علي الأصولي
ما زال الكلام حول الماهية، وهذا يعني الكلام لازلنا في موضوعة مفهوم
الموجود، المبحوث بالفلسفة هو الشيء الذي ثبت له الوجود، ( سواء كان نفس الوجود أو
ما اتصف به ).
وإلا لا لوجود بديهي مفهوما، وما يقال أو قيل في شرحه من قبيل ( أنه الثابت
العين ) أو ( ما يمكن أن يخبر عنه ) فهي تعاريف لا تخرج عن كونها شروحا لفظية فقط،
غايتها تنبيهية إشاراتية، وليست تعاريف حقيقية،
وكما ترى ضاقت عليهم العبارة لوضوح مفهوم الوجود!
ولذا أتذكر في المنظومة للملا هادي مقطع مفاده ( يا من لشدة وضوحه أو وجوده
اختفى ) ويقصد بهذا المقطع الله تعالى.
وأما الماهية فقد عرفت سابقا قيل في تعريفها بأنها: الواقعة في جواب ما هي
أو ما هو؛ فإذا قلت: ما هو زيدٌ؟ وجاءك الجواب بأنه إنسان، أو قلت: ما هو الإنسان؟
وجاءك الجواب بأنه حيوان ناطق، كان الجواب على هذا السؤال بذاته ماهية الإنسان. وبعبارة
أخرى: أن الماهية بيان لحقيقة الشيء وذاته التي تميزه عمّا سواه.
ومثلوا على ذلك مثال: حاصله، أنت حينَ تواجه موجوداً ما كجبل أبي قبيس،
فتقول: «جبل أبي قبيس موجود»، فقد أشرت بالموضوع «جبل أبي قبيس» إلى ماهيةِ الشيء
الذي واجهته، كما أنك أشرت بالمحمول «موجود» إلى وجوده. وهكذا بقية الأشياء التي
تواجهنا، فإن لها ماهية كما أن لها وجوداً.
وعلى ضوء ما تقدم قالوا: ويظهر مما تقدم أنّ الماهية تختلف عن الوجود
مفهوماً، أي أنّ ما يفهم من معنى الوجود غير ما يفهم من معنى الماهية، فكل منهما
يختلف عن الآخر في الذهن وأما في الخارج، أي خارج حدود الذهن فلا يوجد اختلاف،
فهما متحدان في شيءٍ خارجي واحد، فنستطيع أن نشير إلى زيد الخارجي بالقول: هذا
إنسان وموجود.
ولذا تعرف أن الشيء المتحقق خارجا وهو ( زيد ) مصداق لمفهوم الوجود أو إنه
مصداق لمفهوم الماهية؟ وبعبارة أخرى: هل إن الوجود أصيل في الخارج أم الماهية؟ فلو
كان لكل منهما مصداق، لكان في الخارج مصداقان اثنان لا مصداق واحد، وبما أن الواقع
الخارجي لا يوجد فيه إلا مصداق واحد، فلابدّ أن يكون هذا المصداق لأحدهما دون
الآخر وإن انطبقا عليه، إلا أن أحدهما واقعي أصيل والآخر اعتباري، أي أن المصداق
الخارجي المتمثل بزيد، يكون لأحدهما بالذات ومصداقاً للآخر بالعرض،
وهكذا يتضح حال الوجود والماهية، فإن الواقع الخارجي للأشياء ليس سوى
مصاديق لمفهوم الوجود، إلا أنّ ذهن الإنسان يرسم لهذا الوجود حدّاً يميّزه عن غيره
من المصاديق العينية الخارجية التي تشترك معه في الوجود، فالإنسان مثلاً من أجل
تشخيصه عن غيره من المصاديق الخارجية التي تشترك معه في الحيوانية يوضع له مائز
يميّزه عنها وذلك المائز هو كونه ناطقاً، فيقال بأنه: «حيوان ناطق» أي أن هذا
الإنسان يمتاز عن غيره من الحيوانات بأن له قدرة على التفكير وإدراك الكليات.
حصيلة ما تقدم من كلامهم هي: إن العينية الخارجية ليس فيها سوى الوجود ولا
سهم للماهية فيه سوى أنها تنطبق عليه ويُنسب إليها اعتباراً، وهو ما يعبّر عنه
بأصالة
وإلى هذا أشار المرحوم الملاّ هادي السبزواري في منظومته الفلسفية:
إن الوجود عندنا
أصيل ** دليل من خالفنا عليل
وعلى خلاف هذا الرأي، ذهب آخرون إلى أصالة الماهية واعتبارية الوجود
وأُنشِدَ لهم:
إن الأصيل عندنا
ماهية ** دليل من خالفنا واهية
ومن أراد المزيد من التوضيح يمكن مراجعة البداية والنهاية للعلاّمة
الطباطبائي حيث استعرض فيهما آراء الفريقين وأدلتهما وردودهما.
