آخر الأخبار

الجمهورية الثالثة !! ثكنات الثقافة !! (27)

  

 


 

نصر القفاص

 

 

تعرضت "الجمهورية الأولى" لحملات ضارية تستهدف بنيتها الأساسية – مازالت مستمرة – وعلى العكس لاقت "الجمهورية الثانية" دعما ومساندة غير مسبوقين من أعداء "ثورة 23 يوليو" داخليا وخارجيا.. وقد يفسر ذلك استمرار منهج الحكم الذى أرسى قواعده "أنور السادات" معتمدا على معادلة – الفساد والإخوان – لدرجة أن هذا المنهج استمر رغم صعوبة وخطورة الصدمات التى تعرض لها.. بداية مما حدث فى 18 و19 يناير 1977.. وتم اغتياله معنويا بوصفه "انتفاضة حرامية" وبعدها كانت أحداث 25 و26 فبراير 1986.. التى أطلقوا عليها "تمرد الجند" وتأسس عليها إعادة بناء قوات "الأمن المركزي"!! ثم كان ما حدث فى 25 يناير 2011 وهو ثورة بنص الدستور.. لكنهم جعلوها "25 خساير"، مقابل "ثورة 30 يونيو 2013" بوصف الدستور.. فجعلها أعداؤها "30 سونيا" بفضل قوة طرفى معادلة الحكم!!

 

كان "مؤتمر القوى الشعبية" الذى انتهى إلى صدور "الميثاق" علامة فارقة فى تاريخ "الجمهورية الأولى" لأسباب كثيرة.. قد يكون أولها أنه واكب انطلاق الخطة الخمسية الأولى.. وليس آخرها إعلان قيام "الاتحاد الاشتراكي العربي" كطبعة ثالثة لنظام الحزب الواحد.. وما بينهما كانت الحاجة إلى أهمية وضرورة فتح ملفات قضية "المدنى والعسكرى" التى حرص – ومازال – على جعلها ساخنة دائما أعداء "ثورة 23 يوليو" من اللحظة الأولى لقيامها لرفضهم "الإصلاح الزراعي" ومقاومتهم قيام "القطاع العام" فضلا عن تبنيهم أصوات غربية رافضة لسياسات "التمصير" ثم "التأميم" ودعم حركات التحرر!!

 

تولى "محمد حسنين هيكل" عبر "الأهرام" مهمة تعبيد الطريق لانطلاق أول "حوار وطنى" جاد وحقيقى، قبل الدعوة إليه وانطلاقه بنحو عام – 9 شهور – بأن فتح أبواب ما أطلق عليه "أزمة المثقفين" لتشهد مصر اشتباكا فكريا شارك فيه المئات من الذين يرون صراعا بين "المدنى والعسكرى" مع الذين ينكرون هذا الصراع.. كما اشتبك الذين يعتقدون أن "الديمقراطية" هى العودة إلى ما كان قبل قيام الثورة.. يقابلهم المؤمنون بأن الحرية السياسية تصبح لغوا ولهوا، دون أن تترسخ الحرية الاقتصادية والاجتماعية ويتم التخلص من سيطرة رأس المال على إرادة الشعب.. وترتب على ذلك سخونة التراشق بين الذين يدافعون عن عباءة الدين ويتشبسون بها, مع الذين يتمسكون بضرورة الفصل بين الدين ونظام الدولة!!

 

كل هذا تحفظه الذاكرة الوطنية مكتوبا ومطبوعا فى صحف تلك الفترة.. تناولت عشرات الدراسات والكتب التى دفنها "حانوتية الثقافة" والذين حملوا الراية بعدهم من "أراجوزات التنوير" لدرجة أن أحدهم خرج على الناس عبر شاشة فضائية، ليقول: "دعونا من التاريخ.. دعونا ننشغل بلقمة العيش.. لأن التاريخ لا يهم الناس"!!

 

بينما أقرانه يشغلون الأمة بمباراة الأهلى والزمالك, وأخبار مطربة انفصلت عن زوجها.. كذلك حكاية "رجل مال" جعلوه سياسيا مع زوجاته من الفنانات.. إضافة إلى حكايات من أطلق عليه الشعب "شوال الرز" والقاضى القاتل وغيرهم من "الهاموش"!!

