التظاهرات - ما العمل؟ 1- "دعم موجه
وعيون مفتوحة"
صائب خليل
1-
: "دعم موجه":
تحتاج كل التظاهرات
في التاريخ إلى التنظيم لتوجيهها نحو أهدافها، لتعرف طريقها في الضوضاء التي
تخلقها بنفسها. "الدعم الموجه" يتطلب تسمية الأهداف بأكبر قدر ممكن من
التحديد، ومراقبة توجه المتظاهرين، فحتى المخلصين منهم قد لا يستطيعون اكتشاف
طريقهم للوصول الى ما يطالبون به. يجب ان تبقى البوصلة موجهة الى أهداف التظاهرات،
وأن تكون جميع الفعاليات مصممة لـ :
"توجيه الضغط
على الحكومة" حتى تستجيب لتلك المطالب.
وفي تظاهرات العراق
مثلاً ، يجب ان يتم طرح التساؤلات عن الأهداف مثل:
هل ان قانون
الانتخابات واحد من المشاكل المهمة التي أوصلت البلد الى ما وصل اليه؟ هل يستحق أن
يكون من أولويات قائمة احتجاجاتنا؟ ما هو القانون البديل وما الذي يحققه هذا
التغيير؟
وطرح أسئلة عن
المستجدات مثل: هل ان منع الدراسة الابتدائية يساهم في الضغط على الحكومة؟
اذا كنت تتصور ان
الحكومة حريصة جدا على التعليم، فالجواب سيكون نعم، فهل هي حريصة أم لا يهمها؟
هذه "المراقبة
للأهداف والمستجدات" وإيجاد الجواب عليها هو ضمن قائمة "الدعم" للتظاهرة،
مثلها مثل نشر الدعاية لها والتبرع واثارة الناس لدعمها الخ.
.
2- "عيون
مفتوحة"
لم يعد هذا كافياً. لقد
كان متاحاً لقيادات تظاهرات الشعوب في الماضي أن يكتفوا بهذه المراقبات، لكن منذ
ثلاثين عاما اختلف الأمر. فقد اكتشف أعداء الشعوب، فكرة التظاهرات الملونة كسلاح
يستخدم الشعب نفسه لاستبدال حكومة البلد بما هو أسوأ للشعب، كما حدث في بلدان
أوروبا الشرقية التي اختار شعبها حكومات شيوعية او يسارية بعد سقوط السوفييت! ثم
طورت إسرائيل هذه الطريقة لتستهدف ليس تغيير النظام بل تحطيم البلد وحرقه كهدف
أهم، كما حدث في سوريا وليبيا.
لذلك لم تعد الخطة
القديمة كافية، لأن من الحماقة الشديدة ان لا يؤخذ احتمال التدمير بنظر الاعتبار،
خاصة في العراق الذي تخترق مؤسسات التدمير المباشر والإعلامي، مفاصله كما لم تخترق
دولة أخرى من قبله في التاريخ. كذلك نلاحظ أن هناك عملية تدمير ممنهجة ومخططة
للبلد، فلا يمكن تفسير ما وصل اليه العراق والقاء تبعته على "الفساد" الطبيعي
لوحده. فلم يسبق لدولة ثرية، مهما عانت من الفساد أن تعجز مثلا عن إيصال الكهرباء
للناس وجباية قوائمها بنفسها، أو ان تبني مدارس بدرجة معقولة من الجودة. والحقيقة
ان هذا التدمير الممنهج هو السبب المباشر لقيام التظاهرات نفسها، ويجب ان لا يغيب
عن البال ابداً هذا التخطيط للتدمير، ووجود جهة تقف وراءه وتصرف المال من أجله.
ومن الطبيعي بعد ذلك
أن هذه الجهة لن يفوتها ابداً محاولة استغلال التظاهرات من أجل أهدافها.
.
لقد تسبب هذا الوعي
بخطورة الموقف، بالانشقاق الشعبي غير المسبوق من الموقف من التظاهرات، وقسّم
العراقيين إلى فريقين متصارعين: 1- فريق يأمل من التظاهرات ان تغير له وطنه الى
وطن يليق بالإنسان، وآخر: 2- يخشى أن تحول البلد الى خراب ربيع عربي آخر.
