مهند دليقان
هنا الحلقة الرابعة، ويمكن الرجوع عبر الروابط للحلقات السابقة:
الأولى (1- العقوبات وسعر الصرف)، الثانية (2- إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا)، الثالثة (3-خلية الرأسمالية الأولى).
مررنا في الحلقات الماضية بشكل موجزٍ على نشوء المقايضة بين البشر والتي بتطورها
نشأت البضاعة-خلية الرأسمالية الأولى، ووقفنا عند جانبي البضاعة «القيمة
الاستعمالية» و«القيمة التبادلية»، وتوقفنا في الحلقة الماضية عند السؤال الذي
وقفت عنده البشرية طويلاً وهو: على أي أساسٍ تتقابل البضائع في السوق بوصفها
متعادلات؟ أو: إلى أي وحدةٍ يجري الاستناد لمبادلتها ببعضها البعض...
قبل العودة إلى خط السير الذي بدأناه، لا بد من التذكير بأنّ الهدف
النهائي لهذه السلسلة هو أن يتمكن القارئ من تكوين رأيٍ مستنير مما يجري هذه
الأيام من تحولات كبرى على الساحة العالمية بما يخص البترودلار والدولار نفسه،
وضمناً مسألة (الغاز بالروبل) بوصفها نقطة علامٍ في الانتقال نحو مرحلة جديدة، ليس
بالنسبة لروسيا وحدها، بل وللعالم بأسره...
وإذاً، نتابع من حيث توقفنا...
مراجعة سريعة
• البضاعة هي (1- نتاج عملٍ بشري، 2- تلبي حاجة بشرية مادية أو
روحية، 3- أُنتجت بغرض التبادل لا بغرض الاستهلاك المباشر).
• للبضاعة جانبان هما قيمتها الاستعمالية، أي منفعتها، والتي تتحدد
بخواصها الطبيعية، (وزنها، حجمها، تركيبها، إلخ). وقيمتها التبادلية والتي هي
النسب الحسابية التي يجري على أساسها تبديلها مع البضائع الأخرى (1 سترة= 20 ذراع
قماش، 1 سترة=
العمل الملموس والعمل المجرد
كما هو الأمر مع وجود جانبين (استعمالي وتبادلي) لأي بضاعة، فإنّ
العمل المنتج لها، كذلك الأمر له جانبان (ملموس ومجرد)... كيف ذلك؟
إذا عدنا لمثال (1 سترة = 20 ذراع قماش)، فإنّ العمل الملموس
المنتج للسترة هو حياكتها؛ أي أن نوع العمل المنتج للسترة هو الحياكة. وبالنسبة
لأذرع القماش فإنّ نوع العمل الملموس المنتج لها هو النسج... ونوع العمل المنتج
للحنطة هو الزراعة وإلخ.
نوع العمل الذي ينتج كل بضاعة من البضائع، هو الجانب الملموس من
العمل (الحياكة، النسج، الزراعة، النجارة، الحدادة ...إلخ)، وهذا الجانب الملموس
من العمل هو المسؤول عن إعطاء البضاعة قيمتها الاستعمالية، أي منفعتها. ولكنه غير
قادر على تحديد نسب تبادلها في السوق، لأنّ كل عمل ملموس يختلف كل الاختلاف عن
الأعمال الملموسة الأخرى...
كمّ أو مقدار العمل الذي ينتج كل بضاعة من البضائع، هو الجانب
المجرد من العمل، والذي تتساوى فيه الحياكة والنسج والزراعة والنجارة وإلخ، في
حقيقة أنها عمل بشري على العموم، دون تخصيص لنوع ذلك العمل.
حين تتقابل سترة مع 20 ذرعاً من القماش في السوق، ويتم التبديل بينهما
على أنهما شيئان متعادلان، فإنّ ذلك يعني ضمنياً أن العمل البشري المخترن في كلٍ
منهما، هو عمل متساوٍ، وهذا الأساس الذي يسمح لهما بالتقابل كشيئين متعادلين.
وحدة التبادل
نعود الآن إلى السؤال الذي وقفنا عنده في الحلقة الماضية مستفيدين
مما أضفناه أعلاه حول جانبي العمل المنتج للبضاعة. السؤال هو: لماذا تمت المبادلة
بين (1 سترة) و(
• (1 إلى 10) هي (القيمة التبادلية للسترة مع الحنطة)
• السترة لها قيمة استعمالية مختلفة تماماً عن القيمة الاستعمالية
للحنطة ولا يمكن تفسير التساوي بين السترة والحنطة على أنه تساوي في القيمة
الاستعمالية.
• الأمر الوحيد المشترك بين السترة والحنطة هو أنهما نتاج عملٍ
بشري.
