عز الدين البغدادي
اشتهر بين عامّة الناس حرمة صوم يوم عاشوراء، لأن بني أميّة وضعوا أحاديث
في فضل صيامه، وزعموا أنه يوم مبارك أنزل الله فيه على كثير من أنبياءه الفرج.
وكلّ ذلك ليغطّوا على جريمتهم بحق آل البيت في يوم عاشوراء.
وبغض النظر عما يشيع بين كثير من الناس؛ نريد هنا أن ننظر للموضوع
نظرة علمية، حيث اختلف في صوم يوم عاشوراء، فهناك من ذهب إلى أن صيام هذا اليوم
مشروع ومستحبّ، وهناك من نفى ذلك ورأى أنّ هذا بدعة ابتدعها بنو أميّة حتى يتحوّل
هذا اليوم من يوم حزن إلى يوم فرح ومرح.
حيث روي في مشروعية صيامه أحاديث منها ما روي عن ابن عمر: أنّ
أهــــــل الجاهلية كانوا يصومــــون يوم عاشوراء، وأنّ رسول الله (ص) صامه
والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض رمضان قال رسول الله (ص): إنّ عاشوراء
يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه.
وربّما تتصوّر أن الوضع ليس بعيدا عن هذا الحديث وما شابهه، إلا
أنّك ستجد أنّ هناك الكثير في هذا المعنى مما مما روي من طرق أهل البيت، فمن ذلك:
عن علي ع أنّه قال: صوموا يوم عاشوراء التاسع والعاشر احتياطاً؛
فإنه كفّارة السَّنة التي قبله. وإن لم يعلم به أحدكم حتى يأكل؛ فليتم صومه.
وروي عن أبي عبد الله جعفر الصادق ع عن أبيه أنّ عليا قال: صوموا
العاشوراء التاسع والعاشر فإنه يكفر ذنوب سنة.
وروى عن أبي الحسن الكاظم ع أنه قال: صام رسول الله (ص) يوم
عاشوراء.
وروي عن جعفر ع عن أبيه أنه قال: صيام يوم عاشوراء كفارة سنة.
وفي حديث الزهري عن علي بن الحسين في عداد الصوم الذي صاحبه
بالخيار: صوم عاشوراء.
ومثله المروي في الفقه الرضوي.
وقد روي في سبب صيامه أنّ هذا اليوم هو الذي نجى فيه عددا من
الأنبياء من البلاء، إلا أنه ورد في رواية ذكرها الشيخ الصدوق وأسندها إلى ميثم
التمّار ردّ على هذا الزعم، حيث روى عن جبلة المكية قالت: سمعت ميثم التمّار يقول:
والله لتقتل هذه الأمة ابن نبيها في المحرم لعشر يمضين منه، وليتخذنّ أعداء الله
ذلك اليوم يوم بركة، …. قالت جبلة: فقلت له: يا ميثم، فكيف يتخذ الناس ذلك اليوم
الذي قتل فيه الحسين يوم بركة؟ فبكى ميثم ثم قال: يزعمون لحديث يضعونه انه اليوم الذي
تاب الله فيه على آدم، وإنما تاب الله على آدم في ذي الحجة. ويزعمون انه اليوم
الذي قبل الله فيه توبة داود، وإنما قبل الله عز وجل توبته في ذي الحجة. ويزعمون
انه اليوم الذي أخرج الله فيه يونس من بطن الحوت، وإنما أخرج الله عز وجل يونس من
بطن الحوت في ذي الحجة. ويزعمون انه اليوم الذي فلق الله تعالى فيه البحر لبنى
إسرائيل، وإنما كان ذلك في ربيع الأول إلا أني تفاجأت بوجود عدد من الروايات عن
أهل البيت توافق ما ذُكر من كون يوم عاشوراء هو اليوم الذي نجا فيه بعض الأنبياء
من البلاء. فقد روى الشيخ الطوسي عن أبي جعفر الباقر ع، قال: ….
