أحمد برهام
الآثار الأمنية والثقافية للترييف
قد يبدوا غريبا الجمع بين الأمرين ، لكنى على يقين أن الثقافة فى
مصر بطبعها جبانة، ولا تقوى على أن تخطوا خطوه للأمام بدون الرضا الامنى عنها !
هناك طبعا آثار أمنيه نتيجة هذا الزحف غير المقدس والعشوائى ضعفت قوة الدولة وسيطرتها على عشرات المناطق فى
المدن المصرية وأصبحت بعضها خارج سيطرة القانون !!
تضاعف الإحساس لدى المواطن بانعدام وجود الدولة و عدم أهميتها ،
واستغلت الجماعات الإرهابية هذا الأمر فى فرض سطوتها ونفوذها كبديل يشعر المواطن بالأمان
النسبي والولاء المطلق .
وجدت تلك الجماعات فى عملية الترييف بيئة خصبه ومناسبة تماما
لاستقطاب الأعضاء !!!
فكما سبق ان أوضحنا ، فان ما تقدمه هذه الجماعات من تصور للدين ،
هو فى حقيقة "" الجزء الشخصي "" منه عملية تقنين دينى للأعراف
المتبعة فى المجتمعات المنعزلة والمنغلقة (يعنى بالبلدى صبغ العادات الريفية بصبغه
دينيه ) ، وهو ما ينطبق بسهوله على المجتمع الريفى والبدوى ، ويصعب تطبيقه على
المدن ذات الطبيعة الأكثر تنوعا وأكثر خصوصية وانفتاحا ، باقي الأجزاء التى تقدمها
تلك الجماعات هى إحلال لدور الدولة أو الوطن بأفكار أخرى كالخلافة والحاكميه ..الخ
وهى كما قلنا أيضا لم تعد ذات قيمه كبرى لدى مواطن العشوائيات ، سواء بقى فى
العشوائيات أو أصابه الترقى الاجتماعى فانتقل ماديا الى وسط ارقي ، لكنه بقى بنفس
منظومة الأفكار و القناعات ، وحتى مع نشأة فكرة الكومبوندات ، فان هذا المواطن
المترقى ، انتقل لها ، وحولها الى مستعمره ريفيه الثقافة قسرا بنفس منطق المزايدات
الذى احترفه ، فهو قادر على فرض تصوراته على الجميع من خلال المزايدة عليهم ، أو إرهابهم
بتدينه السطحى ، مستغلا الخوف الفطرى لدى الإنسان من الإله ، والضعف العام لدى الغالبية
فى النقاش و المجادلة بالتى هى أحسن ، ويتصور انه بهذا الأسلوب ، أصبح داعية الى
الله ، ولا يعلم انه ينفر الناس تدريجيا منه ومن الدين والأخلاق عموما ، حتى تسمعه
بعد ذلك يشتكى من انتشار وتفشى الإلحاد تارة ، أو انحلال الشباب تارة أخرى ولا
يتصور لحظه انه ساهم فى هذا بمنظومته المتضاربة المتناقضة!!!
أريدك ان تتذكر ان الترييف وصل لكل أجزاء هرم الدولة المصرية ،
وتمكن بشكل كامل من التشريع ( مجلس الشعب اغلبه أعضاء ريفيي الثقافة ويخاطبون
جمهورا اغلبه كذلك ) ما نتج عنه ( ترييف فى التشريعات ) فتجد قوانين تبدوا وكأنها
تفرض رؤية معينه لا تختلف فى اى شىء عن (( الثقافة الريفية )) ورؤيتها لكل شىء
ثقافى أو فنى ، كما ان ترييف (( القضاء )) بفضل ما شرحناه من عمليات التعيين السهلة
من خلال بعض أعضاء مجالس نيابيه سابقه لأعضاء النيابة من قراهم ، نتج عنها أيضا
تطبيق ((ريفى)) للقانون وتفسيرات (( ريفيه )) لنصوص بطبيعتها حمالة أوجه ، وهو ما يتضح
يوما بعد يوم فى إجراءات تتم فى اتجاهات معينه تثير دهشة الجميع وتبدوا فرضا لثقافة
شديدة الرجعية والحقيقة هى فرض ((لثقافة الريف الذى ينتمى له نسبه كبيره من
العاملين فى كل أركان الدولة )) !!
