بقلم إبراهيم ديسي
انتشرت في السنوات الأخيرة ادعاءات تقول بعدم تاريخية مدينة مكة و
عدم ارتباطها بنشأة الإسلام، لذلك سأعرض عليكم بعض الشهادات التاريخية الخارجية
التي يعتمد عليها الباحثون و المستشرقون المتخصصون في تاريخ جزيرة العرب لإثبات
تاريخية مكة ,
و سأخصص المنشور الأول عن الشهادات الرومانية و اليونانية عن مكة
قبل الإسلام
الشهادة الأولى :
ديودور الصقلي Diodorus of Sicily (المتوفى سنة 30 قبل الميلاد).
و هو مؤرخ روماني ذكر بيتاً في جزيرة العرب يتعبد إليه العرب
ويُقدِّسونه , وأنه يقعُ ما بيْنَ الثموديين والسبأيين .. وقد ذهب العديد من
المؤرخين لترجيح أن هذا البيْت هو الكعبة , فمعلوم أن الثموديين سكنوا شمال الحجاز
في مدائِن صالِح (الحجر : تابعة حاليا لمحافظة المدينة المنورة) . ومعلوم أن
السبأيين سكنوا في جنوب الحجاز , في بلاد اليمن في الجنوب الغربي من جزيرة العرب
.. فعليْهِ يكون هذا البيت الذي يُقدِّسُهُ العرب يقعُ في الحجاز غرب جزيرة العرب
, في منتصفِ الطريق بين الشمال والجنوب , وهو موقِعُ الكعبة بيتُ الله الحرام الذي
أجمَعَ على تقديسِها كل العرب. ونص ما كتبه ديودور الصقلي كالتالي "وساكنوا
هذه الأرض قرب الخليج والمعروفين ببني زومين, يحصلون على طعامهم عن طريق صيد
حيوانات الارض ويأكلون لحمها. وهيكل أقيمَ هناك وهو مقدس جدًا ويوقره العرب إلى
أقْصى حد".
Diodorus of
من أهم المؤرخين الذين ذكروا ان ديودور يقصد في كلامه هذا الكعبة :
1- جرجي زيدان : الذي نقل لنا كلام ديودور فقال "ووراء أرض
الأنباط بلاد بني (زومين) وفيها هيكل يحترمه العرب كافة احتراماً كثيراً" ,ثم
علّق جرجي زيدان وقال : " فلعله يريد الكعبة, وأما بنو زومين فربما أراد بهم
جرهم أو غيرهم من قبائل العرب التي تولت مكة. "
جورجي زيدان - كتاب العرب قبل الإسلام صفحة :256.
2- المؤرخ الانجليزي إدوارد جيبون Edward Gibbon المتخصص في التاريخ الروماني يؤكد أن الكعبة
أقدم من المسيحية فيقول : "إن القِدَم الأصيل للكعبة يتعدى العصْر المسيحي :
ففي وصْفِهِ لشاطيء البحر الأحمر فإن المؤرخ اليوناني ديودور الصقلي لاحَظَ وجود
بيتٍ شهيرٍ (هيكل) بيْن الثموديين والسبأيين حيُْث أن منزلته وقداسته محفوظة بين
كل العرب"
Gibbon's Decline And Fall Of The Roman
Empire, Volume V, Everyman's Library,
3- جماعة من المستشرقين وافقوا المؤرخ إدوارد جيبون أمثال :
Perceval de Caussin, Ley and Krehl
4- المستشرق الأسكتلندي السير ويليام موير W. Muir في كتابه حياة محمد يرى ان هذا البيت الذي
عناه ديودور لا يعني الا الكعبة "لأننا لم نعلم اي بيت قدسه العرب جميعاً
غيرها"
W. Muir, "A Life of Mahomet and
History of Islam to the Era of the Hegira", 1st ed.
5- المستشرق الهولندي رينهارت دوزي Reinhart Dozy
إن كان لايرى ان هذا البيت يُراد به الكعبة , إلا أنه في كتابه
"بني اسْرائيل في مكة"
R. Dozy, Die Israeliten zu Mekka, S. 13
يرى أن ديودور يتكلم عن معبد من تلك المعابد التي كانت منتشرة في
شمال الجزيرة العربية , وأن فيه دليل غير مباشر على تاريخية الكعبة , فمعرفة
ديودور بأن العرب يقدسون معبداً ما في زمانه ويوقرونه جعلته يظن أن هذا الأمر
متعلق بهذا المعبد كذلِك, فبالغ بوصْفه.