وقد حطم هذا الانشقاق
علاقات كما لم يسبق في تاريخ العراق المليء بالاضطرابات، وفرّق أصدقاءاً لم يسبق
لهم ان تفرقوا، بل اني اعرف حالتين لعوائل قد تنفصل عن بعضها بسببه، ولا اظن انهما
الوحيدتان!
.
شدة التوتر جعلت
الفريق الأول يشعر أنه ثوري يريد التغيير لأنه مع الجماهير، وأن الآخر فريق يدعم
الحكومة، وأنه "مستفيد" من الوضع الفاسد، وفوق ذلك هو يهدد بضياع الفرصة
التاريخية! والثاني يرى أن هذه مؤامرة يجب انقاذ البلاد منها، وان الفريق ساذج أو
متآمر على البلاد! هذه النظرة المنفلتة تجعل من نصف الشعب فوراً خائنا لشعبه، سواء
في هذا الاتجاه أو ذاك!
التوتر والحساسية
وشدة الاستقطاب العاطفي، مفهومة ومعذورة، فهو مصير وطن! ولكن لأنه مصير وطن، فهناك
حدود للعذر. فمقابل هذا القلق الكبير، هناك المسؤولية الأكبر، والتي تحتم الإلتزام
بالتفكير المنطقي ولجم الاندفاع العاطفي الخطر لهذا الاستقطاب.
وهناك فرصة. فرغم حدة
الانقسام، فإنني أتصور اننا يمكن أن نجمع مقالق الطرفين في مشترك واحد والبناء
عليه، وهو: حق الشعب العراقي بمستقبل أفضل، والقلق على العراق من المؤامرات.
.
فلا أتصور أنه يوجد
من يفترض ان الملايين التي خرجت هي كلها أو نسبة كبيرة منها من المتآمرين على
البلد. وفي نفس الوقت، لا اعتقد انه بقي من يعتقد بأن العالم خال من المؤامرات، او
ان العراق بمأمن منها وهو يحتضن اشد المتآمرين عليه داخل بلاده.
الاختلاف فقط هو في
تقدير حجم المؤامرة، وان كانت هي التي ستقرر مصير التظاهرات أم ستقررها الجماهير. ومن
الصعب تحديد هذا الآن، فمازال الوضع في "مرحلة الغموض" وتوارد التناقضات
بين سلمية ساحة التحرير واعمال عنف وإرهاب في مناطق أخرى في الجنوب.
إلا أنه من الحتمي أن
سيأتي يوم، لا نظنه بعيد، تكون الأمور قد اتضحت والأسئلة اجيبت وفهمنا كل شيء،
ولكن... السؤال الحاسم سيكون: هل سنفهم قبل فوات الأوان؟ كلما التقطنا الإشارات
الدالة، وفهمنا بسرعة اكبر، كانت فرصتنا لتحقيق الإنجاز، او تجنب الخطر، اكبر،
وهذا هو هدفنا.
وبالمقابل، يجب أن لا
ننسى للحظة واحدة، إن الجهات التي تريد الخراب، تأمل بالعكس وستعمل من أجله: ان لا
يكتشف الناس العلامات إلا بعد فوات الأوان!
فما هي الخطة التي
يجب علينا اتباعها لضمان اكبر فرصة لنكسب الموقف؟
ما دمنا في مرحلة
الغموض، فأن الطريقة التي تعطينا أفضل الفرص هي أن يعمل الجميع على نقطتين: 1-
"الدعم الموجه" للتظاهرات وادامتها مادامت سليمة و 2- مراقبتها بدقة
لاكتشاف أي انحراف بشكل مبكر، واتخاذ الإجراءات اللازمة لوقفه أو تعديله.
يعني "دعم موجه
وعيون مفتوحة".
لقد عرفنا "الدعم
الموجه" فما هي "العيون المفتوحة"؟ كيف نضمن رؤية الأخطار بأسرع
وقت ممكن وقبل فوات الأوان؟
.
