عز الدين البغدادي
كل ثورة تتباين فيها الآراء، بين من يؤيدها وبين من يعارضها لأسباب
مختلفة، وتقييمها الحقيقي هو ما يبقى منها في وجدان الشعب وما يسجله التاريخ عنها
لاحقا.. قرأت مرة أنه عندما حدثت ثورة البراق في فلسطين سنة 1936 عارض كثير من
الفلسطينيين الثورة واتهموا من شاركوا فيها بأنهم طائشون ومندفعون وغير ملتزمين
دينيا.
وقبلها حدثت في العراق ثورة العشرين، وكان هناك المؤيد والمعارض،
بين من يرى أنه يفكر بطريقة برغماتية وبين من يرى أنه لا مناص عن خيار الثورة
لتحقيق الاستقلال.
سيكتب التاريخ عن ثورة تشرين بأنها الثورة التي عبرت عن الشعب، عن
روحه، عن ارادته، ثورة اشترك فيها الرجال والنساء، شارك فيها الأطفال، شارك فيها
الفقراء والأغنياء الذين تبرعوا أموالهم والعجائز اللائي كن يصنعن الطعام، الشابات
اللائي قدمن صورة راقية للمرأة العراقية. حتى ذوو الاحتياجات الخاصة شاركوا بشكل
مهم في الثورة، مسيرة الصم والبكم، مسيرة للمكفوفين.
أساتذة الجامعات، مع طلابهم، الفلاح مع العامل، رجل الدين والمثقف،
الطبيب مع الفنان، الأديب والإعلامي، حقيقة حقيقة كانت تعبيرا عن الواقع العراقي
وكانت تمثل إجماعا على رفض الفاسدين.
العشائر كان لها موقفها المشرف، كثيرون من منتسبي القوات الأمنية
الذي كانوا يذهبون في فترات اجازتهم للمشاركة في التظاهرات الى ساحة التحرير،
أبناء الحشد الحقيقي الذين كانوا يرسلون رسائلهم وهم يهتفون: علينا السواتر وعليكم
التظاهر، حتى بعض الجهات الدينية أعلنت تضامنها مع المظاهرات لأنها أرادت أن لا
تتأخر عن الحدث.
الشعب كله في جهة، والفاسدون في جهة أخرى ومعهم فقط المتفعون منهم
أو المغترون بأكاذيبهم والعاملون لمصالح دول أجنبية..
كانت حقا ثورة أرعبت السلطة، وهزت وجودها، شباب لا يخافون من
الموت، ولا ترهبهم وسائل القمع.
الا ان هذه الثورة شوهت مبكرا من قبل أحزاب السلطة، من خلال اللعبة
الإعلامية القذرة من جهة، وباختراقها من جهة اخرى، فضلا عن الظروف الخارجية (وباء
كرونا) كل ذلك اضعف اندفاع الثورة كما تم استغلال أهم مشكلتين عانت منهما الثورة
وهما:
مشكلة عدم وجود قيادة: وهذه مشكلة حقيقية وكبيرة، لم تفرز الثورة للأسف
قائدا قويا يملك كاريزما قيادة قادرة على أن تقودها، ربما نها كانت حراكا اجتماعيا
عاما، لكن هذا في النتيجة خلل موجود للأسف لكن أبناء الثورة لا يتحملون مسؤوليته،
فالقيادة إفراز مجتمعي ربما يحتاج وقتا اكبر لكي يظهر.
والثانية: مشكلة الهوية وذلك بسبب الظلم الذي وقع على الشعب من الأحزاب
الإسلامية حدث نفور كبير من الدين بل ومن اي انتماء واسع، وقد ظهرت للأسف مظاهر
غير صحيحة من بعض الشباب، وهم شباب يملكون الكثير من الغيرة والوطنية لكن غالبهم
لا يملك رؤية سياسية بعيدة، هناك من وثق بالأمريكان أو بعض منظمات المجتمع المدني
المشبوهة، وهناك من اغتر وتأثر ببعض الهجمات الثقافية ضد الإسلام والعروبة وصار
يتبناها. لم يحسن كثير من الشباب فهم قضية الهوية، نسي ان السلطة الفاسدة تسيطر
على الناس منذ 17 سنة عن طريق قضية "الهوية" تحمل الناس الجوع والفقر
والجهل وانعدام الخدمات لأجل الهوية التي أحسن الفاسدون استغلالها، فكيف يمكن
تجاهلها؟
أنت ثائر حسنا، لكن اي ثورة لا تحمل رؤية دولة فلن تنجح، وأي ثورة
لا تحمل تحديدا للهوية فلن تنجح، نعم ربما يقطف ثمارها شخص او جهة ما لاحقا.
بأي حال، الثورة لم تنته ولن تنتهي لسبب بسيط، لأن أسبابها لا زالت
موجودة، الدولة وصلت الى الصفر اقتصاديا وصارت لا تستطيع دفع رواتب موظفيها، هناك أجيال
جديدة تخرج الى الفضاء السياسي بوعي جديد، بوعي لا تملك السلطة بادواتها التقليدية
قابلية السيطرة عليها.
الذين فرحوا بانتهاء الثورة، والذين يفركون ايديهم فرحا وهم يرون
الجرافات تزيل الخيام، وهم يرون خراطيم المياه تغسل دماء الشهداء من ارضية ساحة
التحرير عليهم ان يفكروا بعقولهم لا بعقول غيرهم، وعليهم ان يفهموا بان الثورة لا
تغسلها خراطيم المياه، وان الثورة لا تكتسحها الجرافات.
وبأي حال فأنا اعتقد ان ما حصل يحتاج الى وقفة، والى قراءة للحدث،
والى استفادة من الدروس التي حصلت.
والله المستعان
0 تعليقات