آخر الأخبار

العراق و حركة تموز 1958م (5)




العراق و حركة تموز 1958م (5)



محمود جابر


وفى الحلقة الماضية استعرضنا ردود الأفعال الإقليمية والدولية للثورة وكيف كانت مصر فى طليعة الدول التى تغنت بالثورة العراقية، وكيف كان سلوك عبد الكريم قاسم مع زملاء الثورة والإطاحة بهم والانفراد بالحكم .

وفى هذه الحلقة نرى كيف وصل عبد الكريم قاسم من زعيم للثورة والجمهورية إلى زعيم أوحد عزل العراق عن محيطه، وعزل نفسه عن الشعب، أطاح بكل زملاءه وعسكر الدولة والحياة بشكل عام وشبه العراق بالفرقة العسكرية ...
وكيف تعامل مع المرجعية الدينية وقوانيين الاحوال الشخصية ....




التناقض الفكري بين تيارات الضباط الوطنيين والحكومة

برز في حركة 14 تموز 1958 شخصان يتزعمان تيارين مختلفين، هما عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف. كان تيار قاسم مكون من بعض أقاربه وأصدقائه من المدنيين والعسكريين من ذوي الرتب غير الرفيعة تربطهم رابطة الانحدار الاجتماعي الواحد حيث جميعهم من نفس طبقة قاسم، في زمن كانت الطبقية الرأسمالية والإقطاعية قد تجذرت في العراق منذ الحكم العثماني التركي والذي كان يمنح الألقاب الاجتماعية كباشا وبك وأفندي وهانم الخ، يتمثل هذا التيارات بذوي الميول الماركسية وقسم منهم منتمي إلى الحزب الشيوعي وآخر ذو إيمان ماركسي فقط أو من المعجبين بالتجربة الشيوعية، ومن أهداف هذا التيار هو، مع بقاء العراق دولة بعيدة عن أي عمل وحدوي، ذلك لإن من مبادىء الحزب الشيوعي، نقض الأديان والقوميات.

وعليه رفع هذا التيار شعار أو سلك سلوك معارض لانضمام العراق إلى الاتحاد العربي المسمى الجمهورية العربية المتحدة، ثم تدريجيا عزل العراق عن محيطه العربي والإقليمي الإسلامي كما سنرى لاحقا.

وتم وصم هذا التيار بالتنكر للعهود المقطوعة لتنفيذ الميثاق الوطني لتنظيم الضباط الأحرار وسلك سلوك فوقي ودكتاتوري وأبعد كل من يعارضه من التيار المنافس أو أي صوت يعلو على صوت عبد الكريم قاسم.

أما تيار عبد السلام عارف فكان أغلب عناصره من أعضاء تنظيم الضباط الوطنيين وكان هدفهم هو تنفيذ مباديء الميثاق الوطني وتطبيق كل ما اتفق عليه الضباط الوطنيين، وأغلب انتماء هذا التيار لفكر العروبي الوحدوي حيث أعلن عن رغبته في انضمام العراق إلى الجمهورية العربية المتحدة والتي كانت تضم مصر وسوريا آنذاك.

حاول بعض قادة العهد الجمهوري الاشتراك في دولة الوحدة بين مصر وسوريا، إلا أن عبد الكريم قاسم انفرد بعد عام بالحكم مبعداً عبد السلام عارف من السلطة، ليحكم العراق طوال خمس سنوات حكمًا فرديًا مطلقًا.

وكان مترددًا في سياسته، فأحيانًا يقرِّب إليه الشيوعيين ليضرب بهم القوميين، وأحيانًا أخرى ينقلب عليهم، كما كان مترددًا في سياسته مع الأكراد، حيث أعطاهم بعض الامتيازات التي قررتها الحركة عند قيامها عندما كان العمل جماعيا تنفيذا لمقررات الميثاق الوطني لتنظيم الضباط الوطنيين، ثم اصطدم بهم بعد ذلك بعد تفرده، مما أدى إلى قيام الثورة الكردية عام 1961.