يعنى هو ليس تنفيذا للقانون أو روحه بقدر ما هو تنفيذ لرؤية هؤلاء الأفراد
وانعكاس لثقافتهم الشخصية ، وآراءهم فى حياتهم وليس لثقافتهم القانونية !!
ولهذا انتشرت عمليات إلقاء القبض على أشخاص بتهم تبدوا شديدة الغرابة
فى الثقافة المدنية ، و إنما تبدوا مفهومه تماما فى الثقافة الريفية وستجد دعما
وتهليلا وتصفيقا من جمهور واسع يمثل نفس هذه الثقافة!
لاحظ انه وقت الهجرة كان هناك حاله من الرهبة لدى الريفى المنتقل للمدينة
، انه يخشى كل شىء ، يخشى أهل المدينة ولا يثق فيهم ، ولا يثق حتى فى قدرته على
الانتصار فى مواجهة هذه المدينة الضخمة ، لهذا وجد فى النسخة الاخوانيه السطحية من
التدين ، ملجأ رائعا له ، أنها تقويه ، وتزيد من ثقته بنفسه ، لانها تمنحه اليقين
الذى لا يمتلكه إنسان ، اليقين بامتلاك أسرار الغيب و دعمه ، الثقة لامتلاكه (فى
تصوره) سلاحا اقوي مما يمتلكه سكان المدينة ""المنحلين"" ،
انه أداة تنفيذ الإرادة الإلهية ، انه حامل راية الدين ، انه جزء ولو بأفكاره من
""الجماعة المنصورة"" ، ويا لها من قضيه رابحه بلا شك فى اى
مواجهه !!!
هذا اليقين الذى يدفعه الى التصرفات التى تنتقدها اليوم بعنف ، حيث
تتعجب ، كيف وجد فلانا الجرأة ليحشر انفه فى شئونك أو شئون زوجتك أو ابنتك ، والحقيقة
انه وجد هذه الجرأة عندما علمه دعاة الجماعة هذا، وليصبح بعد ذلك مدينا لهم طوال
حياته بهذا الاستقرار النفسى المتحقق على أشلاء خصوصيات الآخرين و حيواتهم اذا لزم
الأمر !! لكن فى النهاية فكل هذا له أصل ريفى الثقافة كما تذكر وشرحنا فى الأجزاء الأولى
من السلسلة !!
وهناك المزيد من الآثار الثقافية فجوانب الحياة الثقافية تجرفت
بعنف ، فالريفى بسيط التفكير بطبيعته لا يؤمن لا بالثقافة ولا بالأدب ولا الفن و
لا السينما ولا الدراما ، كل هذا بالنسبة له سفسطه ومظاهر انحلال و باب لدخول
الفساد والشيطان ، هو لا يقرأ كثيرا ، وان قرأ لا يفهم غالبا عمق ما قرأ ، صحيح
انه ظهر من الريف المصرى أدباء و مثقفين و مفكرين ، لكن ما كان لمواهبهم ان تنموا
فى الريف المحافظ التقليدى ، بل ازدهرت فى المدن ، خصوصا عندما رافقها امتصاص حضرى
لهجرتهم ، وصبغتهم بصبغتها وطورتهم الى تنوعها ، ولهذا كنت تجد مصر غنيه بالمفكرين
والمثقفين فى فترات سابقه ، الريف معين لا ينضب من المواهب ، لكنه لا يصلح لإنضاجها
ولا لتهذيبها ، هذه مهمة المدينة بكل ما فيها من تنوع !!
