نصر القفاص
كانت هزيمة يونيو 1967
قاسية وخطيرة، لكنها ليست الأخطر فى تاريخ مصر!!
جاء وقت التفكير
الهادئ.. يجب أن نسأل الذين يجلدون مصر كلها منذ وقت الهزيمة.. ما رأيكم فى "انكسار
مصر" وسقوطها "لقمة سائغة" بين فكى الاستعمار الانجليزى, لأكثر من
سبعين عاما؟!
ضمن المفارقات
العجيبة أن الذين يواصلون إطلاق النار على "عبد الناصر" بسبب هزيمة
يونيو.. هم أنفسهم الذين يدافعون بشراسة – ويمجدون – "الخديوى
إسماعيل" وابنه "الخديوى توفيق" ثم الذين حكموا بعدهما.. رغم أنهم "باعوا
مصر" بأرخص الأثمان.. حتى وصلنا إلى أن أحفادهم – حسب ما كتب أحدهم – أصبحوا
يفاخرون بأنهم وزراء, ينفذون المرحلة الأخيرة من قتل الصناعة قبل دفنها فى "زمن
الكورونا"!!
استطاعت مصر تجاوز "هزيمة
67" بعد ست سنوات, بأكبر وأهم انتصار عسكري – أكتوبر 73 – لكنها تحتاج إلى
عشرات السنوات لتجاوز "كارثة هدم الزراعة والصناعة" التى بدأت مع "الجمهورية
الثانية" لطمس معالم "الجمهورية الأولى" التى صنعت إعجازا فى
الميدانين خلال سنوات قليلة!!
أنقشع الغبار بظهور "شبح
الخديوى إسماعيل" ليطاردنا!!
غرقت مصر فى الديون
خلال "زمن إسماعيل" ثم سقطت بإرادة وتآمر ابنه – توفيق – لكن "حانوتية
الثقافة" ومعهم "أراجوزات الإعلام" يلعنون "أحمد عرابى" بين
الحين والآخر!! وكاد يصيبنا الجنون حين يجرؤ نفر من "خدم الملكية والاستعمار"
على المطالبة بتكريم "دليسبس" وإعادة تمثاله إلى قاعدته فى مدخل قناة
السويس..
وكان هذا طبيعى عندما
تمكن "الثرثار باشا" ماليا مع أقرانه, وبعد أن أصبح "زعيم
السيراميك" أحد رموز المرحلة!!
تجاوزنا "كارثة"
ابتلاع الانجليز للوطن بعد أكثر من سبعين عاما!!
تجاوزنا "هزيمة
يونيو" بعد ست سنوات!!
العنوانين أضعهما
أمام العين فقط.. لأن المهم هو متى وكيف نتجاوز كارثة تدمير الصناعة والزراعة؟!
لا يكف "أراجوزات
التنوير" عن محاولات "تزوير التاريخ" فهم يعلقون فشل "الجمهورية
الثانية" فى رقبة "الجمهورية الأولى" بخفة يد النشالين المحترفين!!
كادوا يقنعون الأمة بأن "الإصلاح الزراعى" كان سبب تفتيت الرقعة
الزراعية.. رغم أن كل المستندات والوثائق والأرقام, تؤكد حقيقة أن نصف مساحة الأراضي
الزراعية – 2,5 مليون فدان – كان يملكها أصحاب حيازات تقل عن خمسة أفدنة قبل
الثورة, وتطبيق "الإصلاح الزراعى" الذى استعاد حقوق الشعب من الإقطاع.. وأصاب
هؤلاء "الخرس" بعد صراخ استمر عشرات السنوات ضد "السد العالى"
كما أصابهم "الخرس" تجاه تأميم "قناة السويس" التى استمروا
يروجون أن القرار كان مغامرة متهورة!! فقد عرفوا أن "السد العالى" أنقذ
مصر – ومازال – من عطش وجفاف.. وعرفوا أن "قناة السويس" تمثل أحد أهم
مصادر الدخل القومى!
كان صعبا – بل
مستحيلا – هدم "السد العالى" أو بيع "قناة السويس" بالتأكيد!