يعتقد بعض المؤرخون أنه ومنذ الأيام الأولى للحركة التي أطاحت بالنظام الملكي بدأ يظهر التناقض الفكري بين عارف وقاسم وعمّق ذلك سياسات كل من الطرفين غير المتحفظة تجاه الطرف الآخر والتي أدت إلى التنافس على زعامة الحركة فيما بينهما، حيث ما لبث ان حصل الخلاف بين عارف وقاسم بسبب تناقض انتماءات الطرفين وبسبب ما اعتبره عبد السلام عارف تفرد العميد عبد الكريم قاسم بالحكم وعزل العراق عن محيطه العربي والإسلامي وكذلك بسبب بعض الأحداث المؤسفة في الموصل وكركوك التي كان أعطى فيها عبد الكريم قاسم الضوء للمليشيات الشيوعية الملتفة حوله للسيطرة على المحافظتين بسبب حركة عصيان العقيد عبد الوهاب الشواف وسلوكيات محكمة الثورة التي استهانت بالمتهمين واستغلت الحركة كذريعة لمحاكمة وتصفية خصوم قاسم مثل رشيد عالي الكيلاني باشا والعميد ناظم الطبقجلي وغيرهم. أدى هذا الخلاف الحاد إلى إعفاء عبد السلام عارف من مناصبه عام 1959، وأُبعد بتعينه سفيراً للعراق في ألمانيا الغربية، وبعدها لفقت له تهمة محاولة قلب نظام الحكم، فحكم عليه بالإعدام ثم خفف إلى السجن المؤبد ثم بالإقامة الجبرية لعدم كفاية الأدلة مما أدى إلى انتصار رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم في الجولة الأولى ضد خصمه العنيد بإبعاده عن مسرح السياسة قابعاً تارةً في السجن ينتظر يوم إعدامه، ورازحاً تحت الإقامة الجبرية في منزله تارةً أخرى حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

تعثر اداء الحكومة

بعد نجاح الحركة مباشرةً اشترك قادتها في تولي المهام والمسؤوليات بدافع من المصلحة العامة لبناء العراق بعد تركة كبيرة من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي ورثها العراق عن الحكم الملكي، وساهم الجميع وعلى قدم المساواة في بناء بلدهم بروح من الاخوية والزمالة التي امتزجت معها ساعات النضال المخمضة بدماء من سبقوهم، بالحماسة الثورية للشباب بالمهام والامال المعقودة لتحقيق تطلعاتهم التي طالما حلموا وحلم الشعب بها. ولكن وكما قيل لا تجري الرياح بما تشتهي السفن، بعد اختلاف قادتها وبروز العميد عبد الكريم قاسم كقائد أوحد في إدارة دفة سفينة الحكم، خبى إشعاع الحركة كثورة وبريقها الأول وخصوصا بعد سلسلة أخطاء غير محسوبة العواقب ارتكبها عبد الكريم قاسم.

لقد بدلت الثورة معالم العراق بشكل جذري وغيرته من نظام قبلي إلى نظام معاصر، وقضت على نفوذ الإقطاع وجرت إصلاحات جذرية مثل سن قانون الإصلاح الزراعي رغم معارضة بعض الشرائح لأسلوب تنفيذه والذي نقل الفلاح من العبودية إلى التملك والقيام بحملات كبيرة في قطاع التعليم والصحة، وبناء الأحياء السكنية للفلاحين والكسبة.

الزعيم الأوحد

تحول عبد الكريم قاسم من زعيم للثورة إلى زعيم أوحد، وشيئا فشيء جمع بيده كل السلطات، فاستحوذ على مركز صناعة القرار وبدأ بجمع الصلاحيات بيده مجرداً اياها من زملاءه.

فأصبح هو رئيس الوزراء ووزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة وكان يتباهى بذلك من خلال مقابلاته ووسائل إعلامه التي نعتته "بالزعيم الأوحد" وتصريحاته التي كان يكرر فيها عن أسلوبه في الحكم "بأنني اعتبر العراق وحدة عسكرية والشعب هم جنودها".

وعند نجاح الحركة وقيام الجمهورية، حين كان العمل في القيادة جماعيا قبل تفرده بالسلطة سمحت وزارة الداخلية التي كان عبد السلام عارف وزيرا لها بتأسيس بعض الأحزاب مثل الحزب الإسلامي العراقي وحزب الدعوة الإسلامية، إلا أن عبد الكريم قاسم وبعد حصر الصلاحيات بيده ألغى هذه الأحزاب ولم يفسح المجال لعمل أحزاب جديدة سوى الحزب الشيوعي العراقي الذي شاركه في السلطة.