3- تعاون
المتضادات - ممكن وضروري
.
سأتحدث في المقالة
القادمة عن تفاصيل العوامل التي يمكن ان تسرّع أو تعرقل رؤية العلامات الخطرة،
وسأخصص مقالة أخرى لشرح شدة تعقيد الموقف العراقي من أجل فهمه وسأكتفي في خاتمة
هذه المقالة بملاحظتين عامتين عن ضرورة فهم الصورة العامة وعن الاصلح لاكتشاف
العلامات المنذرة قبل غيرهم.
.
لماذا الفهم يساعدنا
على اكتشاف علامات الخطر؟
لأن الإنسان (وكل
حيوان) يصبح أكثر حساسية حين يعرف مسبقاً الخطر المتوقع. فإذا كنت تسير في منطقة
تعرف انها مليئة بالخنازير البرية، فأن معرفتك هذه ستجعلك ترى خطر أي منها، قبل من
لا يدري عن الموضوع شيئا. وإن كنت قد سمعت ان هناك علامات لزلزال ارضي، فستكون
حساساً لملاحظات أخرى واسرع التقاطا لها.
لذلك فمن المهم
لراداراتنا ان تفهم ما الذي يجب ان تراقبه من ظواهر. وهذا يعني ان تعرف ما هي
وسائل العدو التي يحرف بها التظاهرات عادة، وما الذي يتيح له فرصة اكبر لذلك. من
هم بالضبط اللاعبون في الساحة العراقية، وماذا يريد كل منهم؟ ما هي امكانياته؟
إن كنت تشعر بالإرهاق
لمجرد الحديث عن الساحة العراقية عزيزي القارئ، فأنت محق تماماً. فالمسألة شائكة
بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، وبشكل متعمد في معظمه. وسأخصص مقالة كمحاولة
لطرح وجهة نظري وسعيا للتخفيف من غموض الوضع.
.
من هم المرشحون
لرؤية الخطر قبل غيرهم؟
إضافة الى ضرورة فهم
ساحة الصراع ودور اللاعبين، فأن هناك دور للعاطفة في سرعة رؤية الخطر. فمن يقلق
اكثر، ينتبه اسرع لوجود ما يقلقه، كأمر طبيعي للبقاء. لذلك فالمرشح اكثر لرؤية
العلامات المنذرة هم الفريق الأشد قلقاً على التظاهرة، من خطر المؤامرة! إنهم "المشككين"!
فهؤلاء سيتربصون لكل حركة ويطلقون الإنذار. وطبيعي ان ليس كل الإنذارات صحيحة، لكن
لا مفر من الاستماع الى كل الإنذارات إن اردنا الانتباه في الوقت المناسب. لذلك
يجب الاستماع الى هؤلاء وتحذيراتهم بانتباه واحترام إن اردنا تحقيق هذه النقطة.
وهذا يقودنا الى
النقطة المقابلة في شعار "دعم موجه وعيون مفتوحة"، فنسأل: من هو الأكثر
قدرة على تقديم "الدعم الموجه"؟ إنهم الفريق الأكثر حماساً وثقة
بالتظاهرات من "المشككين" بها، لأنهم بطبيعة موقفهم، اكثر استعدادا لبذل
الجهد من اجل امر يثقون بنتيجته!
.
لماذا يحدث ذلك رغم
ان كل من الطرفين يرى تماما مثل الآخر؟
هذا تأثير نفسي علمي
يعرفه علماء النفس وله اسم محدد (1) وفكرته البسيطة هي أن الانسان عندما يضع
الكثير من آماله في شيء شخص أو حدث معين، فإنه يميل الى التصديق بأن هذا الشخص او
هذا الحدث، هو كما توقعه. وكلما زاد الجهد والوقت والمال الذي يصرفه الشخص على
مشروعه هذا، كلما زاد احتمال أن يصدق نفسه ولا يرى أية اخبار سيئة. ذلك ان الاخبار
السيئة ستكون مؤلمة نفسياً، وهذه كلفة يسعى العقل لتجنيبنا إياها. فقد يتحطم
الانسان نفسياً من بعض الأحداث، مثل رد فعل أم على وفاة طفلها. البعض منهم لا يصدق
ذلك ولا يستطيع ان يصدقه. والبعض الآخر يتأخر في تصديقه ليستقبل الصدمة تدريجيا.