لكن هدم الصناعة حدث
فى ظل حملات دخان كثيف ضد "القطاع العام" الذى عاش "عزيز صدقى"
يصرخ لإنقاذه.. وخلال ندوة موسعة إستضافتها "بيروت" عام 1987 بعنوان "ثورة
23 يوليو.. قضايا الحاضر وتحديات المستقبل".. قال أول وزير صناعة فى تاريخ
مصر – عزيز صدقى – فى نهاية عرضه لقصة بناء قلاع الصناعة – القطاع العام – كلاما
فجر دموع مستمعيه: "كنت أعرض على الرئيس عبد الناصر نتائج أعمال الصناعة عام 1969..
كنت أراها باهرة.. وجدته ينصت وعلى وجهه علامات قلق.. سألته: هل النتائج التى
ذكرتها غير مرضية؟!.. فقال: يا عزيز.. إن الطريقة التى نعيش بها لن تسمح لنا بأن
تطول أعمارنا.. ما ذكرته وتحقق عظيم جدا.. لكننى أرجو إضافة المزيد, لأن ما نبنيه
من إنتاج فى حياتنا هو ما نضمن أن نتركه لأجيال بعدنا.. فنحن لا نعلم ما سيفعله
الذى سيأتى بعدنا؟!"
كانت الصناعة تضيف 10
بالمائة فقط للإنتاج القومى قبل "23 يوليو" من صناعات صغيرة, كما حال
الغزل والنسيج والسكر.. وصناعات بسيطة كما إنتاج حديد التسليح من الخردة, وعدد من
معاصر الزيوت.. إلى جانب صناعات يدوية وحرفية.. وكانت مصر تستورد أقلام الرصاص
والسماد وزيت الطعام ومنتجات الألبان.. إضافة إلى السيارات والدراجات والثلاجات
والبطاريات, وكذلك الملابس القطنية والصوفية التى تنتجها مصانع انجلترا.. والقائمة
تطول!!
يعود تاريخ إنشاء أول
وزارة للزراعة إلى عام 1913, لكنها على مدى نحو 40 عاما.. أضافت عددا أكبر من ملاك
الأراضي.. أضافت إقطاعا على إقطاع.. صنعت فقراء بالملايين, رغم محاولات "محمد
فريد" لتشكيل نقابات وجمعيات تدافع عن الفلاحين قبل الحرب العالمية الأولى.. ورغم
محاولات حزب "الوفد" فى إنشاء النظام التعاونى وتطويره خلال النصف
الثانى من أربعينات القرن العشرين.. وكذلك محاولات "محمد السعدى خطاب" لطرح
"الإصلاح الزراعي" خلال المرحلة نفسها, واجتهاد "سيد
مرعى" عندما أصبح نائبا يمثل "الهيئة السعدية" قبل الثورة.. حتى تم
إعلان "قانون الإصلاح الزراعى" بعد أربعين يوما من قيام الحركة المباركة
– ثورة 23 يوليو – وإدى ذلك إلى انخفاض حاد فى عدد الأسر الفقيرة للريف المصرى.. ثم
عاد الفقر يطل برأسه فى أوساط الفلاحين, عندما وصلنا إلى منتصف التسعينات.. وكلها
معلومات وأرقام تحملها وثائق رسمية, تقول أن عدد الأسر الريفية الفقيرة إنخفض ما
بين عامى 1958, و1965 إلى 27 بالمائة.. وعادت النسبة تقول أن فقراء الريف تزايدوا
بعد عام 1975 لتصل نسبتهم إلى 44 بالمائة, وترتب على ذلك أن ظهرت طبقة جديدة راغبة
فى أن تشغل مكان الإقطاع.. وجدت تلك الطبقة تشجيعا وتحريضا من نظام "الجمهورية
الثانية" الباحث عن أنصار لإرساء دعائم نظام يأخذ الطريق العكسى لثورة "23
يوليو" ووجد ضالته فى هؤلاء.. فقد عمد "أنور السادات" إلى استخدام
سلاح السياسة, بإعادة جماعة "الإخوان" عبر "الجماعات المفقوسة عنها"
إلى جانب الذين يرغبون فى وراثة "الإقطاع" ويمكنهم تحقيق ذلك عبر
تمكينهم من مقاعد "مجلس الشعب" بعد إلغاء "الأمة" وأضاف لهم "مجلس
الشورى" الذى أصبح "الشيوخ" ارتدادا إلى "زمن الملكية"!!