هذا اليوم الذي تاب الله عز وجل فيه على آدم وحواء، وهذا اليوم
الذي فلق الله فيه البحر لبني إسرائيل فأغرق فرعون ومن معه، وهذا اليوم الذي غلب
فيه موسى عليه السلام فرعون. وهذا اليوم الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام، وهذا
اليوم الذي تاب الله فيه على قوم يونس، وهذا اليوم الذي ولد فيه عيسى ابن مريم....
وعلى كل، لا يمكن غض النظر عن روايات صوم عاشوراء حتى قال عنها ابن
طاووس: ووردت أخبار كثيرة بالحث على صيامه.
لكن من جهة أخرى، فقد وردت روايات عن أهل البيت تثبت المنع من صيام
هذا اليوم، فمن ذلك:
ما روي عن الرضا ع أنه سئل عن صوم يوم عاشوراء وما يقول الناس فيه؟
فقال: ذلك اليوم صامه الأدعياء من آل زياد لقتل الحسين ع.
وما روي عن عبيد بن زرارة ان الإمام الصادق ع قال: من صامه كان حظه
من صيام ذلك اليوم حظ ابن مرجانة وآل زياد. قال: قلت: وما كان حظهم من ذلك اليوم؟
قال: النار أعاذنا الله من النار، ومن عمل يقرب من النار.
أي إن هناك طائفتين من الروايات، إلا أن روايات استحباب الصوم أحسن
سندا، وقد ذكر الحائري الحسيني في كتابه "" نجاة الأمة في إقامة العزاء
على الحسين والأئمة": أنّ روايات صوم عاشوراء جاءت بأسانيد معتبرة، في حين
جاءت الروايات الناهية عن صومه بأسانيد ضعيفة.
وهو كما قال.
وبعد هذه الروايات ننظر في تعامل الفقهاء معها، فهناك قولان
رئيسيان:
الأول: ذهب إلى التحريم، وحمل روايات الاستحباب التي وردت عن
النبيّ (ص) على كونها نزلت قبل تشريع رمضان، وحملت تلك التي وردت عن أئمة أهل
البيت على التقيّة.
وهذا أضعف رأي في المسألة، وهو تهرّب من وجود أحاديث صحيحة بدعوى
التقيّة دون وجود شاهد على ذلك، ولا يمكن ردّ أحاديث صحيحة لمجرّد مطابقتها
للجمهور والأخذ بأحاديث ضعيفة، رغم أنه لا تكاد تجد رأيا أو خبرا إلا وعند الجمهور
ما يوافقه!!
الرأي الثاني: وهو المشهور وذهب إلى أن الصيام يوم عاشوراء مستحب،
لكن هذا الرأي قيّده بأحد أمرين:
القيد الأول: هناك من قيده بأن يكون على وجه الحزن، وقد ذكر المحقق
الحلي صوم عاشوراء ضمن الصيام المستحب؛ إلا أنه قيّد استحبابه بما إذا كان على وجه
الحزن.
وقد أقره على ذلك المحقق النجفي، بل قال: بلا خلاف أجده فيه.
وقال ابن زهرة: وأما الصوم المندوب..... وصوم عاشوراء على وجه
الحزن.
وقال النراقي: ومنها: صوم يوم عاشوراء، فإنه قال باستحبابه جمع من
الأصحاب على وجه الحزن والمصيبة.
وأول من ذهب إلى هذا القيد (أي قيد الحزن) الشيخ المفيد، ثم تبعه
عليه الطوسي في الاستبصار.
وقد ذكر صاحب المدارك ذلك، وقال: وهو جيّد.
وليس كذلك، إذ لا دليل على هذا القيد، بل الروايات بين ما تحثّ على
صيامه وما تزجر عنه، فيكون هذا القيد تبرعيّا لا وجه له، فيطرح.