خطوات إضافية نحو التفرد والانعزال

لم يمنح قاسم مجلس السيادة صلاحيات بل أحاله إلى واجهة شكلية ليس بيدها لا سلطة تنفيذية ولا تشريعية.

وقف حائلاً أمام انتخاب رئيس الجمهورية، وبقي المنصب معلقاً في عهده.

كما عطل تأسيس المجلس الوطني لقيادة الثورة كما كان متفقاً عليه في تنظيم الضباط الوطنيين "الأحرار".
وحل مجلسي النواب والأعيان للحكم الملكي، ولم يفسح المجال لانتخاب مجلس نواب جديد.

اصدر أحكام إعدام وسجن لغرض التصفية السياسية بحق قيادات حركة/ثورة 1958 من زملاءه وأعضاء تنظيم الضباط الوطنيين.

شملت التصفيات أي شخصية وطنية يعلو صوتها على صوت عبد الكريم قاسم، فلفق التهم لبعضهم وزجهم بالسجون واعدم البعض الآخر مستغلا حركة عبد الوهاب الشواف الانقلابية كذريعة لهذه التصفيات، أما الذين قاموا فعليا بالحركة فقد تم قتلهم مباشرة بالقصف المباشر بالطائرات، والبعض الآخر أحيلوا إلى المحكمة الخاصة "محكمة الشعب" حيث تم زج الكثيرين ممن ليس لهم علاقة بحركة الشواف وتعذيبهم ثم إعدامهم.

ومن أبرز المعدومين العميد الركن ناظم الطبقجلي والعقيد رفعت الحاج سري الدين ومجموعة من رفاقهم، وإصدار احكام الإعدام التي لم ينفذها بسبب الضغوطات الشعبية بحق كل من الشخصية الوطنية رشيد عالي الكيلاني باشا والعقيد الركن عبد السلام عارف.

وبدأ يعمل على عسكرة الدولة من خلال السيطرة على الشركات والمؤسسات العامة بواسطة تعيين ضباط من الجيش مدراء لها، وقد ركز اهتمامه على تقوية وتطوير المؤسسة العسكرية وأهمل تنمية القطاع الاقتصادي. حيث تميز شكل دولة العراق بالحكومة العسكرية التي طبقت الأحكام العرفية العسكرية على الشارع والحياة المدنية. فكان الحاكم الفعلي للعراق ليس مجلس الوزراء أو مجلس السيادة بل الجيش من جهة والشيوعيون من جهة ويترأسهم عبد الكريم قاسم.

ثم جاء تشكيل المحكمة العسكرية الخاصة العليا أو ما اشتهرت باسم محكمة المهداوي التي وصفت بكونها محكمة "هزلية" أو "سيرك المهداوي"، شكلت أساسا لمحاكمة أركان النظام الملكي وأيضا جيء بالكثير ممن ليس لهم علاقة بمركز القرار واعدم الكثيرين مجرد لأنهم كانوا مسؤولين في النظام الملكي. يرى المعارضون لطريقة سير تلك المحكمة ان المحكمة وبسبب رئيسها المقدم فاضل عباس المهداوي وادعائها العام العقيد ماجد محمد امين كانت منبرا وواجهة إعلامية للحكومة واستخدمت فيها وسائل تعذيب واهانة الموقوفين وكثيرا ما كان رئيس وأعضاء المحكمة ينحدرون بالسباب والشتائم وتلفيق التهم بالشبهة وأثناء البث المباشر على شاشات التلفزيون.

كما أدى فسح عبد الكريم قاسم المجال للحزب الشيوعي ومليشياته بالعبث بأمن الدولة والمواطنين وتمكينهم من المناصب الهامة في الوزارة والجيش ومستشاريه لأخر يوم في نظام حكمه مثل العميد الطيار جلال الدين الاوقاتي الذي قتل صباح يوم الحركة وطه الشيخ مدير العمليات في وزارة الدفاع وفاضل المهداوي رئيس المحكمة الخاصة الذين اعدما معه. كما قامت المليشيات الشيوعية المسماة بالمقاومة الشعبية بارتكاب أعمال عنف مؤسفة كقتل وتعذيب معارضيهم وسحل الكثيرين بالشوارع وتعليقهم على أعمدة الكهرباء. والقيام بمداهمة واحتلال المنازل والمؤسسات الحكومية والمعسكرات والعبث بها بمساعدة العامة من الدهماء كما حدث من مجازر وتجاوزات على حقوق الإنسان في الموصل وكركوك ومن أبرز رموزها "قطار الدم" المسموم. كما عبثوا في سياسة الدولة الداخلية والخارجية ومنعوا أي تقارب مع الدول العربية أو تحقيق اية وحدة عربية والتي كانت حلم الجماهير التي تعتبرها ضرورة للوقوف بوجة القوى الكبرى للنيل من الثورة.