_____________________________________________
الشهادة الثانية :
بطليموس Ptolemy (المتوفى سنة 170
ميلادي)
عاش الجغرافي اليوناني كلاوديوس بطليموس في القرن الثاني ميلادي و
قد اهتم العرب والمسلمون بكتاباته مبكراً و قاموا بترجمتها إلى العربية وقد تعرض
إلى ذِكْرِ مكة في كتابيْهِ " الجغرافية" وكتاب "ملحمة
البلاد" ومما يُدل على ذلِك :
1- ما نقله لنا الجغرافي ياقوت الحموي - والذي عاش في القرن الثاني
عشر ميلادي – في معجمه الجغرافي الفريد "معجم البلدان" عن كتاب الملحمة
المنسوب لبطليموس قوله : "مكة بيت الله الحرام قال بطليموس طولها من جهة
المغرب ثمان وسبعون درجة وعرضها ثلاث وعشرون درجة وقيل إحدى وعشرون تحت نقطة
السرطان طالعها الثريا بيت حياتها الثور وهي في الإقليم الثاني أما اشتقاقها ففيه
أقوال.."
كتاب معجم البلدان لياقوت الحموي الجزء 5 الصفحة 181
.
2- وجاء في كتاب الجغرافية قوله عند سرده لبلاد وقرى العربية"
البلاد والقرى الموجودة في العربية السعيدة كالتالي :" ثم قام بتعدادها ,
وانتقل إلى منطقةِ أرض بني تميم, ( منطِقة حائِل في شمال غرب الجزيرة ) وذكر من
اسماء مناطِقها: "ثمان, سلمى , جُراد, المروت .. " , ثم انتقل إلى منطقة
تيماء , وذكر من قراها ومدنها " يثْرِب, وقران, وجي الرويْثة .. " ثم
الى مكة.
3- بعض المؤرخين والمستشرقين (الألماني كارل بروكلمان, موشي
بيرلمان ) يذكرون أن المراد بقول بطليموس : " مكربة “هو " مكة : مكان
الميلاد لنبي العرب (والتي يُسميها بطليموس "مكربة" ربما لأن مكرب حسب
العربية الجنوبية تعني "البيت" , "الهيكل" ) وتقع في الحجاز
شرق البحر الأحمر.
حيث ذكر بطليموس:
ثيما: تيماء في أقصى الشمال ثم ذكر جنوبها لاثريب: يثرب
و في أقصى الجنوب نجارا: نجران و جعل ماكورابا بين يثرب شمالا و
نجران جنوبا.
4- الجغرافي تشارلز فورستر Charles Forster في كتابه الجغرافية التاريخية لبلاد العرب : يرى أن ماكورابا هي
تحديداً, مكة , بل يؤكد ويستمر في كتابه لإثبات أن اصل التسمية كان "ماكورابا
بمعنى : مدينة الحرب" وأن مكة ماهي إلا اختِصار لهذه التسْمِية
5- المستشرق الهولندي أرند جان فنسك Arent Jan Wensinck في دائرة المعارف الإسلامية يعتبرها حقيقة
لا تقبل الجدل “a
fact
" أن مكة هي نفسها مكوربا التي ذكرها بطليموس.
6- المؤرخ العراقي " جواد علي" رجّح هذا القول في المفصل
فقال " وإذا صح رأينا في أن موضع "Macoraba" هو مكة، دل على أنها كانت قد اشتهرت
بين العرب في القرن الثاني بعد الميلاد, وأنها كانت مدينة مقدسة يقصدها الناس من
مواضع بعيدة من حضر ومن بادين، وبفضل هذه القدسية والمكانة بلغ اسمها مسامع هذا
العالم الجغرافي اليوناني البعيد، ودل أيضا على أنها كانت موجودة ومعروفة قبل أيام
"بطلميوس"؛ إذ لا يعقل أن يلمع اسمها وتنال هذه الشهرة بصورة مفاجئة
بلغت مسامع ذلك العالم الساكن في موضع بعيد, ما لم يكن لها عهد سابق لهذا العهد."
كتاب المفصل في تاريخ العرب لجواد علي الجزء 7 الصفحة 10
7- المستشرقة الفرنسية جاكلين شابي أستاذة التاريخ والدراسات
العربية , ذكرت أن مكة هي ماكورابا كما ذكرها بطليموس في جغرافيته.
8- بعض المؤرخين مثل (فازليف A. A. Vasiliev, راغوزين S. Ragozin) "مكة وهي "مكربة" في
الكتابات القديمة ".
___________________________________________
كل هذه الشهادات غيْضٌ من فيْض و قطر من بحر , ولا اريد ان اطيل
عليكم اكثر في سرد تعليقات الباحثين والمستشرقين الذين كتبوا في اثبات ذِكْرِ
بطْليموس ومعرِفَتِهِ لمكة المكرمة في القرْن الثاني الميلادي . ونقول أنه يصِح
ترجيحُ وجودِ مكّة إلى القرن الثاني ميلادي بل وما قبلها , فكما ذكر المؤرخ
العراقي جواد علي في كتابه الجزء 7 الصفحة 10 :
"ودل أيضا على أنها كانت موجودة ومعروفة قبل أيام بطلميوس؛ إذ
لا يعقل أن يلمع اسمها وتنال هذه الشهرة بصورة مفاجئة بلغت مسامع ذلك العالم
الساكن في موضع بعيد, ما لم يكن لها عهد سابق لهذا العهد."