المهم أن تكون عندك فكرة عامة حول ما يطرح هنا للنظر في هذه الدعاوي،
واهم الأدلة التي ساقوها لتدعيم نظرية أصالة الوجود، هي:
(١) صحة السلب، أي يصح سلب الوجود عن الماهية، فيصح أن تقول البرتقالة غير
موجودة،
(٢) افتقار حمل الوجود على الماهية إلى الوسط، فالبرتقالة موجودة ( وإذا
افترضا الوجود والماهية واحد ) فتصبح العبارة هكذا البرتقالة برتقالة،
(٣) انفكاكها منه بالتعقل، اي يمكن أن نعقل ماهية البرتقالة ونغفل عن
وجودها الخارجي، هذه أهم ثلاث أدلة أقيمت حول النظرية،
وعلى ذلك يحاول الفلاسفة في هذه النظرية إقناع المتلقي ان الماهية غير
الوجود، مع أن أساس هذه المحاولة هي اعتمادهم على جانب خارجي وآخر ذهني !
ونحن بالتالي نتعامل مع الوجود الخارجي وما نعرفه للأشياء كوجودات خارجية
وعليها نرتب الآثار وعليها التوصيفات ونحو ذلك،
إذن: ليس لدينا ماهية ووجود بهذا المعنى المشار إليه بكلماتهم بل عندنا
وجود واحد وهو قائم بالغير،
وافتراض الثنائية تكلف شديد لا معنى له وما قيل من أدلة طرحت فهي لفظية
أقرب من كونها حكمية،
بحثوا الوجود على أنه هل هو حقيقة واحدة أم مختلفة، يعني هل وجود الخالق
والمخلوق بينهما اشتراك بالجوهر أم بالعرض؟
هل بين الوجودين اشتراكا لفظيا ( كلفظ السيارة ) أم غايته اشتراك معنوي ؟
ذهب الحكماء إلى الاشتراك المعنوي، وأقاموا على ذلك أدلة منها ( لا تمايز
في الإعدام، فمعناه واحد ونقيض الواحد واحد )
لكن هل حقا نقيض الواحد واحد !
أم نقيض العدم أكثر من واحد !
هل التفت الآجلة إلى ملازمة لا تماير بالإعدام ويلزمه وفقا للتقابل ان لا
تمايز بالوجود، وبما أن عدم التمايز العدمي من كل الجهات فيلزم عدم التمايز
الوجودي أيضا من كل الجهات!
إذن: أين الله !!!
إن مقولة التكشيك الوجودي هي محاولة أخرى لتدعيم الثنائية النظرية بين
الوجود والماهية، فعندهم الوجود واحد واختلاف الماهية،
والدفاع المستميت عن التكشيك هو دفعا للإحراج الذي يمكن أن يلاقوه بسؤال أين
الله بالتالي !
وهذا الدفاع غير مجد وفقا لدليل عدم التمايز العدمي الذي يقابله عدم
التمايز الوجودي!
لاحظ الفكرة جيدا وتأمل بها
وانظر للنتيجة !
وأفضل اختصار لما كتبه الشاب باقر الشيباني يصلح لأن يكون خاتمة لما عرضناه
سابقا ضمن هذه السلسلة وبها نختم،
إذ قال:
الإله الذي تتحدث عنه الفلسفة غير الإله الذي تتحدث عنه العقيدة ، الفلسفة
تتحدث عن سبب غير مرآي للوجود قوة محجوبة عن الإحساس و الشعور البشري صلة الوصل
الوحيدة بيننا و بين هذه القوة تأملاتنا العقلية المجردة.
أما العقيدة فتتحدث عن اله و كأنه تجربة حسية غنية عن البحث و التأمل في
وجودها فالإله العقائدي استطاع في لحظة ما، أن يتصل بالبشر و يكلمهم ليضع لهم
الدساتير و يسن لهم التشريعات . و لو كانت الفلسفة تتفق مع المفهوم العقائدي للإله
لم تعد فلسفة و لو اتفقت العقيدة مع المفهوم الفلسفي للإله لم تعد عقيدة.
0 تعليقات