آخر الأخبار

هل نحن فى حاجة لعقد اجتماعي جديد





نحو عقد اجتماعى جديد





د. محمد إبراهيم بسيوني

قدر جيلي ومن في سني ان يعيش نكسات متكررة ففي الخمسينيات من القرن الماضي تبنت الحكومة المصرية برنامجا طموحا لتطوير الاقتصاد المصري بكافة عناصره وتوسعت في التعليم لتخريج كوادر قادرة على تشغيل المزارع والمصانع وما شابه، أدى ذلك لحدوث حراك اجتماعي ضخم في المجتمع المصري نقل الآلاف من الطبقة البسيطة إلى الطبقة الوسطى التي تشكل عماد المجتمع. ومع هذا الحراك المجتمعي كان المستوى المعيشي المصري متقارب لأن الجميع كانوا يعملون في الدولة ويتقاضون رواتب متقاربة ويشترون حاجاتهم من نفس الأماكن وبالأسعار التي تتحكم فيها الدولة ولم تكن هناك تطلعات استهلاكية كبيرة. لم تكن الحياة رغيدة لكن الناس كانوا راضين بها لأن الآمال والطموحات لمستقبل أفضل للبلد كانت كبيرة.
وفي الستينيات والسبعينيات وحتى أواخر الثمانينيات كانت جميع البيوت المصرية تحصل على حصة من المواد التموينية وكان الجميع يشرب شاي التموين، ويغسلون ملابسهم يدويا.

كان جميع الأطفال في المدارس الابتدائية يرتدون مرايل تيل نادية لونها كاكي وكانت مصاريف المدرسة رقما زهيدا ونحصل على الكتب مجانا، وندفع فقط ثمن الكراريس التي جلدتها من الكارتون السميك ونقوم بتجليدها بورق ملون حتى نحافظ عليها حتى نهاية العام.
كان الجميع يشترون ملابس من عمر أفندي وصيدناوي وبنزايون أو من شركة بيع المصنوعات المصرية التي أنشأها طلعت حرب ضمن شركات بنك مصر، ويحصلون على الكستور بالبطاقة التموينية ليفصلوا منه بيجامات لجميع أفراد الأسرة. وفي الثمانينيات تم عمل مشروع الكساء الشعبي ليبيع ملابس مستوردة من الصين بأسعار بسيطة لموظفي الحكومة، وقبله في السبعينيات تم إنشاء صيدناوي الجامعة ليبيع ملابس للطلبة بأسعار مخفضة.
كانت الثلاجة الإيديال ترفا يتم حجزها لفترة طويلة قبل استلامها، وكذلك كانت غسالة الملابس تستخدم صابون الغسيل المبشور أو مسحوق غسيل رابسو أو سافو.

كانت التليفونات نادرة ولم يتم إنشاء شبكة تليفونات جديدة إلا في أوائل الثمانينيات، ووقتها أعلنت مصلحة التليفونات أنها ستقوم بتوصيل تليفون فوري لمن يدفع مبلغ ألف جنيه نقدا وكان مبلغا هائلا بمقاييس وقتها.

المواصلات العامة كانت قطعة من العذاب لأن المتاح كان فقط أتوبيس النقل العام في القاهرة والحناطير في الأقاليم.

كان التليفزيون قناتين فقط ويبدأ الإرسال في الخامسة مساء وينتهي في الحادية عشرة بالقرآن ثم السلام الوطني. ولم تظهر القنوات المحلية إلا في منتصف الثمانينات. وربما يذكر البعض أن الإرسال كان ينقطع لتظهر لوحة على الشاشة مكتوب عليها القناة الأولى ونسمع صوت مذيعة الربط تقول "نعتذر عن هذا العطل الفني ونعاود الإرسال بعد قليل". إعلانات التليفزيون كانت بسيطة وعن أشياء في متناول الناس وكثير من الإعلانات كان عبارة عن لوحة على الشاشة وتقرأ المذيعة محتويات الإعلان.

