محمود جابر
ما يزال التراث الإسلامي
عامة والشيعي، على وجه الخصوص يعانى من فوضى الروايات التى تم دسها فى هذا التراث
الحديثى، بشكل قض مضاجعنا ومضاجع الكثير غيرنا، هذا الأمر الذى يحتاج ان نستنفر كل
أدواتنا البحثية فى الدفاع عن هذا المذهب العظيم الذى يعتبر احد تجليات الفكر الإسلامي
وفرع من فروع المعرفة الإسلامية.
وادعى ان هذه الموضوع
يجب أن يكون من أهم القضايا التى يجب أن ينشغل بها العلماء المخلصين، والبحاثة
النابهين، فهذه الفوضى من شأنها أن تنال من رجاحة العقل الإسلامي، وتنال من وحدة
المسلمين، الأمر الذى يستدعى ان نستنفر هممنا من اجل التصدي لهذا التيار الانحرافى
داخل هذه المدرسة الإسلامية، حتى استطاع خصوم المذهب أن يربطوا بين مفهوم الغلاة
والتشيع معا.
ومن خلال هذه
المغالاة من البعض استطاع الخصوم ان يربطوا بين المغالاة والتشيع ارتباطا لا نفكاك
منه فى أذهان العامة و الدعاة المتطرفين، مستغلين ما قام به الغلاة من الدس في
المتون المعتبرة لدى الشيعة عبر تاريخ طويل، مما خلق متاعب جمة لعلماء ومحققي
المذهب قديما وحديثا في غربلة هذا التراث المتناقض.
استطاع الغلاة تشكيل الوعى
العام في أئمة أهل البيت (ع) وهو أصل كل داء أصيب به الشيعة فيما بعد، ومن خلال
قدرتهم على التسلل الى تراث استطاعت فرقة المفوضة الولوج الى العقل الشيعى بالتدريج
حتى أصبحت رؤيتهم عمدة فى العقائد الشيعية، ودخلت آراءهم في المجاميع الحديثية،
ولا سيما الموسوعية منها ككتاب الكافي، وبحار الأنوار.. ودخلت في العصور المتأخرة
الكثير من كتاباتهم فيما ألفه بعض علماء الشيعة من الروايات الغريبة، كوجود آثار
للأئمة فى سفينة نوح وصحف إدريس وإبراهيم، موسى وعيسى وحتى أسمائهم مكتوبة فى
قوائم العرش!! ومازالت مثل هذه الأحاديث تتردد إلى اليوم من على الكثير من المنابر
الشيعية والحسينيات دون تمحيص.
البدايات
حكى الجاحظ فى البيان
والتبيان وابن أبى الدنيا فى مقتل أمير المؤمنين والنوبختى فى فرق الشيعة، أن ظهور
الغلو في الشيعة مباشرة بعد استشهاد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع)، إذ
ادعى جماعة منهم بأنه لم يمت ومازال حيا، ولن يموت قبل أن يخضع له العرب جميعا، ويفتح
العالم بأسره. وقد تجددت هذه الدعوى بحق ولده محمد بن الحنفية عندما زعم أتباعه
بأنه لم يمت، بل اختفى عن الأنظار وبأنه سيظهر في آخر الزمان، ليملأ الأرض قسطا
وعدلا كما ملأت ظلما وجورا، حكى ذلك غير واحد منهم السيد الحميرى فى كمال الدين
وكذلك النبوبختى.
وقد اتفق جميع المسلمين
على تسمية هؤلاء بالغلاة، وكان هذا أول مفهوم لتلك الكلمة.
الغلاة
تطورت أفكار هؤلاء
الغلاة منذ أوائل القرن الثاني حتى ظهر
أشخاص وفرق يؤلهون الأئمة (ع)، وعلى الرغم
من وجود روايات تتحدث عن إحراق الإمام على (ع) لجماعة منهم، إلا أن هناك شكوكا
تحيط بتلك الروايات.
فى كتاب الكيسانية فى
التاريخ والأدب وغيرها، نجد ذكر لرجل يدعى حمزة بن عمارة البربري، انفصل عن الكيسانية
(وهي فرقة من غلاة الشيعة) وادعى بأن محمد
بن الحنفية هو الله، وأنه قد أرسل حمزة البربري إلى الناس!!
