د. محمد المنير احمد صفى الدين
هل لمصر يد فى استيلاء البرهان على الحكم فى السودان؟ هل كان إغلاق
شرق السودان غطاءا لنقل دعم عسكرى لمقاتلى التقراى لتغيير نظام الحكم فى إثيوبيا؟
هل ما يحدث فى السودان وإثيوبيا صنيعة مصرية الغرض منها الأمن المائى لمصر؟
**
وجود مخرج للسودان من مأزق استيلاء المؤسسة العسكرية على الحكم
مؤخرا يتطلب فهما عميقا لجذور وأهداف هذا التحول الخطير. فى سلسلة من المقالات
المختصرة جدا، سأحاول مشاركة القارى بعض التحليل للمشكلة وجذورها ومن يقف وراءها
وما هى أهدافه حتى نصل لطرح عملى للحل.
فى تقديرى أن الانقلاب العسكرى الذى وقع فى السودان يوم 25 أكتوبر
2021 صناعة مصرية ومقدمة لإحداث تغيير فى نظام الحكم وميزان القوة داخل إثيوبيا
بغرض حماية الأمن المائى لمصر.
دعونا نرجع بالوراء ونتمعن خطاب وزير الخارجية المصرى أمام مجلس
الأمن الدولى فى 9 يوليو الماضى فيما يتعلق بتعنت إثيوبيا وإصرارها على القرار
الاحادى بملء المرحلة الثانية من سند النهضة الذى أنشاته اثيوبيا على النيل الأزق.
وصف وزير الخارجية المصرى القرار الإثيوبي بانه “مهدد وجودى” لمصر التى تضم أكثر
من مائة مليون نسمة، وهذا منطق يتفق مع المقولة المعروفة بأن مصر هبة النيل.
“
ثم عرض وزير الخارجية المصرى باسهاب كل الجهود التى بذلت للوصول
الى تسوية مع اثيوبيا مرضية لاطراف النزاع حول مياه النيل الأزرق وكيف أن اثيوبيا
قد رفضت كل الحلول وتسعى لفرض الأمر الواقع بتحويل النيل الأزق لبحيرة تمتلكها
اثيوبيا، وقال ان مصر ليس فى مقدورها ولن يكون فى مقدورها ان تتسامح مع هذا الوضع.
والعبارة التى استخدمها وزير الخارجية باللغة الإنجليزية تحتوى على تهديد غير مبطن.
“This is a situation that
ثم مضى الوزير ليقول لمجلس الأمن أنه فى حالة تعريض حقوق مصر فى
النهر للخطرأو تعريض بقائها للخطر، فانه لن يكون أمام مصر اى خيار سوى التمسك
بحماية حقها فى الحياة الذى ضمنته قوانين وأعراف الأمم وحتمية الطبيعة. وفى تقديرى
أن حتمية الطبيعة تعنى “البقاء للاقوى”.
“Otherwise, if its riparian rights are
jeopardized or if its survival is imperiled ……
ونحن نعلم أن مجلس الأمن لم يصدر قرارا حاسما يرد التعنت الإثيوبي
ويشفى غليل مصر. فى بداية الأزمة المتعلقة بسد النهضة تردد فى بعض الأجهزة
الإعلامية فى مصر أن مصر قد تلجأ لعمل عسكرى لوقف تصرف إثيوبيا الأحادي. ولم يمضى
وقتا طويلا إلاّ ورأينا عودة النزاع العسكرى العرقى فى إثيوبيا بين التقراى
والأمهرة. وبغض النظر عن أسباب عودة هذا النزاع لأسباب إثيوبية داخلية أو لتدخل
خارجى، فإن القيادة الإثيوبية لم تحسن إدارة الأزمة الداخلية ومضت فى اتجاه القمع
العسكرى لإقليم التقراى مما أفسد عليها سمعتها ومكانتها فى المجتمع الدولى وجرّ
عليها اتهامات قوية بارتكاب انتهاكات وجرائم يعاقب عليها القانون الدولى. وفى
تقديرى أن تجدد النزاع العرقى المسلح فى اثيوبيا يمثل فرصة استراتيجية لمصر فى وضع
حد لسياسات حكومة ابى أحمد تجاه مياه النيل الأزرق. ومن جهة اخرى، فان الأخبار عن
زيارات مصرية ذات طابع عسكرى ومخابراتى للسودان لم تتوقف ابدا وكلها كانت تشير من
قريب أو بعيد لأزمة مياه النيل الأزرق.