إعتقد البعض أن رجال
ما فبركوا وصف "ثورة 15 مايو" يمثلون تطويرا لنهج "23 يوليو" خاصة
وأن صاحب المنهج أطلق عليه "التصحيح" محتميا فى مكانه القديم كأحد رجال
مجلس قيادة الثورة.. وكم كان مخادعا بتصدير الصف الثانى من رجال "عبد الناصر"
إلى الواجهة.. يتضح ذلك عندما جعل "حافظ بدوى" رئيسا لمجلس الأمة.. وكان
معروفا بأنه "حافظ الميثاق" ويشار إليه فى معرض السخرية بأنه "حافظ
صم"!! ورفض التفريط فى "عزيز صدقى" الذى جعله رئيسا للوزراء.. كما
فعل مع "عبد القادر حاتم" وكذلك "عبد العزيز حجازى" خاصة وأنه
لم يحتمل "محمود فوزى" مهندس السياسة الخارجية الذى شغل منصب أول رئيس
وزراء, خلال ما بعد زمن "الجمهورية الأولى" لشهور قليلة.. ودفع "ممدوح
سالم" إلى "محرقة" السياسة, فجعله رئيسا لمنبر "الوسط" ثم
حزب "مصر العربى الاشتراكى" الذى أكلته نيران 18 و19 يناير 1977, التى
قال عنها "انتفاضة حرامية" ليخلع "القناع" بعدها مباشرة.. أعلن
"الحزب الوطنى الديمقراطي" واختار الاسم استنادا إلى أعماق الحركة
الوطنية التى بدأت من عند "الحزب الوطنى الحر" بقيادة "أحمد عرابى"..
واستعادت عافيتها بظهور "الحزب الوطنى المصرى" بزعامة " "مصطفى
كامل" ومن بعده "محمد فريد".. بعيدا عن المخادع الذى
استخدم "ثورة 23 يوليو" واحترامها وتقديرها الشديد لتاريخ ونضال الشعب
المصرى!!
بدأت الحركة
التعاونية الزراعية مع إطلالة القرن العشرين.. واكبت إنشاء وزارة الزراعة بعد
إعلان تأسيس "البنك الزراعي" عام 1920 لمواجهة "المرابين" وكان
أغلبهم من اليهود!! فى عام 1914 وصل عدد الجمعيات الزراعية إلى 23 جمعية.. انكمشت
خلال سنوات الحرب العالمية الأولى.. عادت بعد ثورة 1919 لتطالب بحقوق الفلاحين, ونالت
مكاسب معقولة عندما أصبح "سعد زغلول" رئيسا للوزراء.. ثم انتكست بفعل
تطور الأحداث والصراع, حتى امتلكت أوراق قوة فى منتصف الأربعينات.. وكان ظهور حزب "الفلاح
المصرى" أحد أبرز ثمار هذا النضال الطويل!!
السطور التى أختصر
بها التاريخ.. خلفها كتب ودراسات علمية.. السنوات كانت حافلة بدم ودموع أجيال.. رصدها
شباب كلهم أبصروا الحياة والدنيا, قبل شهور من ثورة 1919, وحققوا الحلم يوم "23
يوليو 1952"!
قانون "الإصلاح
الزراعى" ليس حلما لثورة.. لكنه فعل عبر عنه ضمير مجتمع فى زمن "الجمهورية
الأولى" وقتل هذا الضمير لم يحدث صدفة.. لم يحدث نتيجة خطأ وقع فيه مؤسس "الجمهورية
الثانية" دون قصد.. لكن كان منهجا سابق الإعداد والتجهيز, وعلى التوازى منه
كان الاتجاه إلى اغتيال الصناعة, الذى سبقه شيطنة "القطاع العام" وصولا
إلى ما أسموه "الخصخصة" ثم اختاروا له اسما جديدا يناسب العصر عبر قانون
"التخارج" الذى أنتجته حكومة "مصطفى مدبولى" واعتمده "مجلس
النواب" برئاسة "حنفى الجبالى" عبر مجلس شيوخ يرأسه "عبد
الرزاق عبد الرزاق"!!