كذلك ادعى العديد من
الأشخاص إلوهية الإمام الصادق (ع) أو باقي الأئمة من آل بيت الرسول (صلى الله عليه
وآله). وقد كانت لهؤلاء جميعا تفاسير باطنية خاصة للشريعة والشعائر الدينية ينتهي
القول عادة بنسخها وتحليل محرماتها، مما كان يؤدي في الغالب إلى عزلهم عن باقي
مكونات المجتمع الإسلامي.
ثم ظهرت جماعة أخرى من الغلاة تسمى " الطيارة" وقد ذكرتهم كتب
الرجال ومنهم: أحمد بن محمد
بن يسار و علي بن عبد الله الخديجي، وعلي بن عبد الله الميموني، وعلي بن أحمد
الكوفي، وداود بن كثير الرقي، وفارس بن حاتم بن ماهويه القزويني، وحسن بن أسد
الطفاوي، وإسحاق بن محمد بن أحمد بن أبان الأحمر، و جعفر بن محمد بن مالك الفزاري،
والمفضل بن عمر الجعفي، وأبو سمينة محمد بن علي الصيرفي، وللمزيد يمكن الرجوع لرجال
النجاشى.
المفوضة:
خلال القرن الثاني ظهرت
في زمان الإمام الصادق (ع) فرقة جديدة من غلاة الشيعة، تستقي أفكارها أيضا من فرقة
الكيسانية وتشكل امتدادا لها خصوصا في اعتبار آل محمد(صلى الله عليه وآله) على
أنهم موجودات فوق البشر، ذووا علم مطلق يشمل علم الغيب.
وبأن الله تعالى قد
أعطاهم صلاحية التشريع، وبأن لهم القدرة على التصرف في الكائنات وهي قدرة فرعية
تابعة لقدرته تعالى خلافا للغلاة الملحدين الذين يعدون هذه القدرة أصلية. كما أنهم
نسبوا للأئمة الكثير من المعجزات بلا دليل كإمكان سماعهم لأصوات الملائكة و أصوات
زوار مراقدهم، ورفعوا مكانتهم (ع) فوق البشرية، وقد سماهم الناس بـأهل الارتفاع، بيد
ان مصطلح (المفوضة) كان هو الأشهر.
تأثر المفوضة بنظرية
الحلول (أي حلول روح الله أو نوره في جسم النبي أو الإمام)، حيث تطورت هذه الفكرة
بعد ذلك إلى اعتبار الإمام مظهرا لجانب من روح الله، انتقل من آدم عن طريق سلسلة
من الأنبياء حتى وصل إليهم. ويدعون في ذلك بأن الله تعالى أول ما خلق النبي
والأئمة (ع)، وأنهم وحدهم خلقوا بقدرته المباشرة ومن مادة مختلفة عن المادة التي
خلق منها باقي البشر.وقد تجد العديد من هذه الروايات فى تفسير العياشى، وبصائر
الدرجات، الكافى وآمالى الصدوق.
ذهبت المفوضة بقولهم أن
الله أعطى الأئمة قدرة وتفويضا فى الخلق ، وأن كل ما يحدث في العالم هو صادر منهم !!
بعض المفوضة وكما جاء فى روايات الكافى وبصائر الدرجات ذهبوا
إلى يقولون بأن الوحي ينزل على
الأئمة كما كان ينزل على النبي (ص)، وأنهم يعرفون جميع لغات البشر بل يعرفون منطق
الطير وسائر الحيوانات، وأنهم يتمتعون بقدرات غير محدودة، وعلم لامتناه، وأنهم
موجودون في كل مكان !!
كان المفضل بن الجعفى
أول من صدع بهذه الآراء في المصادر الشيعية، وقد خلفه بعد وفاته أبو جعفر محمد بن
سنان الزاهري، وعلى نفس النهج سار محمد بن نصير النمير، رأس الطائفية النصيرية؛
وقد كان النصيرى من علماء البصرة، ومن أتباع المفضل ومحمد بن سنان، ليضيف إلى
مدرستهما عقائد باطنية أخرى في الحلول والتناسخ، وليعيد هذه المدرسة إلى حالتها
الخطابية الأولى (وقد كان أبو الخطاب قد أله الإمام الصادق (ع) فلعنه).