استمرت تلك الحياة بحلوها ومرها حتى ناءت الدولة المصرية بعبء توفير أساسيات الحياة للمواطنين بعد أن خاضت عدة حروب أتت على جميع مواردها ليجد الرئيس انور السادات نفسه في منتصف السبعينيات بعد نصر اكتوبر العظيم أمام اقتصاد منهك وخزانة خاوية وشعب يطالبه بالرخاء بعد أن شد الحزام سنوات طويلة بسبب الاستعداد للمعركة. وبعد أن خذله حكام الخليج لم يعد أمامه إلا فتح قناة السويس للملاحة ليستعين بدخلها وانتهج سياسة الانفتاح الاقتصادي ليجذب رؤوس الأموال من الخارج والذي بدأ بنشر أنماط استهلاكية وبدأ المصريون يعرفون الكوكاكولا واللبان التشيكليتس بعد سنوات طويلة من الحرمان. كانت الخطة هي الانتقال للصناعات الثقيلة بالتوازي مع إنشاء التجمعات العمرانية الجديدة ولكن للأسف لم يمهل القدر الرئيس السادات حتى يستكمل مشروعه ودخلنا إلى الثمانينيات حيث قررت الدولة التخلي عن التزاماتها القديمة شيئا فشيئا.بعد الحرب وبعد ارتفاع أسعار البترول سافر كثير من المصريين للعمل في الخليج وهناك عرفوا أشكال من الرفاهية غيرت سمة حياتهم وحياة الكثيرين. وفي الثمانينيات كان تأثير الأزمة الاقتصادية قويا على الشباب في تلك الفترة الذي اضطر للرحيل للخارج لتدبير مصاريف الزواج وثمن شقة الزوجية بعد أن اختفت شقق الإيجار وهناك عاش حياة لها مفردات أخرى وضعف انتماؤه للوطن الذي لم يوفر له هذه الاحتياجات. وأنجب هؤلاء الغربة جيلا كبيرا من المصريين نشأ وترعرع خارج الوطن تعود على نمط الحياة الاستهلاكية السهلة ولا يشعر بالانتماء لأي وطن. بالطبع لم يسافر جميع المصريين للعمل في الخارج ولكن اتسع الفارق المادي بين أبناء العائلة الواحدة ظهر واضحا في الفرق بين أنماط حياة الأجيال التالية ليفقد الوطن انتماء عدد من أبنائه يتوقون لنمط حياة استهلاكي لا يقدرون على تكاليفه.
أدرك كثير من ذلك الجيل سواء من سافر ومن بقى أن القادم لن يكون سهلا وأراد أن يجنب أولاده مشقة صعوبات البداية فاضطر الكثيرون للعمل والكد من أجل توفير شقق لأطفالهم الصغار تظل مقفولة حتى يأتي وقت زواجهم، وبدلا من المدارس الحكومية سجلوا أبنائهم في مدارس اللغات وتطور الأمر للمدارس الدولية لتخرج أجيال تعيش حياة منفصلة عن حياة باقي المصريين.

تغلبت الحياة الاستهلاكية على المصريين وما كان بالأمس من الكماليات أصبح حاليا من الأساسيات.


وتغيرت أنماط الحياة بحيث لم يعد الجيل الجديد الذي خرج للنور في التسعينيات يفهم معنى كلمة “صابون غسيل” أو “وأبور الجاز” ناهيك عن كيفية إشعاله واختفى مصطلح “طبيخ بايت” بعد أن أصبح من المعتاد طهو الطعام وحفظه في الفريزر لفترات طويلة، واندثرت علامات تجارية مثل: “كورونا” و”باتا” اللذان احتفى الناس بهم مؤخرا من باب الحنين للماضي فقط لأنها مازلت سلعا قليلة الجودة. توقف الناس عن النوم على مراتب قطن واستبدلوها بالمراتب الجاهزة، ولم يعد الكثيرون يرتدون الملابس الداخلية “جيل” وتحولوا إلى البوكسرات. وطبعا لا مجال للمقارنة بين التليفون والتلغراف في أواخر السبعينيات وبين الهاتف المحمول الذكي الذي نتكلم منه صوت وصورة عبر الإنترنت.


في الثمانينيات كانت فترة التحول من الاقتصاد المقيد للاقتصاد الحر صعبة، وكان الجميع قلقا خصوصا مع الانهيار الغريب لأشياء كثيرة: النقل العام انهار تماما، مصيف المعمورة أصبح شعبيا، غيّب الموت كثير من عظماء الكتاب والفنانين، انتشرت أفلام المقاولات في السينما، وعلى المستوى الإقليمي تشتت العرب في اتجاهات مختلفة وكان اجتياح إسرائيل للبنان صادما وأشعر الناس بالعجز. لم يعد المستقبل مشرقا.في التسعينيات وما بعدها ازدادت وطأة الضغوط الاقتصادية وأصبح الآباء يعملون أكثر – سواء في الداخل أو الخارج – لتوفير احتياجات أبنائهم، وبالتبعية لم يستطيعوا تقضية الوقت الكافي مع أبنائهم الذين أصبحوا فريسة للاستقطاب من أي جهة تستطيع أن تملأ فراغ غياب الأب والأم في حياتهم.