القيد الثاني: هناك من قيدها بعدم إتمامه، بل يصوم إلى العصر ثم
يفطر، واستدل لذلك بما روي عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: صمه من غير تبييت،
وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كملا، وليكن إفطارك بعد العصر بساعة على
شربة من ماء، فإنه في ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلت الهيجاء من آل رسول الله (ص)
وانكشفت الملحمة عنهم.
وجمع العلامة الحلي بين القيدين فقال: يستحب صوم يوم عاشورا حزناً
… وإذا عرفت هـــذا فإنه ينبغـــي أن لا يتمّ صوم ذلك اليوم، بل يفطـــر بعد العصر.
وعموما فهذا الرأي غريب جدا وضعيف جدا، أما أنه غريب فلما فيه من
اعتماد رواية واحدة في سندها ضعف، وترك روايات أكثر عدداً وأصح سنداً، وهذا أمر
غير مقبول البتّة. وأما أنه ضعيف؛ فلأنّ ترك الطعام والشراب إلى عصر اليوم ليس
بصيام شرعا.
والروايات التي أكّدت على استحباب صومه لا يمكن ولا يُتعقّل إلا
حملها على المعنى والتحديد الشرعي للصوم وهو الإمساك عن المفطّرات من الفجر إلى
المغرب كما هو في غيرها.
وأرى أنّ كلا المحملين أي قصد الحزن أو الإمساك إلى العصر هما
محملان ضعيفان، وكان ينبغي للفقيه كما تقتضي القواعد، وأيضا كما يقتضي الإنصاف أن
يأخذ بروايات التحريم إذا رآها أقوى، أو الاستحباب إذا رأى الأمر كذلك. ولا ينبغي
هنا العمل على الجمع بينهما ما دام أحدهما ضعيفا، فكيف إذا كان الجمع على هذا
النحو الذي يخرج الصوم عن معناه؟
الرأي الثالث: الاستحباب: دون تقييد وذلك لكون روايات الاستحباب
أقوى سندا، وهو رأي السيد الخوئي حيث قال: وكيفما كان، فالروايات الناهية غير
نقيّة السـند برمّتها، بل هي ضعيفة بأجمعها، فليست لدينا رواية معتبرة يعتمد عليها
ليحمل المعارض على التقيّة كما صنعه صاحب الحدائق. وأمّا الروايات المتضمّنة للأمر
واستحباب الصوم في هذا اليوم فكثيرة..... فالأقوى استحباب الصوم في هذا اليوم من
حيث هو كما ذكره في الجواهر أخذا بهذه النصوص السليمة عن المعارض كما عرفت.
وهو رأي جماعة ممن ذهب إلى الاستحباب وأطلق، أي لم يقيّد بحزن أو
بتبعيض.
وممن اللطيف ما قاله المحقّق أبو الحسن الشعراني في "تعليقة
على كتاب الوافي": وقد يتفق لبعض الرواة الغالين في عداوة المخالفين
والمبالغين في خلاف المنحرفين عن أهل البيت عليهم السلام أن يجاوزوا الحدّ،
ويلزموا أمورا من غير عمد ليخالفوا أهل الخلاف تدعوهم إلى ذلك شدة علاقتهم
بالتشيّع، كما نرى جماعة في الأعصار المتأخرة ينكــرون استحباب صوم عاشوراء
مــــــع الاتفاق على استحبابه ليخالفوا المخالفين .......
ومع هذا؛ فإنّ القول بجوازه لا يمنع من النظر إلى أنّ هناك من حرّف
فبالغ في تعظيم هذا اليوم وعدّه يوم فرح ليس بحسب ما يقتضيه الدليل، بل مناوأةً
للشيعة وردّاً عليهم. أي حاول أن يحرف أثر عاشوراء من خلال جعل هذا اليوم يوم فرح
و سرور، وقد شاع هذا الأمر للأسف في الكثير من بلاد المسلمين، و قد رويت في ذلك
روايات نسبت إلى النبيّ (ص) فيها: من وسّع على أهله يوم عاشوراء؛ وسّع الله عليه
سائر سنتهِ.