 

المسافة بين أول "حوار وطنى" وآخر "حوار وطنى" سنوات ضوئية!!

 

يشرح ويفسر المعنى ما حدث خلال "أول حوار وطنى" وتفاصيله.. وضمن هذه التفاصيل أن الدكتورة "عائشة عبد الرحمن" التى اشتهرت باسم "بنت الشاطئ" وكانت أستاذ الأدب العربى بجامعة "عين شمس".. وقفت لتنتقد "زكريا محيى الدين" على أنه لم يضع من شملتهم قرارات العزل السياسى فى معسكرات اعتقال.. وتصدى لها "خالد محمد خالد" الرافض للعزل السياسى أساسا، لاعتقاده أن الانحراف فى تنفيذه يمكن أن يظلم مئات الأبرياء!! فى حضور "جمال عبد الناصر" الذى كان يتمتع بفضيلة "الإصغاء" بقدر براعته فى مخاطبة الرأى العام.. ربما لأنه كان يؤمن بأهمية وضرورة عملية "الإرسال والاستقبال" بفضل ثقافته التى تكشفها عناوين عشرات الكتب, وكان قد قرأها طالبا فى الكلية الحربية.. إضافة إلى مئات الكتب قام بتدريسها وقت عمله كأستاذ تاريخ فى الكلية ذاتها!!

 

بين رئيس "الجمهورية الأولى" ورؤساء "الجمهورية الثانية" فرق جوهرى!

 

كان "عبد الناصر" قارئ لا يشبع من القراءة.. بينما الذين حكموا بعده لديهم رغبة فى أن يتكلموا, لامتلاكهم القدرة على الإرسال مع رفض للاستقبال!! والمفارقة أن "عبد الناصر" كانت هوايته ممارسة فن التصوير.. بينما الذين حكموا بعده يدمنون أن يتم تصويرهم!!

 

تناول كل ذلك الدكتور "أنور عبد الملك" فى كتابه "المجتمع المصرى والجيش" وعرض منتقدا ما حدث خلال "مؤتمر القوى الشعبية" عبر دراسة علمية تمت مناقشتها فى "جامعة السوربون" مشيرا إلى كتاب "أزمة المثقفين" الذى يضم مقالات "محمد حسنين هيكل".. وغيره من الكتب التى تولت الاختلاف معه فى الرأى والرؤية – كلها تم دفنها – ونشر خلاصة اختلاف "لطفى الخولى" مع المشاركين فى الحوار وبينهم الدكتور "عبد الملك عودة" والدكتور "عبد الرازق حسن" وتفاصيلها دروس فى المعرفة العميقة.. كما توقف أمام ما طرحه "عباس محمود العقاد" الذى اتهم المثقف المصرى بأنه لا يبحث عن غير حقوقه, دون أن يؤدى واجباته أو يلتزم بها!! وذكر أن "زكى نجيب محمود" قدم رؤيته لمفهوم الثقافة.. ثم ألقى الضوء على مقال "محمد حسنين هيكل" تدخل وتم نشره على صفحات "الأهرام" يوم 2 يونيو 1961.. وعرض خلاله أنه هناك ثلاثة أزمات تواجه المثقفين تتمثل فى: "الأزمة الأولى هى المطالبة بعودة الجيش إلى ثكناته فى أعقاب ثورة يوليو.. والأزمة الثانية حول المطالبة بعودة الحياة النيابية وعودة الأحزاب السياسية.. والأزمة الثالثة هى المفاضلة بين أهل الثقة وأهل الخبرة, فى إشارة إلى تعيين عدد من العسكريين فى عدد من الهيئات والشركات المدنية"!!

 

تأخذك الدهشة.. بل الصدمة.. حين تقرأ هذه الحقائق!!

 

تتضاعف دهشتك, وتتحول الصدمة إلى ضرورة وصفها بأنها "مروعة" إذا عرفت ما قاله الدكتور "لويس عوض" الذى كان يرى أن المثقف المصرى مجرد ناقل لإبداع الغرب من أمثال "جان بول سارتر" و"برنارد رسل" ليرد عليه الدكتور "مجدى وهبة" الذى قال أن: "أزمة الثقة بين المثقفين ورجال يوليو ترجع لأسباب أهمها.. أن المثقفين فوجئوا بحركة الجيش, فأخذهم الشعور بالفشل.. وترتب على ذلك عودة المثقفين إلى ثكناتهم الثقافية"!! وأضاف موضحا بقوله: "المثقف يشعر أن عبد الناصر على حق إلى حد بعيد.. لكنه بطبيعته يريد توجيه النقد".. ليختلف معه الدكتور "محمد الخفيف" ومعه الدكتور "لويس عوض" اللذان قالا أن الثورة كانت موجودة بكامل طاقتها قبل تحرك الجيش!!

