د. وسام الدين محمد
بعدما ارتحلنا من قبل مع (ابن بطوطة) و(ابن جبير) من المغرب إلى
المشرق، اليوم نلتقي بـ (أحمد بن فضلان) ورسالته التي وصف فيها تفاصيل رحلته من
(بغداد) إلى بلاد الروس والبلغار، والمنشورة في كتاب باسم (رسالة ابن فضلان في وصف
الرحلة إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة).
الرسالة عبارة عن تقرير عن سفارة دبلوماسية قام بها (أحمد بن
فضلان) ممثلًا للخليفة (المقتدر) العباسي إلى بلاد البلغار، ومكان هذه البلاد
اليوم على ضفاف نهر (الفولجا) بالقرب من مدينة (قازان) في (تترستان)، وهي غير
(بلغاريا) المعروفة اليوم في شرق أوروبا.
ويبدأ (ابن فضلان) رسالته بذكر السبب الذي كان وراء هذه الرحلة،
وهو ورود سفير من ملك (البلغار) حامل رسالة إلى الخليفة يخبره فيه أن البلغار قد
اهتدوا إلى الإسلام، وأن ملك البلغار (ألمش بن يلطوار) يسأل الخليفة أن يرسل له من
يعلمه وشعبه الإسلام ويقيم فيهم الصلاة، كما يسأله أن يرسل من له خبرة بأمور
الهندسة العسكرية والاستحكامات الدفاعية ليتثنى للبلغار التصدي لعدوان (الخزر)
عليهم.
و(الخزر) شعب تركي كان يسكن وسط أسيا
وشمال بحر قزوين، البحر الذي سُميَ باسمهم ذات يوم فكان بحر الخزر، وكانوا قد
اعتنقوا اليهودية وهيمنوا على وسط آسيا ودخلوا في نزاع مع المسلمين ومع البيزنطيين
إلى أن انهارت إمبراطورتيهم في مطلع القرن الحادي عشر الميلادي بسبب النزاعات
الداخلية.
واستجاب (المقتدر) لرسالة البلغار، فتكونت بعثة دبلوماسية واختير
(ابن فضلان) رئيسًا لها، وصحبه عدد من المترجمين وإمام وفقيه وعدد من المعاونين،
كما تقرر تمويل تلك البعثة من خراج لضيعة الوزير (ابن الفرات) والذي كان قد طرد من
الوزارة وصودرت أمواله منذ وقت قريب، وبدأت البعثة رحلتها من (بغداد) في الخميس الحادي
عشر من صفر عام 309 هـ.
وغادرت البعثة (بغداد)، إلى (همذان) ومنها إلى (الري) في (إيران)،
قبل أن تعبر نهر (جيحون) وتصل إلى مدينة (بخارى) في بلاد الاوزبك، وتستمر إلى أن
تصل إلى بلاد البلغار على ضفاف الفولجا.
لم تكن الرحلة سهلة، بل
تخللتها أخطار مختلفة يذكرها (ابن فضلان) بالتفصيل، وأول هذه الأخطار ذلك المناخ
القارس البرودة الذي لم يألفه (ابن فضلان)، حتى أنه يصف كيف أنه إذا غادر الحمام،
وعاد إلى المنزل وقد تجمدت لحيته، وكيف ينام متدثرًا بالكثير من الألبسة والدثر
الثقيلة، ورغم ذلك يستيقظ ليجد وجه ملتصق بالوسادة؛ ثم هناك أخطار الطريق إذا تسير
القافلة في مناطق لا تهيمن عليها سلطة قوية، وينتشر فيها قطاع الطرق الشرسين، حتى
ليقطع عليهم الطريق رجل منفرد ويستوقف القافلة التي تضم ثلاثة آلاف دابة، ثم لا
يدعهم يمضون حتى يسترضونه بالهدايا والرشى؛ إلى جانب ذلك فإن معظم سكان هذه النواح
من شمال (بخارى) وإلى الفولجا من الوثنيين الرحل الغير متمدنين، والذي يعاني (ابن
فضلان) من الحياة بينهم، وهو المثقف والدبلوماسي العامل في بلاط خليفة بغداد، دار
السلام وحاضرة الدنيا كما تسمى في ذلك الزمان، فتجده يصف طريقة حياتهم، وقذارتهم
الشخصية، وعاداتهم الاجتماعية، ويحمل على كل هذا.