وقد ردَّ أهل العلم ذلك بضعف الروايات، وممن ضعفها ابن تيمية
وجمهور أهل العلم ( راجع اللئالى المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي وميزان
الاعتدال في نقد الرجال للذهبي ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيتمي والصواعق
المحرقة على أهل الرفض والضلالة والزندقة لابن حجر ). وقد شاع هذا بين الناس وصار
بالفعل يوم فرح وسرور عند كثيرٍ من المسلمين وكثير منهم لا يعلم أصلَ هذا الأمر
ويتصوّر أن فيه روايات وردت بفضله ولا يعرف المغزى من ذلك، وقد نظمت فيه الشعراء.
بل لقد كتب بعض علماء الشافعيّة وهو البديري الحسني الشافعي الدمياطي كتابا في ذلك
سمّاه: إرشاد العمّال إلى ما ينبغي في يوم عاشوراء وغيره من الأعمال.
كما كانت العامّة تحتفل به على النحو المذكور، بل رغم سقوط بني
أميّة وتعاقب الدول، فقد بقي الحُكّام حريصين على الاحتفال بذلك اليوم، وكلُّ ذلك
لكي لا تلتفت إلى يوم عاشوراء وما يحمله من قيمٍ حقيقية عظيمة وهي بالتأكيد لا
يمكن فصلها عن جو الحزن. قال ابن كثير: وقد عاكس الرافضةَ والشيعةَ يوم عاشوراء
النواصبُ من أهل الشام، فكانوا في يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون ويتطيّبون
ويلبسون أفخر ثيابهم، ويتّخذون ذلك اليوم عيدا يصنعون فيه أنواع الأطعمة، ويظهرون
السرور والفرح يريدون بذلك عناد الروافض ومعاكستهم.
كما ذكر المقريزي أنّ الأيوبييّن كانوا يحتفلون يوم عاشوراء، حيث
ذكر فعل الفاطميين يوم عاشوراء وما فعله الأيوبيون بعدهم من اتخاذه يوم سرور.
لكن رغمّ ما ورد في جواز صيام هذا اليوم، فلا يمكن قطعاً أن يكون
ممن في قلبه سرور لما أصاب أهل البيت في مثل هذا اليوم. لذا قال الخوئي وأحسن:
نعم، لا إشكال في حرمة صوم هذا اليوم بعنوان التيمّن والتبرّك والفرح والسرور كما
يفعله أجلاف آل زياد والطغاة من بني أميّة من غير حاجة إلى ورود نصّ أبداً، بل هو
من أعظم المحرّمات، فإنّه ينبئ عن خبث فاعله وخلل في مذهبه ودينه، وهو الذي أشير
إليه في بعض النصوص المتقدّمة من أنّ أجره مع ابن مرجانة الذي ليس هو إلاّ النار.
فمن صام بهذا اليوم بنيّة الفرح ولو بطّنها فهو إما أحمق جاهل أو
آثم، وهو بأيّ حال مخالف لما فرض الله على الأمة من حقّ النبيّ (ص) وما ورد في قول
الله تعالى: ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى ) ولوصيّة النبيّ (ص) في آل بيته.
وأعتقد أنّ صيامه إنما يكون بقصد القربة وحسب، فمن صامه باعتباره
يوم بركة فهو إما آثم إنّ كان فرحا بما أصاب آل البيت في ذلك اليوم، أو جاهل وحسب
إن صامه تبعا لما سمعه أو عرفه. وأما صيامه على وجه الحزن فلا وجه له، وكذا
تبعيضه، لا سيّما وأن الرواية التي أثبتت الاستحباب لم تذكر ذلك.
وبأي حال فإن المسالة اجتهادية، ولا ينبغي اتهام من يختلف معنا أو
من يصوم أو من يفطر، فلكلّ وجه فقهي... والله اعلم
0 تعليقات