 

كان بعض رجال الثورة مشاركين فى الحوار.. واجهوا بقوة!!

 

تدخل اللواء "صلاح الدسوقى" الذى شغل منصب محافظ القاهرة.. ليرفض وجود "أزمة مثقفين" لأنه يرى أن الأزمة عند الذين يمثلون الإقطاع ورجال أحزاب ما قبل الثورة, الذين يعتقدون فى أن الاختلاف حرفة أو مهنة!! ثم قال: "ثورة الجيش فى 23 يوليو هى فى جوهرها كانت ثورة مثقفين, وقفوا مع شعب بصدق.. وبقى محترفى الثقافة الذين يمارسونها كمهنة أو دفاعا عن أفكار مستوردة خارج الدائرة"!! ثم ذكر أن ضباط يوليو كانوا مثقفين, عرفهم مثقفى الشيوعيين والوفديين والإخوان وناقشوهم.. وصدمتهم قدرتهم على الحوار وأنهم يملكون فكرا ورؤية.. وأشعل هذا الهجوم عددا من المشاركين فى الحوار – كتابة وخلال الندوات – فتداخل "رشدى سعيد" و"حسين خلاف" و"فتحى رضوان" وأشاروا إلى أن "عبد الناصر" قال فى حوار إذاعى, نشرته الأهرام يوم 26 أغسطس عام 1961 بالنص: "منذ تسع سنوات لم تكن هناك خطة.. كانت هناك ستة مبادئ أساسية, منها القضاء على الاستعمار, القضاء على الإقطاع, القضاء على استغلال رأس المال, وتحقيق العدالة الاجتماعية.. وقد وضعنا المبادئ الستة أمامنا, ورحنا يوما بعد يوم.. وشهرا بعد شهر على ضوء التجربة الوطنية, نتخذ من القرارات ما يفتح الطريق لتنفيذ هذه المبادئ"!!

 

المسافة بين بدايات "الجمهورية الأولى" ونهايات "الجمهورية الثانية" أصبحت شاسعة!!

 

الفارق بين الحوار الوطنى الأول.. والحوار الوطنى الأخير عام 2022.. ليس زمنا فقط!!

 

يجوز لى القول أنه فارق شاسع بين "مشروع وطنى" ومشروع آخر حافل باجتهادات شخصية.. والفارق بين مثقفى الجمهوريتين.. هو فارق بين علم ومعرفة وثقافة ومواهب.. وبين موظفين يأخذون مكانتهم من كراسى كان يجلس عليها مثقفين, فيما أطلق عليه الشعب "الترزية" عند السخرية من "ترزية القوانين" وغيرهم من الذين امتهنوا الإعلام – ترزية الإعلام – والاقتصاد – ترزية الاقتصاد – وصولا إلى "ترزية النفاق" الذين فشلوا فى تقديم ما يمليه عليهم "جهاز سامسونج" بإبداع الفشل!!

 

نعود إلى زمن "الحوار الوطنى" الأول لنجد أنه تناول بالدراسة تحديات مصر الحديثة منذ تولى "محمد على" الحكم.. واعتماده على الجيش كمؤسسة وطنية, ساعدته فى تطوير الزراعة وبناء صناعة إضافة إلى نهضة فكرية كان عنوانها "رفاعة الطهطاوى" المدنى الذى انخرط فى الحياة العسكرية ليتفوق ويبدع مع عشرات.. حتى هبط على مصر الاستعمار الانجليزي الذى قام بحل الجيش, وأسند سياسة التعليم إلى "دوجلاس دنلوب" فى عهد "كرومر" ليتولى تخريب التعليم بوضع أساس لظهور نخبة سطحية حتى عام 1918.. لكنه فشل بقوة مقاومة "محمد عبده" و"مصطفى كامل" و"سلامة موسى" و"على عبد الرازق" و"طه حسين" و"عباس محمود العقاد" الذين اجتهدوا.. لكنهم لم يعرضوا علمهم وثقافتهم فى "السوق السوداء" لمن يدفع أكثر!!

