد في جلها ذات أصل يهودي كما هي تعاليم عيسى عليه السلام،
مثالا على ذلك:
-الشهادة التي هي بالأصل مستقاة من عبارة يهودية من كتاب صموئيل الثاني(22-32):”
لأنه من هو إله غير الرب”.
-التهجد ( صلاة الليل) وبعض أشكال الصلاة ووصف الوحي بالفرقان مشتق من اللغة
الآرامية المسيحية.
-السور كتشابه ما ورد في سورة مريم الآية 17 بإنجيل الطفولة الفصل الأول… كما نجد
جملة قصيرة جدا اقتبست حرفيا من العهد القديم في سورة الأنبياء آية 35:” ولقد
كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون“.
قال نولدكه أن مشاهير شعراء القرن الذي سبق ظهور الإسلام يشي
تفكيرهم وتقييهم للأمور بأنهم كانوا يلمون بالمسيحية رغم أنهم حافظوا على وثنيتهم،
لذا وجب الأخذ بعين الاعتبار التأثير المسيحي على النبي الى جانب التأثير اليهودي،
أي أن الإسلام في جوهره دين يقتفي اثار المسيحية وهو الصيغة التي دخلت بها
المسيحية الى بلاد العرب كلها، ويؤكد هذا الربط بسهولة الأحكام الصادرة عن أشخاص
عاصروا محمد صلى الله عليه وآله وهو ما يفسر لجوء بعض أتباع النبي الى ملك الحبشة
المسيحي.
تطرق نولدكه إلى الحجج التي تؤيد أن محمد صلى الله عليه وآله كان لا يستطيع
القراءة والكتابة واعتبرها واهية، كما أن جعل جملة ” النبي الأمي” تعني نقيض “أهل
الكتاب”، وهذا يفيد أن المراد بالكلمة ليس عكس القادرين على الكتابة، بل عكس من
يعرفون الكتاب المقدس كما ورد في سورة البقرة الآية 73، أي أن محمدا لم يكن يعرف
الكتب المقدسة القديمة بل عرف الحقيقة بواسطة الوحي بالقران.
عرض نولدكه ملاحظة المستشرق فلهاوزن التي تقول:’ كيف لرجل وجد في
محيطه عشرات من الرجال الذين استطاعوا القراءة والكتابة ألا يعلم بها، وبوصفه تاجر
من أجل تسجيل البضائع والأسعار والأسماء.
في حين يرى المستشرق شبرنغر أن محمدا عالم بالكتب وأنه قرأ كتابا
حول العقائد والأساطير بعنوان – أساطير الأولين – وهو الوصف الذي أطلقه بنو قريش
على قصص محمد وتعاليمه المفيدة روحيا، وأضاف أن صحف إبراهيم هي الآيات 36 و37 من
سورة النجم والآية 19 من سورة الأعلى
ورجح نولدكه أن محمدا قد تلقى أهم أجزاء تعليمه من اليهود
والمسيحيين شفويا كما جاء في سورة الفرقان:{وقال الذين كفروا إن هذا أفك افتراه
وأعانه عليه قوم آخرون} والمعنيون هم معاصرو النبي سلمان وورقة ويسار وبلعام،
ليخلص بالقول أن مصادر تعاليم محمد كانت الاعتقادات الدينية التي اعتنقها قومه أما
الطقوس والممارسات في الكعبة والحج فقام بتعديلها لتلائم تعليمه معيدا إياها إلى
أصول إبراهيمية كما بدل قصص الأنبياء اليهود ونصب نفسه ( محمد رسول الله) ووضع
نفسه في مرتبة أسمى من نوح وإسرائيل ولوط وموسى وهارون وعيسى وادعى لنبوته معنى
ختاميا بأنه ( خاتم النبيين).
يتبع
0 تعليقات