ومن أبرز رواة (المفوضة)
الذين ذكروا في كتب الرجال، وقد كانوا يضعون الروايات وينسبونها إلى الأئمة (ع) نجد؛
إسحاق بن محمد البصري، وإبراهيم بن يزيد المكفوف، والخيبري بن علي الطحان، وعبد
الله بن خداش المهري، ومحمد بن بحر الرهني، وإبراهيم بن إسحاق الأحمر، وأحمد بن
علي الرازي، وأمية بن علي القيسي، وجعفر بن معروف السمرقندي، وعبد الله بن بحر
الكوفي، وأحمد بن علي الرازي..
الأئمة والعلماء فى مواجهة الغلاة:
ما
إن ظهرت اتجاهات الغلو لأول مرة وبدأت في الانتشار حتى انبرى الأئمة (ع) وأصحابهم
المخلصين للتصدي لهؤلاء الغلاة وفضحهم، رافضين إعطاء أي صفة فوق بشرية للأئمة،
مؤكدين على أنهم ليسوا إلا “علماء أبرار” من بيت النبوة، وأئمة أوصى بهم الرسول (صلى
الله عليه وآله) أمته بالتزام نهجهم في تفسير الكتاب وبيان السنة. بل إن من فريقا
من علماء الشيعة خلال القرن الرابع كانوا يذهبون إلى أن الأئمة، وبالرغم من كونهم
مفترضي الطاعة، إلا أنهم في جانب كيفية العلم بالشريعة لا يختلفون عن باقي علماء
الدين.
وقد
كان الإمام الصادق (ع) يحذر من الغلاة، حيث ورد عنه قوله: "احذروا
على شبابكم الغلاة لا يفسدوهم، فإن الغلاة شر خلق الله.."،
كما ورد عن الإمام الرضا (ع) قوله:الغلاة..صغروا عظمة الله، فمن أحبهم فقد أبغضنا،
ومن أبغضهم فقد أحبنا، ومن والاهم فقد عادانا، ومن عاداهم فقد والانا.. أمالي الشيخ 264:2 وعيون أخبار الرضا 203:2.
فى هذه المواجهة برز أبو محمد عبد الله بن أبي يعفور العبدي، وهم من أصحاب الإمام
الصادق (ع) وحدث بينه وبين المعلى بن خنيس -أحد أصحاب الإمام الصادق ممن يرى بأن
الأئمة هم في منزلة الأنبياء- فما كان من الإمام الصادق إلا أن دعم وجهة نظر ابن
أبي يعفور وخطأ المعلى بن خنيس بقوة.
وقد حظيت آراء ابن
أبي يعفور بتأييد واسع في المجتمع الشيعي في ذلك العصر، وظهرت في زمن خلافة المهدي
العباسي فرقة شيعية تسمى “اليعفورية” تمتاز بآراء معتدلة وسليمة في المسائل
الخلافية. ولا تستيغ الجدل في الأمور المذهبية، ولا تعتبر منكر الإمامة كافرا كما
يرى الغلاة.
ومن العجيب أننا نجد اتفاقا فى أغلب المصادر الشيعية كتصحيح الاعتقاد وشرح
اللمعة الدمشقية والعروة الوثقى؛ إجماعا بكفر الغُلاة والمفوضة، ونقل السيد الحكيم في مستمسك العروة
الوثقى الإجماع على ذلك الجزء الأول صفحة 386، ثم أردف قائلاً: “وكذا الحال لو
أريد من الغُلو تجاوز الحد في صفات الأنبياء والأئمة مثل اعتقاد أنّهم خالقون، أو
رازقون، أو لا يغفلون، أو لا يشغلهم شأن عن شأن، أو نحو ذلك من الصفات”.
حيث وجدت هذه الدعوات
والتحذيرات صدى لدى الكثير من عقلاء الشيعة والملتزمين بأوامر مرجعياتهم، بيد أن
الاتجاه السائد رغم ذلك هو لآراء وأفكار هؤلاء الغلاة ولعل ذلك بسبب طغيان العوام وبعض
المتطرفين من الدعاة والفقهاء وما زلنا فى حاجة الى جهد جهيد للتخلص من هذا
الاتجاه السائد .
نجد ذلك فى العديد من
المدونات الشيعية مثل دلائل الإمامة ومسند فاطمة للطبري الشيعي، وعيون المعجزات
لحسين بن عبد الوهاب، وتفسير فرات بن إبراهيم، وثاقب المناقب لعماد الدين الطوسي،
والروضة لابن شاذان.. وقد ذهب بعض المتأخرين إلى حد الدفاع عن بعض الغلاة و تسديد
سهام اللوم لأساطين علم الرجال، بسبب وصمهم غلاة ومفوضة الصدر الأول بفساد العقيدة.