واجه قاسم انتقادات من المراجع الدينية المحافظة التي لم تكن مع بعض القرارات التي كانت تعتبر تغيرات جذرية سريعة نحو العلمانية في دولة لا تزال تتمسك بالعرف الديني والعشائري ومن أشهر هذه القرارات قانون الأحوال الشخصية الذي ضمن للمرأة حقوقا واسعة بعيدة عن التشريع الإسلامي ومستوحاة من الفكر الماركسي وقانون الإصلاح الزراعي حيث انتزع الأراضي من مالكيها ووزعها على الفلاحين والمهاجرين من الشروقيين والذي أصدرت المراجع الدينية الشيعية بضمنها الحوزات الدينية الشيعية والمراجع السنية بيانات شجبها ومنافاتها للشريعة الإسلامية. ولعل أبرز إنجازات "الزعيم الأوحد" هو إقامة ما سمي بمدينة الثورة وإسكان الشروق والمنبوذين فيها لاستخدامهم كلاباً وفية لتحقيق مآربه ومآرب قائد السيرك الأكبر المهداوي.

استغلاله لمنصبه بتولية المناصب الهامة لأفراد عائلته واصدقائه واقاربه دون وازع من الكفائة أو المهنية حيث نصب ابن خالته المقدم فاضل عباس المهداوي بمنصب رئيس المحكمة العسكرية العليا الخاصة. كما ميز بعض أفراد عائلته بمنح أشقائه وشقيقاته الدور السكنية الراقية مجانا مع كبار القادة العسكريين وجعل أخيه الكاسب المعدم المتنفذ الملقب ب "البرنس " حامد قاسم مشرفا على توزيع أراضي الإصلاح الزراعي على الفلاحين والتي جمع منها أموالا طائلة أصبح على أثرها من الأثرياء حيث اقر بذلك بعد الإطاحة بحكومة قاسم أثناء محاكمته وسجن لمدة عامين وظهر بعد فترة من كبار تجار العراق " رشح نفسه لرئاسة غرفة تجارة بغداد عام 1968".

لم يؤمم نفط العراق في ظروف مواتية بعد تعالي الصيحات المنادية بالتأميم وذلك بعد تأميم إيران "مصدق" للنفط ومصر "عبد الناصر" لقناة السويس. واكتفى كبديل بتبني اقتراح وزارة النفط بإصدار القانون رقم 80 الذي فسح المجال للعراق باستكشاف حقول نفطية جديدة.

ميوله الطائفية والعرقية بتفضيل طائفة على أخرى وقومية على أخرى حيث استغل قانون الإصلاح الزراعي وانتزع الأراضي العقارية من مالكيها ووزعها على الفلاحين والمهاجرين الشروقيين وذلك لانتماء أسرته لهذه الفئة. كما دعم المهاجرين الذين كانوا يعملون فلاحين لدى الإقطاع وساواهم بالفلاحين العرب العراقيين ووهبهم الأراضي الزراعية والدور السكنية ليضمن دعمهم له.

نقضه لقرار تنظيم الضباط الأحرار والميثاق الوطني بحل القضية الكردية والتي تم اتخاذ إجراءات لحلها عندما كان العمل جماعيا بداية الحكم الجمهوري وتمثل بدعوة الشخصية الكردية الملا مصطفى البارزاني للعراق، إلا أن وبعد تفرد قاسم ضرب الأكراد والب عليهم العشائر العربية في الموصل وكركوك لاضطهادهم والتنكيل بهم وأرسل القطعات العسكرية للنيل منهم عام 1961 بما يعرف بالثورة الكردية.








إرسال تعليق

0 تعليقات