هل من المصادفة أن تتواجد مدينة بنفس الأوصاف التي تداولها العرب و
المسلمون في نفس المكان ويبدأ اسمها بنفس الحرفين مكة / مكورابا
ثم تكون مدينة أخرى غير مكة ؟
.___________________________________________
الشهادة الثالثة :
المؤرخ الروماني أميانوس مارسيلينوس Ammianus Marcellinus
(المتوفى حوالي سنة 395 ميلادي)
و الذي عاش في القرن الرابع الميلادي اي قبل الاسلام بقرنين ونصف
على الاقل حيث ذكر 7 مدن من بلاد العرب منها "المدينة المقدسة hierapolis" الدكتورة المصرية آمال الروبي علقت
على هذا الكلام قائلة "إن المؤرخ أميانوس مارسيلينوس قام بوضع قائِمة لسبع
مدن في بلاد العرب الجنوبية ليس من بينها مكة أو مكو ربا ولكنه ذكرها بصفتها التي
اشتُهِرت بها كمدينة مقدسة Hierapolis لذلِك ذكرها بهذا الإسْم. إذا قمنا بعمل مقارنة بين المدن التي
ذكرها كل من أميانوس وبطليموس في الجانب الغربي من بلاد العرب نلاحظ أنها تكاد
تكون متماثلة فيما عدا قيام أميانوس بترجمة مدينة مكورابا التي ذكرها بطليموس
ووضعها تحت اسم المدينة المقدسة. لقد كان الفارق الزمني بينهما حوالي قرنين من
الزمان تغير فيها إسم ماكورابا إلى المدينة المقدسة لذلِك ذكرها تحت هذا الإسْم"
___________________________________________
الشهادة الرابعة :
السفير الروماني Nonnosos (القرن الخامس ميلادي)
و هو مبعوث الإمبراطور البيزنطي يوستنيان الأول الى مملكة كندة و
اليمن و الحبشة ذكر في احدى كتاباته مكان مقدس في بلاد العرب للاجتماع و هو مكرس
للألهة،
يجتمعون فيه مرتين في السنة , الأولى مدة شهر و الثانية مدة شهرين.
و خلال هذه الاجتماعات يسود السلام ليس فيما بين العرب فقط بل مع
الجميع بما في ذلك الحيوانات".
و في هذه الشهادة الرومانية القيمة اشارة الى نقاط مهمة تدل على
مكة و هي:
أولا:
اجتماع العرب اليها و يقصد بذلك حج العرب قبل الإسلام
ثانيا:
حرمة و أمان ذلك المكان حيث جاء في الاية 57 من سورة القصص :
"وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ
أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ
شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ"
و قد ذكر البيت الحرام و المسجد الحرام في القران في اكثر من مناسبة.
ثالثا:
امتناعهم عن القتال خلال فترة الحج و يقصد بذلك الاشهر الحرم
رابعا:
امتناعهم عن التعرض الى الحيوانات اثناء الاجتماع و يقصد بذلك حرمة
الصيد وقت الحج
جاء في سورة المائدة الأية 2 :
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ
اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا
آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ
وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا".
و في سورة المائدة الآية 97
"جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا
لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ"
و في سورة البقرة الآية 217
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ
قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ
و يمكن إضافة الوصف القراني لمكة إلى هذه الشهادات التاريخية حيث
جاء في سورة إبراهيم الآية 37 علي لسان نبيه ابراهيم: "رَّبَّنَا إِنِّي
أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ"
نفهم من هذه الآية ان إبراهيم أسكن ذريته في واد غير ذي زرع اي قاحل
و قد اشار النص القراني ان الثمرات يأتي اليها عن طريق التجارة
(رحلة الشتاء و الصيف) مما يدل على خلو أو قلة الثمرات المحلية.
و نفهم نفس الشيء في سورة الإسراء عندما قال المعترضون على محمد
"وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ
الأَرْضِ يَنْبُوعًا* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ
فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا*
و نفهم من هذه الآيات ان مكة لم تكن إطلاقا أرض زراعية خصبة بها
عنب و حدائق غناء لذلك طلب المعترضون على محمد ان يأتيهم بما ليس عندهم إطلاقا و
يقصد بذلك العنب او عندهم القليل منه و يقصد به النخيل و ذلك لتعجيز محمد
و يتّضِح لنا من كل هذا أن إدعاء عدم وجود مكة قبل الاسلام هو
تعميم جاهل ومغالطةُ مستهتِر لم يكلف نفسه عناء البحث في ما كتبته الأمم السابقة
كالرومان و اليونان قبل الإسلام
2 تعليقات
قصة النبي ابراهيم وهاجر وإسمَعيل تعود إلى 4000 سنة مضت ،آنذاك لم تكن هنالك مدينة تُسمّى مكة ولم يكن هنالك كعبة .
ردحذفكفى جهلاً
هل لديك سند تاريخيا بعدم وجودها ؟؟؟
ردحذف