وكما كان ظهور النصيرية احد تجليات المفوضة، فإن الشيخية التى تؤمن بدور الأئمة
فى خلق ورزق الموجودات هى أيضا أحد
تجلياتها .
كما أثر هذا التراث
العقدي في مواقفهم وفقههم وطقوسهم، حتى أصبح عزل تلك المظاهر من أصعب الصعاب التي
تجشم عناءها القلة القليلة من عقلاء الطائفة وعانوا في ذلك الأمرين من الفقهاء
التقليديين والدعاة المتحمسين الذين تأثروا بهذه الرؤى والطروحات المغالية وكذا
السذج من عوام الشيعة الذين تابعوهم في ذلك.
ثم ظهر فى العصر الحديث اتجاه يجمع ما بين الانحراف الشيعى والمتصوفة الباطنية،
الذين جمعتهم ما تسمى بالفلسفة العرفانية ويمثل فيها بن عربى – محيى الدين بن
عربى- عمدتهم فى هذا الاتجاه، وكان ابرز دعاة هذه المدرسة التى عرفت بمدرسة الحممة
المتعالية والتى نزر لها السيد حيدر الآملى، حيث طرحت هذه المدرسة في تحليلها لمفهوم الإمامة النظرية
المسماة بـ "الولاية التكوينية" على أساس نظرة ابن عربي للوجود. مما أدى
إلى انقسام الأوساط الشيعية مرة أخرى إلى اتجاهين يختلفان حول هذا المفهوم الجديد
ودائرة انطباقه، دفع ثمن نقد هذا الاتجاه الأستاذ مطهرى بعد ان وثق هذا الرفض فى
كتابه الإمامة والقيادة.
المفوضة ومن تأثر بهم
ممن راحوا يقولون بنظرية (الولاية التكوينية)، يرون سب ولعن وتكفير كل من عارض الأئمة البيت (ع) أو خالفهم بدءا
من بعض الصحابة وانتهاء بالعوام، بل كل من لم يعتقد بما يعتقدون، وهو أمر يخالف
مواقف الأئمة (ع) وأخلاقهم في الدعوة والتربية.
ومن ذلك بعض
التأويلات المغالية للقرآن الكريم، وقد جاءت الكثير من الروايات التي تشير إلى أن
بعض الآيات المنزلة في القرآن قد ذُكرت فيها أسماء أئمة أهل البيت (ع)، كما رُوي
في الكافي عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (ع) في قول الله تعالى: (مَن يُطِع الله
ورَسُولهُ ـ في ولاية عليّ والأئمة من بعده ـ فقَد فازَ فوزاً عظيما) –سورة
الأحزاب-71- وفيه أيضا بموضع آخر تفسير نور الثقلين: 1/487 نقلاً عن أصول الكافي عن
منخّل، عن أبي عبدالله(ع)، قال: نزل جبرئيل على محمّد(ص)بهذه الآية هكذا: (يا
أيّها الّذين اُوتُوا الكتاب آمِنوا بما نَزّلنا ـ في علي ـ نوراً مُبيناً) –سورة
النساء-47- إلى غير ذلك من الروايات التي ضعفها عدد من كبار علماء الشيعة كالعلامة
المجلسي في كتابه مرآة العقول، والمحدث الكاشاني أيضا في كتابه الوافي.
ومن ذلك غلوهم في بعض
أقوال الأئمة التي كانت تناسب عصرا معين، كالتقية التي دعا الإمام الصادق (ع) شيعته
لاستخدامها كإجراء وقائي لحفظ النفس بعد أن استحر القتل وزاد الحصار والتضييق على
أتباع المذهب خلال العهدين الأموي والعباسي. لكن بعض الفقهاء الذين تأثروا بآراء
المفوضة كانوا يرون في أقوال الأئمة تشريع يضاهي تشريع القرآن، فمازالوا حتى رفعوا
التقية إلى مرتبة العقائد، بأحاديث وتأويلات فاسدة. وكذا إضافة الشهادة الثالثة
إلى الأذان وقد صرح الشيخ الصدوق فى من لا يحضره الفقيه بأنها من بدعهم.
0 تعليقات