لكن عندما اجتاحت الهجرات الريفية المدن و فشلت الأخيرة فى عملية
التمدين ، وتحولت الى الترييف ، فشلنا فى تكوين عدد كافى من الأدباء والمفكرين
والمثقفين لان المجتمع ذو الصبغة الريفية بطبيعته شديدة التقليدية المحافظة ، لا
يسمح بالإبداع ولا يقبله ولا يسيغه ، ولا يسمح الا بنوع واحد فقط ، هو ان تكون
قالبا مماثلا لاخاك ، لا يتسامح مع الاختلاف فى الفكر والرأي كما يتسامح المجتمع
الحضرى ، وبالتالى نتج عن عملية الترييف ، ان رأينا هبوطا عاما فى مستوى الثقافة ،
والأدب و الفكر والسينما ، وتحولت كل هذه لخدمة الأفكار و المعتقدات الجديدة السائدة
فى التحول الاجتماعي للمدن الى ريف اجتماعي كبير والنتيجة كما ترى ، تشابه يصل الى
حد التطابق ، أفكار مكرره فقيره ، خوف من التجديد ، اتهامات لا حصر لها لاى نوع من
الآراء المخالفة !!!
غالبا الريفى بسيط الذوق و الفكر ، ولهذا عندما سافر الى الخليج ،
كان كالوعاء الفارغ ، صدم هناك بوجود مستوى اعلي من الانغلاق و المزايدات الدينية
، وهو المتمرس فى المزايدة ، فجلس مبهورا بتلك الأدوات الجديدة ينهل منها ليعود
لبلدته يبهرها بالجديد الذى يتعلمه ، ولم يدر فى خلده أبدا ان هناك مستوى اعلي فى المزايدة
على ما تعود عليه ، و ان هناك تحفظا أكثر مما اعتاده ، لكنه يبقى يحن دوما لحياته القديمة
، ولا يدور فى خلده أبدا انه وقع ضحية عدم الفهم لطبيعة "" الفقه
"" ..... وان ما يناسب مكانا و مجتمعا ما ، قد لا يناسب غيره ، فيبقى
دائما مشدودا على وتر بين هذا وذاك ، يخشى الزلل فيقفز الى أقصى حدود التشدد ، و
يحن الى حياته البسيطة القديمة فيرخى الشد قليلا ، وهكذا ما نتج عنه هذا التشوه
الممسوخ الذى نحياه!!
حتى فى الجانب الفنى أو الثقافى من الدين ، زى قراء القران مثلا ،
وهو فن يكاد يكون مصريا بشكل احتكاري حقيقى، بدأ فى الاندثار بسبب هذه التغيرات ، لأنه
ببساطه كان غير مقبولا فى المجتمع الصحراوى المنغلق ان تكون هناك قراءه مختلفة عن الأسلوب
الجاف الرتيب المتبع هناك ، واى مقارنه بسيطة بين القراء هنا وهناك ستعرف ان
الفارق شاسع ، لكن الأذواق مختلفة ولا بأس فى هذا ، فالذوق المصرى لم يكن يتقبل
سوى ذلك القارىء الفنان المتشبع بعلم المقامات الموسيقية، واليوم بسبب عملية
الغسيل العقلى التى تعرض لها هذا الذوق أثناء سفره وراء لقمة العيش ، أصبح معتادا
على القراءة الرتيبة الخالية من الفن ، فقد تم تمويلها بشكل جيد من ملاك القنوات
وشركات الإنتاج الذين فرضوا ذوقهم الذى اعتادوه وتناسب مع بيئتهم ، على الجميع ،
فانهارت الصنعة وأصبحت كما ترى ، خاليه من الإبداع ، كله شبه كله كما نقول !!
كل هذا يسهل تفسيره للغاية إذا فهمنا طبيعة المجتمع الريفى الذى
تكون فى قلب مدننا الحضرية وأصبح الجمهور المستهدف ، وأضحت العملية الثقافية كلها أفقر
يوما بعد يوم لافتقارها قبول التنوع !!
تزايد الحوادث الطائفية صوره أخرى من صور التعصب ، والذى لا ينتج
الا نتيجة لما سبق ان وصفناه من الافتقار لقبول الآخر والتنوع ، وهى صفه مجتمعات منغلقة
بامتياز ، ونتيجة سهل تصورها ، لكننا نحب ان نتغاضى عن سبب الحقيقي لأنه لن يعجبنا
، فلم تكن هذه أحوال المدن المتروبوليتانيه أبدا قبل عملية الترييف المتواصل !!
يتبع ...........
0 تعليقات