كلنا نعرف العرب
الذين كانوا يضعون آمالهم في صدام حسين، ومقاومتهم لرؤية حقيقة انه ليس سوى شخص
سافل. ويمكننا أن نشاهد تأثير هذه الظاهرة النفسية في التظاهرات منذ الآن. فالقلقين
من خطرها يميلون الى حساسية مفرطة للتركيز على ابسط الاحداث المقلقة وتفسيرها على
انها دليل على خطر في طور النمو. وبالمقابل، مثلما يضخم القلقون الاحداث، فأن "الآملون"
يميلون لتقليل أهميتها واعتبارها غير مهمة، حتى لو كانت مؤشراً مهما بالفعل. إنهم
يحاولون كبت تلك المؤشرات وعرقلة نشر اخبارها لكي لا تؤخر المسيرة التي يأملون
منها الكثير.
.
هكذا نصل الى نتيجة
مهمة، وهي اننا ان اتفقنا ان التظاهرات لن يتم حمايتها إلا بـ "دعم موجه
وعيون مفتوحة"، فعلينا ان نقر أن الجانب الآخر ضروري للتظاهرة كما نحن
ضروريون لها! ان يدرك "المشكك"، وبصدق، ان الداعم المتحمس المندفع
للتظاهرة، ليس شخصاً خطراً يهدد البلاد بالدمار، إلا اذا بلغ الأمر عناداً مؤذياً،
بل هو ضروري جدا لحياة التظاهرة والأمل الأساسي لتحقيق تغيير نرجوه جميعا، حتى ان
لم نكن متفائلين تماما بإمكانية تحقيقه.
وبالمقابل فعلى "المتحمس"
أن يدرك أن "المشكك" ضروري لحماية التظاهرة واكثر قدرة منه على رؤية
المؤامرات المحدقة بها منه. وإنه ان كان يحب تظاهرته، فيجب ان يشعر بضرورة هذه
العين الحساسة لحمايتها، حتى ان بالغت أحيانا في ذلك، وبدا أنها تعمل لإحباطها،
إلا إذا زاد الامر عن حد بعيد.
.
إذن، فالإخلاص
الحقيقي للتظاهرة وللوطن يفترض بكل من الفريقين احترام الآخر واعتباره عوناً له
على تحقيق النتائج الإيجابية واتقاء الخطر، والامتناع عن السخرية منه واثارة الناس
ضده. وليس هذا الوعي سهلا، فهو يتطلب أمانة عالية وتجرد كبير من الذاتية. فالذاتية
تمتلك من الوسائل ما تدخل به إلى اشد مشاعر الإنسان نبلا، لتختفي داخلها وتقودها
سراً. وليس سهلا على المتظاهر الشاب ان يميز دائماً بين رغباته النبيلة وشعوره
بالانتعاش لحريته الجديدة حتى في تحديد المسارات أو ترك العمل والدراسة وحتى في
التخريب. وليس سهلا على المتحمس أو المعارض، ان يميز بين طموحاته وآماله هو ومصلحة
الوطن، او مقالقه هو و ما قد يؤذي الوطن.
.
لن يمكن تحقيق هذه
الأمانة الصعبة بشكل كامل، لكن الوعي بضرورتها كفيل بتقريبنا منها. وكلما استطعنا
ان نشعر بأهمية الطرف المقابل من اجل الوطن، نكون قد حققنا المزيد منها، واقتربنا
من الأمل الذي نريد ببناء وطن جميل وتجنيبه المخاطر.
.
المقالة التالية
ستكون عن العوامل التي تسرع او تبطئ الإحساس بعلامات خطر المؤامرة.
.
(1) "التنافر
المعرفي" (cognitive
dissonance) ، انظر
أيضا:
0 تعليقات