من يريد أن يهاجر الباب يفوت جمل. لقد توقف حلم من الإبرة للصاروخ وحلم توليد الطاقة النووية والسير في اتجاه إنتاج قنبلة ذرية. وحلم صناعة السلاح بأيدي مصرية، وحلم صناعة طائرة أو سيارة محترمة أو التخطيط المركزي من أجل أفضل استخدام للثروة.


الثقافة التي وعيت عليها انمحت تماما في نهاية السبعينيات تحت وقع مطرقتين أحدهما تتصل بلقمة العيش والمكسب السريع وهذا كان له رواده ومريديه ألتصق كل منهم بكرسي في مؤسسة صحفية أو منصب في وزارة الثقافة ثم بني لنفسه كشك يبيع ويشترى بأسلوب شيلني وأشيلك. ثم أصبح النجم الذى لا يريد أن يلمع نجوم أخرى حوله وأمتلك القصور والاراضى والأموال بشتي الطرق التي لم يكن بعضها شريفا يشذ عن هذا.

ظهر الهجوم السلفي المدعم بأموال السعودية والخليج علي البسطاء ومحدودى الثقافة والتعليم من رواد ومحبي شرائط الشيخ كشك ومن تلاه من تجار الدين الذين أصبح كل منهم نجما يلعب بالفلوس لعب. انحطت الثقافة لتناسب ذوق الذى يمتلك ثمن تذكرة المسرح وسقطت في يد المغامرين من أصحاب الأكشاك والناشرين الهواة النصابين الذين امتلأت بهم الساحة وأخرجت المطابع الخاصة زحمة من الكتب تضاف إلي ما تنتجه هيئة الكتاب ليتوه الثمين وسط الغثاثة ويسقط بالتجاهل والصمت. نعم عندما تولي الرئيس حسني مبارك بعد اغتيال الرئيس الشهيد محمد انور السادات كانت الثقافة والفنون والعلوم التي نعرفها فيما عدا بعض كتب القراءة للجميع قد أصبحت في خبر كان، وأصبح المثقف المعترف به في مجتمعه هو الذى يتكلم باللغات الأجنبية ويسافر للخارج ويعرف كيف يعقد الصفقات ويحتمي بمظلة أولي الأمر في تبادل مصالح مشترك.


في ذلك الزمن كان من الممكن أن تنظر حولك فتجد من كانوا في عرفك من المثقفين ينسحبون واحدا خلف الأخر ويراكمون الملايين حتي اي نجم القادم من العدم كان حسابه في البنك قبل وفاته يتعدى الاصفار الستة وذلك من استخدام سمعة سابقة كونوها أيام مصداقيتهم. الصادق من بينهم مثل الأستاذ صلاح جاهين إنتحر بعد أن وجد أنه برباعياته وأشعاره ورسوماته ساهم في التضليل الذى جعل الحياة الثقافية مخوخه وسقط المعبد مع أول ريح.إنه الصراع والخوف والتكالب الذى يصاحب الزلازل والبراكين، أخلاقيات الزحام ومحاولات النجاة الفردية ومع توالي درجات السقوط. انزوى المثقفون ولم نعد نسمع عنهم. وصلنا بالثقافة للدرك الأسفل من الانحدار عندما أصبح وزير الثقافة شخص لم يكمل في حياته قراءة كتاب واحد. لن تهتم إلا بشيئين احدهما ألا تسقط فتدهس بأرجل المسرعين أو تتنشل وتجرد من أموالك وهويتك وأوراقك الرسمية التي ستدوخ لاستخراج بديل لها. إن السلوك الوحشي المعادى من تجمعات الجماهير حتي في زمن الانتفاضة والثورة يجعل الإنسان غير مهتم بغير سلامته.أخلاق الزحام لا تختلف عن سلوكيات البشر في مواجهة الكوارث تسونامي أو زلزال أو إنفجار بركان أو وباء سارى قاتل ومع ذلك فعندما حل تسونامي وزلازل وانفجار نووى باليابان لم يتخل الياباني عن سلوكه المرتب المتحضر وكنت تشاهد طوابير بطول كيلومترات لبشر ممسكين بأوعية فارغة لكي يحصل كل منهم علي نصيبة من الماء النقي. لماذا لم يحدث هذا للأمريكان عندما إنقطع التيار الكهربائي أو للفرنسيين عندما حرقوا الإطارات وقاوموا الحكومة أو للمصريين عندما ضعفت قبضة الشرطة بعد أحداث 2011؟؟ لان الياباني يثق في زميلة وعدالة من يوزع وأنه سيأخذ نصيبه دون هلع بينما الأمريكي أو الفرنسي أو المصري يرى أن قبضة الأمن عندما تخف فهذه هي الإشارة الخضراء لممارسة الفوضي. في الزحام يعيش البشر يحكمهم الخوف، الخوف من الجباة والعسكر والشرطة والبلطجية وأصحاب النفوذ والعقارب والثعابين البشرية التي تحيط بك ولا تكشف عن هويتها ويتوقف العقل عن العمل وتسود روح القطيع الذى تسيره غرائزه إحتماءا من التواجد الفردى حتي لو كانت هذه الحماية ستكلف صاحبها حريته وكرامته وحياته أما الياباني وفي كل شعوب جنوب شرق أسيا فلديهم ثقافة تقول أن الخوف مشاعر بشرية يتم مقاومتها بالشجاعة ومزاولة الشجاعة ترتفع بها إلي الحدود القصوى التي تصل إلي درجة الإتيان بالمعجزات فتحول الخوف لديهم إلي تحدى لإعادة البناء وليس اللطم وطلب النجدة والمعونة والاعتداء علي الغرباء. مع مجتمع الزحام في بلاد تعيش الرعب والخوف والحذر وعدم الثقة في الآخرين وتفتقد إلي الشجاعة من الأفضل أن تكون شبحا غير مرئيا غير محسوسا لا يعرفون لك عنوانا أو مكان عمل أو رقم بطاقة أو حساب في البنك أو حساب علي الانترنيت وأن تتعامل بأسماء وهمية بعيدا عن يد الحكومة وجباة الحكومة ورجال الحكومة الذين يتدخلون في كل مرحلة من مراحل وجودك من الميلاد حتي الدفن وهكذا نشأت سوق بير السلم والاقتصاد الموازى أو الخفي أو غير الرسمي في مصر.