وبسبب هذه المصاعب، تجد أفراد البعثة ينسلون واحد تلو الآخر، ولكن
(ابن فضلان) يصر على أداء أمانته، إلى أن يبلغ ملك البلغار، ويقوم بمهمته على
النحو المطلوب، وهو في ذلك لا يزال منتبهً لكل تفاصيل حياة الناس، سواء النبلاء منهم
أم عامة الشعب، فيصف ملابسهم وعادتهم حتى ليصف كيف يخزنون الغذاء، وكيف أنهم لا
يعرفون الدهن والزيت ويعتمدوا في طعامهم على زيت السمك؛ كما يصف حياة الروس الذين
يأتون إلى بلاد البلغار للتجارة، والذين كانوا لا يزالون يعيشون في ظل الوثنية،
ويقوم بوصف مراسم جنازة أحد نبلاء الروس على نحو تفصيلي، وكيف أنهم قاموا بترك
الميت في أحد البيوت مدة عشرة أيام، ريثما خاطوا له أكفانه، وسألوا أحدى جواريه أن
تصحبه في جنازته، إلى أن حل يوم الجنازة فأخرجوا الميت وألبسوه أكفانه، ثم وضعوه
في قارب، برفقة الطعام والفواكه، ثم أحضروا الجارية التي راحت تشرب الخمر وتغني،
قبل أن يقتلوها ويضعون جثتها في القارب، ويشعلون النار في القارب.
وينهي (ابن فضلان) رسالته بعرض ما وقف عليه من أخبار ومعلومات
تتعلق بمملكة الخزر، ونظامها السياسي، واستعداداتها العسكرية، وأحوال المسلمين
الذين يعيشون تحت حكم الخزر.
الرسالة بصورة عامة أشبه برواية معاصرة منها إلى تقرير حكومي،
ولولا أن (ابن فضلان) يذكر مهمته من آن إلى آخر، لعد عمله هذه عملًا أدبيًا، ويبدو
(ابن فضلان) من خلال ما دونه، ومن أساليبه وملاحظاته، ليس مجرد موظف بسيط في بلاط
بني العباس، ولكن شخص تلقى تعليم عالي بمقاييس زمانه وحظي بثقافة واسعة؛ وهو على
اهتمامه بوصف ما يراه، إلا أنه في وصفه أقرب إلى علم الإنسان منه إلى علم
الجغرافيا، فهم يركز على عادات الناس الاجتماعية وطرائق معيشتهم، ولا يتناول وصف
البلدان والظواهر الجغرافية إلا بالقدر التي تؤثر بها هذه الظواهر في حياة الإنسان
تأثير مباشر ظاهر، كشكواه من قصر النهار وطول الليل وكيف أثر ذلك على تحديد مواقيت
الصلاة؛ ولا تكاد تجد ذكرًا في كتابه للكتابات التقليدية للجغرافيين العرب التي
تهتم بالأقاليم ومقارنتها.
ظلت رسالة (ابن فضلان) مفقودة إلا تلك القطعة الطويلة التي أوردها
(ياقوت الحموي) في معجمه، وهي القطعة الوحيدة المتبقية والموثوق بها؛ وفي القرن
التاسع عشر، أعلن أكثر من مستشرق أنه عثر على مخطوطة النص الكامل للرسالة، ولكن
هذه النصوص لم تثبت أمام البحث والتحقيق، إلى أن اكتشفت في خزانة أحد مشاهير جامعي
الكتب نسختين كاملتين من الرسالة أحدهما بالعربية والثانية باللاتينية.
