نصر القفاص
دفع الدكتور "طه حسين" ثمنا فادحا لتأليفه كتاب "فى
الشعر الجاهلى"!
رحل "طه حسين" وبقيت قيمته العلمية والفكرية والسياسية..
ورحل الشيخ "محمد الخضر حسين" أحد علماء الأزهر, الذى أصدر كتابا عنوانه
"فى نقض الشعر الجاهلى" لكى يمزق على صفحاته "عميد الأدب
العربى".. دون أن يتذكر أحد الكتاب ولا مضمونه ولا اسم مؤلفه!!
رحل "طه حسين" دون أن يتذكر أحد اسم النائب "عبد
الحميد سعيد" الذى وقف تحت قبة البرلمان, بصوت يجلجل مطالبا بفصل عميد الأدب
العربى من العمل بوزارة المعارف, بعد عزله من منصبه كعميد لكلية آداب بجامعة
القاهرة.. ويومها قال "النائب" عنه أنه يشيع الفسق والفجور ويحرض على
الخروج عن الآداب العامة.. وقال نائب آخر مؤيدا كلام زميله: "نحن اليوم بصدد
معركة فاصلة بين الفضيلة والرزيلة.. بين الحق والباطل.. بين الدين واللادين"!!
نحن لا نذكر ولا نتذكر عدد من الشعراء تسابقوا لسب وقذف "طه
حسين" فى قصائد, كانت كلها تبحث عن الرضا السامى لجلالة الملك
"فؤاد" الذى أصر على التنكيل بهذا الأفندى المارق!! ولا نذكر أو نتذكر
أن مجلس الوزراء انعقد برئاسة "إسماعيل صدقى" يوم 20 مارس عام 1932,
وانتهى إلى بيان جاء فيه: "قرر مجلس الوزراء فصل الأستاذ طه حسين أفندى من
خدمة الحكومة" ليجد الرجل نفسه طريدا.. وحيدا.. مفلسا إلا من علمه وقيمته
التى تنحنى أمامها الأجيال.. وبقى موقف "أحمد لطفى السيد" رئيس الجامعة
الذى استقال دفاعا عن كرامة الجامعة وكرامة البحث العلمى.. ودفاعا عن حرية التفكير
والتعبير.. وبقيت كلمات "طه حسين" تعليقا على ما حدث له ومعه, حين قال:
"لابد للمفكر أن يقول ما يؤمن به.. وإلا أصبح المفكر كالمرأة التى تبيع عرضها
وشرفها لمن يدفع الثمن.. لمن يدفع أكثر.. الفكر هو رأى قبل كل شىء.. الرأى موقف من
الحياة والناس والأفكار"!
كل هذه الوقائع والمعانى والدروس, إذا غابت وتم طمسها مع "سبق
الإصرار والترصد".. إعلم أن ماكينة "الأوف شور" تدور لتأكل الأخضر
واليابس.. وملامح دوران هذه الماكينة, أن يطفح "السذج والبلهاء" على جلد
السياسة والاقتصاد والثقافة والإعلام فى المجتمع.. أى مجتمع.. وضمن ملامح دوران
الماكينة المجنونة "للأوف شور" أن يمارس "السذح والبلهاء"
السياسة على أنها أوقات لهو وترفيه فى موالد شعبية!! وعندها تعرض
"فاترينات" الفساد ألوان وأشكال مختلفة لفنون نهب المال العام, ويصبح
"الفاسد" هو عنوان الحقيقة!!
رحل "جمال عبد الناصر" وبقيت مواقفه وأفكاره وإنجازاته تدافع عنه.
رحل وترك الوثائق التى تحفظها رئاسة الجمهورية وأرشيف وزارة
الخارجية, لتشرح لنا مواقفه السرية عبر مراسلاته مع زعماء وقادة العالم.. وإذا كنا
قد توقفنا لإعادة قراءة مقالا كتبه مهاجما الشيوعيين بعد صدور قرارات يوليو
الاشتراكية.. فقد كان هذا فعلا علنيا يحمل رأيه وموقفه, وليؤكد به على رأيه وموقفه
الذى كتبه بيده فى رسالة رسمية إلى الزعيم السوفيتى "خروشوف" فى نهاية
شهر ابريل عام 1959.. ونشر الرسالة بنصها "محمد حسنين هيكل" فى كتابه "سنوات
الغليان" لتتجاهلها "ماكينات تزوير التاريخ" لأنها تحمل حقائق أصعب
من أن يناقشها أو يرد عليها أولئك الذين يمارسون السياسة, على أنها "موالد
شعبية"!!