 أغلب من كونوا ثروات تصل إلي المليارديرات من الأشباح غير معروفين ينهبون في صمت ويقتلون في صمت ويتحركون في صمت ويسمسرون في صمت، ويرتشون في صمت ولا تعرف بوجودهم إلا عندما تجد أن جيبك قد خلي بينما أبناؤهم ينفقون الأموال المنهوبة بسفه.

 في مجتمع الزحام أما أن تكون معتدى أو مغلوب علي أمره وقد يكون المعتدى من الذين لا يجدون عشاؤهم مثل ما يحدث في قرى الصعيد ضد القبط ولكنه منضم ضمن عزوه أو جماعة أو عصابة تحميه وتساعده وتعينه علي الإثم والعدوان والإثم في الزحام لا يتوقف مخدرات ودعارة ونصب وسرقة بالإكراه ورشاوى وإتاوات وضرائب ورسوم وكل ما تتخيله من منكرات حتي بيع أعضاء الأجساد البشرية والاستعباد الجنسي للأطفال والتحرش الواضح والمستتر.

الزحام مع التعليم الجيد والتدريب المثمر يؤدى إلي حالة كوكب اليابان أى الرخاء و المسئولية أما الزحام عندما تصحبه الجهالة فلابد أن ينتج عنه ديكتاتورية وغفلة قوقية ودينية وهكذا أصبحنا بعد 47 سنة من 1972 مصر كأرض مأهولة وخدمات وإنتاج طعام تستطيع أن تستوعب ما لا يزيد عن 40 مليون نسمة فإذا ما تضاعف العدد دون أن تتضاعف الخدمات وتتسع الرقعة المستخدمة فلابد أن تجد زحمة في الشوارع والمواصلات والمدارس والجامعات والمستشفيات والأسواق والمولات، بمعني أن الطلب يزيد بمرتين عن العرض فيصبح السوق جنة التاجر بضائع سيئة بأسعار مرتفعة تحصل عليها بعد صراع أو تذهب إلي كومباوندات ومولات الأغنياء وتحصل عليها بأسعار فلكية.


المشكلة الآن أنه أمام الأزمة الاقتصادية التي يواجهها الوطن نجد أن جيل الآباء والأجداد على استعداد لتحمل التقشف المطلوب للمرور من هذه الأزمة لأنهم عاشوا ما هو أسوأ من ذلك، في حين أن جيل الأبناء والأحفاد الذي نشأ على الحياة الاستهلاكية لا يفهم هذا الكلام ولذلك يجب أن يكون الخطاب الإعلامي لهم مختلفا حتى لا تنشأ فجوة بينهم وبين آبائهم يستغلها “إخوان الشر” في التفريق بين المصريين. وأن يتم وضع عقد اجتماعي جديد يكون واضحا فيه مسئوليات الدولة تجاه المواطن ومسئوليات المواطن تجاه بلاده.

عميد طب المنيا السابق




إرسال تعليق

0 تعليقات