ثم اكتشفت نسخة أخرى باللاتينية في اليونان، وهي النسخة التي ورد
فيها ذكر زيارة ابن فضلان إلى اسكندنافيا ومغامراته مع الفايكنج، ولكن العلماء
الذي درسوها قد قرروا أنها منحولة وأن كاتبها خلط رسالة (ابن فضلان) بكتاب رحالة
عربي آخر، وربما زاد في الأحداث من خياله.
ولهذه الرسالة أهمية كبيرة في الثقافة العربية والعالمية، فمن
ناحية فهي وثيقة تاريخية على حياة الروس قبل تحولهم إلى المسيحية، بل تكاد تكون
الوثيقة الوحيدة التي آرخت لهم في هذه الحقبة، ولذلك أهتم بدراستها المستشرقون
والمؤرخون الروس؛ أما من ناحية الثقافة العربية فهي دليل مؤسف على سطحية التعامل
مع التراث من قبل المثقفين الرسميين؛ فالكثير من هؤلاء الرسميين تراهم يعتمدون في
تناولهم لرحلة (ابن فضلان) على فيلم (المحارب الثالث عشر) وهو فيلم رديء مأخوذ عن
رواية بعنوان (آكلة الموتى) للأديب الأمريكي (مايكل كرايشتون)؛ مؤلف (الحديقة
الجوارسية) و(سلالة أندروميدا)؛ وفي هذا الرواية يعتمد المؤلف على بعض أجزاء من
رسالة (ابن فضلان)، أو لعله اعتمد على ترجمة للمخطوطة اليونانية التي سبق ذكرها،
ولكنه أضاف للأحداث ما يناسب عمل روائي، مثل اختطاف (ابن فضلان) من قبل الفايكنج
ليكون المحارب الثالث عشر في مجموعة من المحاربين المنتخبين لمحاربة شر قديم مجهول
يهدد بلاد الفايكنج؛ ولا أنكر أن الرواية من أمتع ما قرأت لـ (كرايشتون)، ولكنها
لا تزال رواية؛ وعندما تحولت إلى فيلم، ركز صانعوا الفيلم على المغامرات المزعومة
لابن فضلان في بلاد الفايكنج؛ والمأساة أن كثير من هؤلاء المثقفين الرسميين يعتمد
على الفيلم عندما يتكلمون عن (ابن فضلان)، حتى أني قرأت مقال طويل في مجلة ثقافية
مشهورة لأحدهم يتناول فيه ابن فضلان ورحلته، فتجده ينقل مشاهد بالكامل من الفيلم
لا أصل لها في الكتاب الحقيقي، ولا أنسى المخرج الذي قام باقتباس الفيلم في مسلسل
وهو يجلس أمام الكاميرا ويقول أنه أعد المسلسل بالاعتماد على المخطوطة الأصلية ولم
يشاهد الفيلم الأمريكي؛ لاحظ أنه لم يذكر الرواية أصلًا؛ ثم أخرج مسلسلًا هو نقلًا
حرفيًا للفيلم، مع وقفات من الخطب العصماء التي تليق بالاتحاد الاشتراكي، ثم قام
آخر باقتباس الفيلم في كتاب وأصدره على أنه رواية من تأليفه.
ظلت (رسالة ابن فضلان) بعيدًا عن متناول القارئ العربي لقلة نسخها،
وحبس المتاح منها في المكتبات الشخصية، حتى أقدم الأديب السوري (الدكتور سامي
الدهان) على تحقيقها وإصدارها، بعد أن حثه على هذا الأمر وشجعه أستاذه الأديب
ورئيس المجمع العلمي العربي في دمشق (محمد كرد علي)، وصدرت الرسالة عن المجمع
العلمي العربي عام 1959 في دمشق، وقد أعيد طبعها ضمن مطبوعات مكتبة الأسرة في
القاهرة عام 2006.
تقبلوا مودتي
0 تعليقات