رسالة "عبد الناصر" إلى "خروشوف" تحمل كل
معانى الدفاع عن وطن ودين وشعب.. ولم يكتبها أحد نيابة عنه.. بل كتبها من أولها
وحتى نهايتها بخط يده.. وكلها من أول سطر حتى آخر سطر فيها تؤكد ذلك.. لأنها كانت
ردا على رسالة تلقاها من "خروشوف" رسميا.. كلها تؤكد على أن "عبد
الناصر" كان يدافع عن منهج, إنحاز له شعبه مع شعوب عربية وإفريقية ولاتينية
وآسيوية بصورة أفزعت الاتحاد السوفيتى – الصديق – والولايات المتحدة الأمريكية –
حاملة راية العداء -!!
بدأت الرسالة بمقدمة دبلوماسية لا تخلو من صراحة شديدة الوضوح, ثم
دخل بعدها فى الموضوع ليقول: "إذا كانت قوة الدول الكبرى تقاس بأرصدتها من
الأسلحة النووية والقاذفات عابرة القارات.. فإن الدول الصغرى فى المعترك العالمى..
تقاس قوتها بأرصدتها من الصداقات الدولية.. وقد كانت صداقتنا معكم بندا هاما فى
رصيدنا الدولى, بحيث لم يكن من المتصور أن نتطوع بتبديد أى قسط منها.. الأمر الذى
يزداد وضوحا إذا ما راجعتم ما تعلمونه أكثر منى عن موقف الاستعمار من القومية
العربية وتربصه بها.. لكى يسترد منها ما انتزعته شعوبها من انتصارات ضده, فى منطقة
ظل يعتبرها ميدانا لنفوذه منذ قرون.. ثم ليثبت هذا النفوذ بعد أن يسترد ما ضاع
منه.. وحتى لو لم يكن ذلك هو موقف الاستعمار المتربص بنا.. فإن حرصنا على صداقتكم
فى حد ذاتها, يكفى لكى نبذل لتأمينها وصيانتها كل الجهد.. وإنكم تعرفون يا عزيزى
الرئيس.. أن صداقتنا معكم كانت بالنسبة لنا, فرصة للتعاون الوثيق معكم.. ولم تكن
هذه الصداقة بالنسبة لنا نقطة مساومة.. ولو كانت عملية مضاربة ضد كتلة دولية قوية,
بكتلة دولية أخرى تتوازن معها القوة".
أراد "عبد الناصر" القول.. أعرف ما تملكون وأعتز بما
نملك.
أراد أن يوضح معنى الصداقة ومفهومها عنده.. وأراد التأكيد على أن
الاستعمار لن يهدأ أو يتوقف عن محاولاته لاستعادة نفوذه فى بلاده.. بل فى
المنطقة.. وأراد التأكيد على أن مصر لا تساوم ولا تتكسب من مواقفها!!
ثم راح يشرح معنى ما أشار إليه, فقال: "كانت هذه المبادىء وما
تعرضنا له بسبب إيماننا بها.. هى التى فتحت لكم طريق معرفتنا على النحو الصحيح..
رغم أنكم فى بداية ثورتنا القومية سنة 1952.. تأثرتم بما كانت تروجه الجماعات
الشيوعية فى بلادنا ضد هذه الثورة.. ومن ثم تجدون سيادتكم فى إذاعاتكم وفى صحفكم
خلال الفترة الأولى من سنين ثورتنا القومية, إشارات لها باعتبارها حركة فاشستية..
وكنا فى ذلك الوقت كما تذكرون, نحارب معركة لا هوادة فيها ضد الاستعمار
البريطانى.. لكن هذا الموقف المبدئى من ثورتنا, لم يغير من إيماننا بمبادئنا..
كذلك لم يغير من تقديرنا لكم حين اقتنعتم بمنطق الحوادث ذاتها بخطأ الصورة التى تم
نقلها إليكم.. وقد خضنا – يا سيادة الرئيس – معركة ضد الأحلاف العسكرية
الاستعمارية.. وكانت هذه الأحلاف موجهة دون مواربة إلى بلادكم وشعوبكم, وتستهدف
تطويقها بالقواعد العسكرية والمطارات المعدة لقاذفات القنابل الذرية.. ولقد رفضنا
بوحى من مبادئنا وحدها.. ومن غير اتصال بيننا كما تعلمون سيادتكم, أن نكون إحدى
حلقات الحصار من حولكم.. بل لعلكم يا سيادة الرئيس تذكرون, أن حربنا ضد الأحلاف
الاستعمارية التى يتجه عدوانها إليكم لم تقتصر على حدود بلادنا.. إنما كنا نحارب
المعركة من أجل مبادئنا فى منطقة بأكملها تحيط بنا, ويرتبط تاريخها بتاريخنا..
ومصيرها بمصيرنا.. وفى ذلك الوقت.. وفى تلك الظروف – يا سيادة الرئيس – وجهت إلينا
التهم من غير حساب, من ناحية دوائر الاستعمار والصهيونية التى تعرفونها جيدا..
إتهمونا فى ذلك الوقت بأننا لا نعرف مصلحتنا.. وكانت مصلحتنا فى منطق الاستعمار,
أن نتحول إلى قواعد عسكرية.. واتهمونا فى ذلك الوقت بأننا نخرق وحدة العرب.. وكانت
وحدة العرب فى منطق الاستعمار أن نساير الذين أقاموا حلف بغداد الاستعمارى, أو فى
القليل نهادنهم".