• والعمل البشري المشترك بينهما، ليس الحياكة، ولا الزراعة، ولا أي
نوع من أنواع العمل الملموس، بل هو العمل على العموم، أي العمل المجرد.
ولكن ما الذي يجعل سترة واحدة مساوية لـ10 كغ من الحنطة، وليس
أقرب إجابة إلى الذهن هي عدد ساعات العمل؛ فمثلاً يمكن للسترة أن
تتقابل مع
وهذه الإجابة هي إجابة صحيحة من حيث المبدأ، لكنها ليست دقيقة...
فإذا كان الحائك الذي يقوم بحياكة السترة ذا مهارة ضعيفة وربما كسولاً، فإنّ
السترة قد تأخذ معه ضعف وقت إنتاجها في يد حائك ماهر... ولذلك فإنّ المقياس ليس أي
وقت عمل بشري، بل هو وقت العمل الضروري اجتماعياً، أي أنه وسطي عدد الساعات اللازم
لإنتاج بضاعة ما ضمن درجة تطور الإنتاج وأدواته الموجودة في لحظة التبادل.
وعدد ساعات العمل البشري الضروري اجتماعياً المختزن في أي بضاعة
ليس القيمة الاستعمالية للبضاعة، وليس القيمة التبادلية بل هو ما يصطلح ماركس على
تسميته قيمة البضاعة... والتي سنعود في وقتٍ لاحق للوقوف عند القانون الرياضي
المبسط لها.
مراحل تطور التبادل
مع تطور المجتمع البشري، تطورت أشكال تبادله للمنتجات، من الشكل
الأكثر بساطة وهو المقايضة، إلى الأشكال المعقدة التي نراها في عالمنا المعاصر.
سنستخدم فيما يلي رمزين هما (ب) أي بضاعة، و(ن) أي نقد، ومن
خلالهما سنصف بشكل مبسط أربع مراحل كبرى في تطور عمليات تبادل البضائع بين البشر،
ومن ثم سنفسرها أولاً بأول.
هذه المراحل هي:
• ب1 - ب2 (مقايضة)
• ب1 - ب2 - ب3 (تطور المقايضة)
• ب1 - ن - ب2 (البضاعة النقدية-النقد)
• ن1 - ب - ن2 (رأس المال)
أولاً: ب1 - ب2 (أو المقايضة)
في هذه المرحلة، يجري التبادل بشكل مباشر بين بضاعتين مختلفتين
نوعياً، صاحب البضاعة الأولى يسلم بضاعته لصاحب البضاعة الثانية، والعكس بالعكس...
وهذه المرحلة هي ذاتها مرحلة المقايضة.
ثانياً: ب1 - ب2 - ب3 (أو تطور المقايضة)
فلنفترض ما يلي: ب1 هي 40 بيضة، ب2 هي 4 ليتر من الحليب، ب3 هي
سترتان. ولنفترض أنه ضمن درجة معينة من تطور الإنتاج، فإنّ هذه البضائع الثلاثة
متساوية في قيمتها، أي في عدد ساعات العمل البشري الضروري اجتماعياً المختزن في كل
منها.
صاحب البيض يريد تبديله بسترتين، وصاحب السترتين لا يحتاج اليوم
إلى بيض ولكنه يحتاج إلى الحليب. يدخل الحليب بوصفه وسيطاً في عملية التبادل؛ يبدل
صاحب البيض، البيض بالحليب، ثم يذهب إلى صاحب السترتين فيبدل الحليب بهما.
يُظهر هذا المثال البسيط إحدى المشكلات التي ستعيق تطور عمليات
التبادل؛ فكلما تنوعت البضائع التي تجري مبادلتها، تصبح المقايضة المباشرة أقل
قدرة أكثر فأكثر على تخديم عملية التبادل؛ ففي المثال السابق كانت المشكلة هي
التباين في احتياجات أصحاب البضائع المختلفة، ولكنها ليست المشكلة الوحيدة... إذ
يمكن أن نفترض دون صعوبة الحالة التالية: صاحب ال40 بيضة، لا يريد سترتين، ولكنه
يريد سترة واحدة، وليتر من الحليب، وربع ليتر من زيت الزيتون، وثلاثة أرغفة من
الخبز... والعمل المختزن في ال40 بيضة قد يكون مساوياً تماماً للعمل المختزن في
هذه البضائع الأربعة الأخرى التي يريدها صاحب البيض، ولكن عمليات المقايضة
والتبادل التي يحتاج للدخول فيها للوصول إلى احتياجاته ستكون غاية في التعقيد
والصعوبة... ولذلك بات لا بد من اختراع جديد لتسهيل الأمر على الجميع ولدفع التطور
قدماً... ذلك الشيء هو البضاعة النقدية والتي تحولت لاحقاً إلى نقد وبعدها إلى رأس
مال...
0 تعليقات