عاد "الإقطاع"
ملونا.. فهذا "زراعى" وذاك "عقارى" وآخر "سياسى"!!
التفاصيل تتضح أكثر
إذا قرأت مذكرات "سيد مرعى" التى كتبها ونشرها, وقت جلوس "أنور
السادات" على كرسى الحكم.. عنوانها "أوراق سياسية".. وتم دفنها مع
غيرها من عشرات المذكرات ومئات الدراسات العلمية على مدى أكثر من نصف قرن.. وإن
شئت أن تفهم يمكنك العودة إلى كتاب "اقتصاد الاحتيال البرئ" الذى ترجمه "محمد
رضا العدل" عن كتاب "مجتمع الوفرة" للمؤلف "جون كنث جالبرت"
وقدم له الدكتور "محمود عبد الفضيل" وهو لم يصمت أو يتواطأ طوال هذا
الزمن.. فقد قال كثيرا.. رغم الحصار.. وكتب أكثر.. لكننا لا نقرأ.. وكان أحد
المشاركين فى الندوة الفكرية التى استضافتها "بيروت"
عام 1987 عن "ثورة 23 يوليو" التى نظمتها "دار المستقبل العربى"
وقت أن تولى قيادتها "محمد فايق" وكل ما أشير إليه له هدف واحد.. هو أن
مصر لم تصمت.. مصر لم تكذب.. مصر لم تتواطأ.. فأصحاب الضمائر فيها قاتلوا أولئك
الذين شغلوا وظائف "أراجوزات التنوير" وارتضوا لأنفسهم أن يكونوا "حانوتية
الثقافة" ليفرضوا على المجتمع المصرى فقدان الذاكرة تجاه تاريخه.. وضمن الذين
حكموا مصر فى عصر الدولة الوسطى, كان "أمنيحت الأول" الذى قال: "أنا
الذى زرعت الحبوب وأحييت الأرض.. النيل يحيينى فى كل واد.. لا جائع فى عهدى, وظمآن
تحت سلطانى"!! ومن بعده "أمنيحت الثالث" الذى أنشأ خزان بحيرة "قارون"
وبعدها كان "خزان أسوان" حتى عشنا "زمن السد العالى"!!
التنوير يسكن فى قصور
التاريخ!
القوة تعكس تقدير
الجغرافيا!
فهم الشعب المصرى
تحفظه كتب "علم الاجتماع" وأساتذته!
لا أدعى أننى أكتب
تاريخا.. لكننى قارئ ينحنى تقديرا للتاريخ, ويستمتع بقضاء الوقت فى رحابه.. لا
أزعم أننى أحارب معركة سياسية, لأننى لو فعلت سأكون مجنونا لو توقعت غير الهزيمة..
أتمنى أن أكون واعيا قبل أن يقولوا عنى مثقفا.. فهذا اجتهاد ناتج عن آلام قاسية
سببها الهزيمة التى يفرضها علينا الذين اعتقدنا فى قدرتهم على قيادة وطن أكبر منهم!!
واذا اعتبرها البعض محاولة جادة لفتح حوار وطنى جاد وحقيقى.. فيجب أن أشكرهم بعد
أن يجلسوا بحثا عن طريق يأخذنا إلى "الجمهورية الثالثة".. شريطة أن
نراجع الأولى والثانية.. أما "الجديدة" فمعلوماتى عنها لا تتجاوز دهشة
الأطفال بالملابس الجديدة فى الأعياد!! وحتى لا نكون ضمن المتناسين لكوارث "الخديوى
اسماعيل" وابنه "توفيق", مع التذكير الدائم بأن "عبد الناصر"
سبب نكسة يونيو 67..!!..
الجمهورية الثالثة !! معجزة الكذب (23)!!
يتبع
0 تعليقات