 

هنا تكمن الأزمة.. ومن هنا يمكن أن نبدأ كما قال "خالد محمد خالد" قبل قيام ثورة يوليو!!

 

إذا اتفقنا على ضرورة العودة إلى الأصول وجذور الأزمة.. يمكن أن نعيد قراءة "عودة الروح" ولا مانع من قراءة "عودة الوعى" برؤية "توفيق الحكيم".. وكذلك "الوعى المفقود" برؤية "محمد عودة"!! كسرت "الجمهورية الأولى" احتكار السلاح فى منتصف الخمسينات!!

 

ذهبت إلى كسر "احتكار الثقافة" بعد حرب السويس 1956!!

 

عبر عن ذلك بوضوح "جمال عبد الناصر" يوم 21 ديسمبر عام 1958.. خلال احتفال جامعة القاهرة باليوبيل "الذهبى" بقوله فى خطاب أمام علماء ومفكرى ومثقفى الأمة: "إن مواجهة عصر الذرة وعصر الفضاء.. ليس مجرد سعى وراء البحث العلمى.. إنما هذا العصر يحتاج إلى إعداد فكرى ومعنوى وروحى.. لقد كان يمكن أن يوجد الجمل والسيارة فى وقت واحد.. لكن الجمل لا يمكن أن يكون له وجود فى عصر الصواريخ.. إن المعرفة ستكون فى العصر القادم هى القوة الحقيقية.. هى الحرية الحقيقية.. وأنتم تعرفون أننا من الناحية السياسية, نقاوم احتكار المعرفة.. فنحن لم يعد يكفينا أن نفخر برفع مشعل الحضارة من الإسكندرية فتسلمته أثينا"!!

 

عاد مؤسس "الجمهورية الأولى" لتأكيد المعنى أمام أساتذة "جامعة الإسكندرية" يوم 26 يوليو 1959 حين قال: "الصراع فى عالم اليوم.. لم يعد صراع سلاح.. أصبح صراع علم.. لهذا أصبح العلم أسرارا ممنوعة وأسرارا محفوظة.. وعلينا إن أردنا أن نبنى بلادنا ونطورها, أن نعمل على استخراج العلم بأيدينا واستخراج الأفكار بعقولنا"!! ويفسر ذلك البعثات التى تم إرسالها للخارج.. فذهب خمسة آلاف طالب إلى ألمانيا الغربية, وبأعداد أقل إلى النمسا وبلجيكا وسويسرا.. ثم أقل الأعداد ذهبت إلى الاتحاد السوفيتى والبلدان الاشتراكية.. ولحظة أن استحكمت الأزمة بينه وبين الاتحاد السوفيتى, سحب الدارسين فى بعثات علمية وأرسلهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. وهى واقعة ثابتة وقت حواره الهادئ فى الكواليس مع "كيندى" قبل اغتياله!!

 الجمهورية الثالثة : الرئيس وسموه !! (26)


يؤلمك أن تقرأ وتدقق الوقائع.. يذهلك أن "الجمهورية الأولى" كانت مشروعا متكاملا, شهد حربا ضروسا عليه من الداخل والخارج.. تحديدا من وراء المحيط وخلف البحر – واشنطن ولندن – وأن "الجمهورية الثانية" تحكمت فيها اجتهادات أشخاص لم تظهر على أحدهم أعراض هواية التصوير.. لكنهم أدمنوا الظهور فى الصورة!! برعاية "جنرالات الثقافة" الذين تم تجنيدهم للقتال بمقابل.. ورعاية أمثال "الثرثار باشا" وقائد "ميلشيات السيراميك" مع "فرقة الحديد الموسيقية" التى قلبت "فرح التوريث" إلى "مأتم" ثم عادت لإحياء "أفراح خدم الملكية والاستعمار" بحفلات يحضرها من يقبلون الحضور "بالكفن" أبيض فى أبيض!!..

 

رسالة إلى الرئيس.. قبل فوات الأوان!!


 يتبع

إرسال تعليق

0 تعليقات