آخر الأخبار

بين موسى والخضر



بين موسى والخضر


علي أبو الخير

أنزل الله سبحانه القرآن الكريم على رسوله الأمين "محمد بن عبد الله" صلى الله عليه وسلم، ليكون هاديا ودستورا للحياة إلى يوم القيامة، وقد نزل القرآن غير معقد ولا صعب الفهم، قال تعالى في سورة القمر أربع مرات "ولقد يسّرنا القرآن للذكر فعل من مدّكر"، أي يمكن فهمه دون عناء ودون شروح كثيرة، اللهم إلا الغامض من معاني الكلمات، وهو ما عبّر عنه علي بن أبي طالب بقوله "لابد للقرآن من ترجمان"، أي يشرح معاني هذه الكلمة أو تلك، لأن القرآن يشرح نفسه بنفسه، وحثّ على تذكير المسلمين بالتفكر والتدبر، وتشغيل عقولهم لإعمار الأرض، حسب نظريات بشرية مأخوذة من فهم بشري، قائمة على إيمان بالله والنبي والرسل، والرسول حرص على توجيه المسلمين للعمل والعلم، فقال في حديث نبوي نراه صحيحا :"أنتم أعلم بأمور دنياكم"، ومن هذا المنطلق نجد أنه عندما ذكر الله الأنبياء والأقوام السابقين، تغافل عن ذكر تفاصيل القصص، المهم هو العبرة الإيمانية والسلوك العملي، على أن يسلك المسلمون سبيل الأنبياء، ومن ضمن القصص القرآن، قصة "نبي الله موسى" مع العبد الصالح المشهور "بالخضر"، وهي قصة أخذها المحدّثون والمفسرون والشيوخ والمتصوفون والشيعة من تفاسير أهل الكتاب، أو الإسرائيليات، أخذوها كلهم على محمل ديني، فزعموا أن العبد الذي قابله موسى اسمه "الخضر"، رغم أن القرآن لم يذكر اسمه، واسم الخضر عربي، وليس عبري أو مصري، مما يلقي الشك في الاسم، المهم راح كثيرون يزعمون أن الخضر من صلب "آدم"، أي شقيق "قابيل وهابيل"، وزعم بعضهم أنه مازال حيا، وأنه حضر جنازة النبي محمد، وأنه قابل أفرادا، ويقابل السادة الصوفية بجسده وروحه، وهي أقوال تتفق في بعض تفاصيلها مع عقيدة "المهدي المنتظر" الذي مازال حيا حسب عقيدة الشيعة الجعفرية، وقد زرت أنا شخصيا جزيرة صغيرة في "نهر دجلة" ببغداد تحت جسر "باب المعظم"، فيها قبر منسوب للخضر، وزعم بعض العوام أنهم رأوه وسلّموا عليه.

ونكتب عن مفهومنا لقصة "موسى ومن سمّوه الخضر"، لأن بعض الطغاة في العصور الإسلامية قتلوا المعارضين، متبنين سلوك الخضر عندما قتل غلاما، وزعموا أنهم لم يفعلوه إلا عن أمر إلهي، وتلك قمة المأساة، والحقيقة أن قصة "موسى العبد"، ليس فيها غيب ولا ألغاز ولا رموز، وهي قصة دنيوية بحتة، من منطلق إيماني بطبيعة الحال، نقرأ الآيات في سورة الكهف من 61 – 82، لم نوردها لضيق المساحة، ولأنها أيضا مشهورة يعرفها الجميع، وبتأملها باختصار، نجد أن موسى عليه السلام ذهب برفقه أحد أتباعه، يريد استكشاف ملتقى البحرين، وبدا عليه الإصرار في قوله لابد أن أصل لنقطة التقاء البحرين حتى لو مضيت حقبا، أي سنينا عديدة، وليس كما زعم البعض أنه ظل يسير ثمانين عاما أو أقل أو أكثر، وفي رحلة الاستكشاف، شعرا بالجوع فيطلبان الطعام، فرجعا يطلبان الحوت أو السمك الذي نسياه، وهنا حدث لقاء بالصدفة، بين نبي الله "موسى" ورجل، ربما كان من قومه أو من غير قومه، ولابد أنهما تعارفا على بعضهما، وحدث حوارا بينهما، تعرُف فيها الرجل على النبي موسى لشهرته، والقرآن لم يحدد هوية الرجل، قال عنه "عبدا من عبادنا"، والناس كلهم عبيد الله، فالرجل إذن من ضمن الناس، لا فضل ولا تفاخر بكونه عبدا، والله آتاه رحمة منه، تماما مثلما أعطى باقي البشر، بعضهم يرحم غيره، والأكثرية لا تستخدمه، خاصة من الملوك والسلاطين، والله آتاه من لدنّه علما، والعلم هنا ليس العلم الذي يروج له الدراويش، فكل علم هو من عند الله، علم الهندسة والكيمياء والفلك وغيرها من العلوم، التي جاءت من الله، وأعطى البشر فرصة للإبداع فيها عبر قرون الزمن، والحوار بينهما، وصل لنوع من العلم والتعلم، موسى النبي الذي شقّ الله له البحر بالعصا وحوّل له العصا لثعبان، وجد علما دنيويا لم يمرُّ عليه من قبل، فطلب موسى من الرجل أن يصاحبه ليرى العلم الذي لا يعرفه، وهنا تحول موسى لطالب علم من معلم، ولكن المعلم قال له في شبه تحدي "إنك لن تستطيع معي صبرا"، وهي كلمة تحدي، وربما استعلاء بالعلم، حيث طلب منه عدم السؤال إلا بعد أن يرى، ووافق موسى، ولكن صبر طالب العلم ينفذ سريعا، فقد رأى أنه خرق سفينة وقتل غلاما وبني جدارا كاد ينهدم في إحدى قرى لا تحب الضيوف، فلم يصبر موسى فكان يقاطع أستاذه كل مرة، فحدث الفراق المعروف بينهما.