هكذا كان "عبد الناصر" يخاطب زعيم "الاتحاد
السوفيتى" ليقول له أن الشيوعيين ناصبوه العداء من اللحظة الأولى للثورة..
ويقول له أنه يعلم تصديقه لهم وقتها, بدليل حملات الهجوم ضد الثورة وضده.. ويعلم
أن الشيوعيين كانوا يرونه ويرون الثورة حركة فاشية, ولم يذكر أنهم اتهموه بالعمالة
للغرب!! وأن الثورة صناعة أمريكية.. وكانت جماعة "الإخوان" تتبنى هذا
المنطق وتلك الاتهامات وتقوم بترويجها.. ثم أوضح وراح يؤكد على أن مواقفه كانت
وطنية مصرية, فيها انحياز للقومية العربية.. ورغم أنها خدمت الاتحاد السوفيتى, فإن
ذلك حدث لأنه مبدأ قائم على فهم ووعى واضحين وشديدين.. وبعدها ربط بين مفاهيم
الولايات المتحدة والصهيونية واتفاقهما.. ثم أوضح رؤية هؤلاء لمصلحة مصر من وجهة
نظرهم, ومصلحة مصر التى كان يراها بوضوح.. والمذهل أن ما تناوله فى رسالته وفنده
ورد عليه, بالحجة والبرهان.. هو نفسه الذى دارت – ومازالت – به "ماكينات
تزوير التاريخ وتشويه عبد الناصر" إعتقادا من "خدم الملكية
والاستعمار" أن الكذب يمكن أن يصبح حقيقة.. وأن الزيف فرض نفسه, بعد تغييب
الوعى.. وأن القتلة أصبحوا مجنى عليهم.. لكن الزمن كشفهم حين سقطوا فى مستنقع
"أفغانستان" ويوم احتفلوا بإسقاط "بغداد".. ويوم أن ذهبوا
بفخر للمؤامرة على "سوريا" و"ليبيا" و"اليمن"
و"لبنان" وعندما حاولوا تسليم مصر لجماعة "الإخوان الإرهابية"
بعد أن سلموها "السودان" وقاتلوا لكى تتسلم "غزة"
و"الأردن" و"تونس" و"المغرب"!!
كان "عبد الناصر" يقرأ ما نعيشه فى حاضرنا حين قال فى
رسالته: "إتهمنا الاستعمار بأننا نتدخل فى الشئون الداخلية لغيرنا.. وكانت
قناعة الاستعمار أن التدخل, يفرض علينا أن نتركه يضم الدول العربية واحدة بعد
واحدة إلى حلف بغداد.. وأن يجر شعوبها واحدا بعد الآخر إلى ميدان الحرب الباردة..
وأن يقامر بها فى مغامرة الحرب الساخنة التى كانت احتمالاتها تزداد خطرا لو أن حلف
بغداد حقق ما أراد وتوصل إلى أغراضه.. لكن إيماننا.. يا سيادة الرئيس.. بعدم
الانحياز حتى قبل مؤتمر باندونج.. جعلنا نقف من مشاريع الاستعمار العدوانية موقف
المناضل العنيد.. كذلك كان إيماننا بالقومية العربية, هو الذى جعلنا نمد حدود
المعركة خارج بلادنا دفاعا عن أمة ينص دستورها – كما تعلم – على أن شعبنا جزء
منها.. كذلك كان ينص دستور سوريا قبل الوحدة.. وكذلك ينص الآن دستور العراق بعد
ثورته الوطنية فى 14 يوليو عام 1958.. وإنكم تذكرون أن المعارك بمختلف أشكالها,
كان يتم فرضها علينا فرضا حتى نتحول عن الإيمان بمبادئنا"!!
كان "عبد الناصر" يتحدث عن رؤيته لما يريده الاستعمار,
بأن يلتهم الدول العربية واحدة بعد الأخرى.. وبعد رحيله بنصف قرن أصبحنا نعرف
الخطط والتى وضعها الاستعمار.. أصبحنا نعرف الأهداف والتفاصيل ونتحدث عنها كما لو
كانت "قصص مسلية للأطفال"!! وكان يعرف أن مواجهة الاستعمار خارج حدود
مصر يؤمنها ويحميها, بقدر تأمينه وحمايته للدول العربية التى تآمر عليه بعضها!! ثم
أصبحنا نعيش زمنا جعلوا فيه كلمة "مبادىء" مرادف للغباء.. وجعلوا
"المبادىء" مادة للسخرية.. بما يجعلنا نعود إلى "سعد زغلول"
القائل فى أزمة "طه حسين" لتهدئة السفهاء: "وماذا علينا إذا لم
يفهم البقر؟!"..
يتبع
0 تعليقات