برر الرجل بخرق السفينة، لأنه يوجد ملك ظالم يستولي على كل السفن التي تقابله، فأراد أن يجعلها غير صالحة فلا يستولي عليها، وهنا نتوقف، الرجل يعرف نية الملك الظالم ربما لشهرته، وهو لا يحتاج لعلم الغيب، والمساكين لا يملكون السفن، وبالتالي هم عمّال يعملون في البحر، والملك يستولي على أي سفينة، صالحة أو غير صالحة، فلابد أن حوارا دار بين الرجل وبين العاملين في السفينة، بشرط أن لا يغرقها، بل يوقفها متهالكة معيبة لتكون شبه خردة فلا تغري الملك بالاستيلاء عليها.

ثم قتل الرجل غلاما، بحجة أنه كافر، وأن الله سوف يعوّض أبويه بخير منه، ففيه نظر، فلا يوجد على مر العصور رجل صالح يقتل بدون محاكمة، صحيح حدث القتل من الحكّام ضد المحكومين بدون محاكمات، ولكن الرجل أو الخضر في قصتنا، قتل الغلام، نعتقد أنها بسبب جناية ارتكبها في حقّ والديه، والغلام هو الصبي البالغ، وليس الطفل كما هو مشهور، ولذلك جاءت كلمة "وأردنا" لتدل على جمع من الناس، وأن الخضر لم يقتله بقرار فردي، ولكنه نفذ أمر محكمة، فقتل الغلام أمام موسى النبي، في صورة تحدي أمام استنكاره، ومن ثمّ قال البعض "لو أن الخضر من أمة محمد لأقتُصّ منه في الغلام"، وهو قول صائب، فلا يمكن لنبي أو ولي أو غيرهما، أن يقتل شخصا بدون محاكمة عادلة، وهو نفس ما حدث مع الغلامين اليتيمين، فالغلامان ليسا طفلين، ولكنهما شابان، تم تغطيه مالهم بالجدار المبني وأعلم الغلامين بمكن الكنز، فلا يسرقه أحد، إلى أن يشتد عودهما ويستطيعان تحدي أهل القرية، وقال في ذلك "وأراد ربك"، وهي إرادة الرجل الرحيمة وليست إرادة الله الغيبية، لأنها لا تتعلق بالحياة والموت، وقول الرجل "وما فعلته عن أمري" لا يدل على أنه يقصد الأمر الإلهي، لأنه لو كان كذلك لصار نبيا يُوحى إليه، فلا يوجد نبي يظهر مرة واحدة، في قصة واحدة، وهو في النهاية يقول لموسى "ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا"، أي أنه فسّر ما غاب عن موسى التلميذ، وهو علم كما نرى دنيويا لا غيب فيه، حوّله البشر لعلم إلهي لدنّي، أخذه بعض المؤمنين كعلم باطني، وسلك كثير من المستبدين سلوك من لا يتقي الله، فصادروا السفن والبيوت والتركات وقتلوا الغلمان والرجال والنساء، وليتهم أقاموا جدرانا للبيوت الآيلة للسقوط، كما فعل الخضر، ولكن لم يفعلوا سوى الشرّ، ولم يفعل الرجل إلا الخير، الذي غاب عن موسى في وقته، ومازال غائبا عن كثير من أبناء الأمة حتى اليوم، والله في النهاية هو الأعلى والأعلم والأعظم..






إرسال تعليق

0 تعليقات