بينما كانت كفة النزاع العسكري فى اقليم التقراى ترجح فى اتجاه
أديس أبابا، تفجرت الاحتجاجات فى شرق السودان ضد حكومة حمدوك وتسارعت الأحداث لتصل
مرحلة الإغلاق الكامل لميناء بورتسودان والطريق البرى الذى يربط شرق السودان
بالخرطوم. من العلوم أن احتجاجات شرق السودان والتى وصلت حد التمرد على الحكومة
المركزية فى الخرطوم كانت بقيادة شخص محسوب على حكومة الإنقاذ التى أطاح بها الشعب
السودانى. وعلى الرغم من أن احتجاجات شرق السودان وصلت حد التمرد على الحكومة
المركزية وشكلت تهديدا حقيقيا لأمن السودان الإقتصادى وألحقت ضررا بالغا بمعيشة
المواطن السودانى، فان القيادات العسكرية فى السودان وقفت متفرجة وربما مباركة
لأحداث الشرق. بينما تواجه الأجهزة الأمنية والعسكرية الشباب الذين يسدون الطرق
داخل الخرطوم كشكل من الإحتجاح بالعنف المفرط الذى وصل حد القتل بالرصاص، لم تحرك
هذه الأجهزة ساكنا تجاه إغلاق الميناء البحرى الرئيسى ولقطع “شريان الشرق”
وهوالطريق البرى الذى يمد كل السودان بالواردات وعبره تمر الصادرات الحيوية.
فلماذا هذه المفارقة؟
للإجابة على هذا السؤال المشروع، دعونا نعود للتغير المفاجئ فى
ميزان القوة العسكرية بين الجيش الحكومى واقليم التقراى فى إثيوبيا. لم تمر سوى
بضع أسابيع من الإغلاق الكامل لشرق السودان إلاّ وقد تحول مقاتلى التقراى من موقف
الضعيف المحاصر الذى منعت منه القوات الإثيوبية حتى المعونات الإنسانية واشتطت فى
قتل رجاله واغتصاب نسائه الى موقف المهاجم الذى بات قاب قوسين أو ادنى من دخول
العاصمة الإثييوبية، أديس أبابا.
من المنطقى أن نستنتج أن
الإغلاق الكامل لشرق السودان من قبل بعض العناصر التى تدعى الإحتجاج على سياسات
حكومة حمدوك، كان الغرض منه خلق غطاء وتعتيم لنقل مؤنا وعتادا عسكريا لإقليم
التقراى المتاخم لشرق السودان ومن الراجح ان يكون هذا الدعم الذى وصل ربما من مصر
للتقراى هو من غير موازين النزاع المسلح داخل إثيوبيا. دعونا نؤكد أن الموقع
الجغرافى لإقليم التقراى وموقف أريتريا كطرف مساند لأديس أبابا يجعل وصول اى دعم
عسكرى لإقليم التقراى مستحيلا إلاّ عبر شرق السودان. ومن البديهى أن الحكومة
المدنية فى الخرطوم وحاضنتها السياسية (قحت) ما كانت لتشارك فى اى عمل ضد ابى أحمد
نسبة للدور الذي لعبه لوصولهم الى السلطة المدنية فى السودان. لذا كان لزاما أن
تزاح الحكومة المدنية عن الطريق لفتح السودان وحدوده لدعم مقاتلى التقراى.
ماهى دلالات هذا التحليل؟
أولا: يبدو أن السودان دخل أمنيا وسياسيا مرحلة جديدة خطيرة جدا
حيث أن بعض السودانيين ربما قد جعلوا قرارت تتعلق بسيادة السودان وشأنه الداخلي فى
يد قوة خارجية لا يهما أن يحترق السودان من أجل بقائها. وهذه المرحلة تختلف تماما
عن المرحلة السابقة التى جعلت بعض السودانيين يقبلون التدخل فى الشأن الداخلى لدول
أخرى وزعزعت أمنها واستقرارها لمصلحة طرف
ثالث. كما يقو أهل السودان باللغة العامية، “الكلام دخل الحوش”.
ثانيا: إثيوبيا قد تكون على موعد بأن تتحول الى دولة فاشلة يسودها
الهرج والمرج، وقد يكون استقرارها مرتبط بضمان أمن مصر المائى بشكل لا رجعت فيه.
ثالثا: مآلات الوضع فى إثيوبيا سيكون لها انعكاسات سالبة ومباشرة
على الشأن السودانى أمنيا وعسكريا واقتصاديا وسيجد السودان نفسه طرفا أصيلا فى
النزاع العسكرى و استمرار تدفق الدعم العسكرى لمقاتلى التقراى لسنوات قد تطول.
رابعا: ما دام وضع سد النهضة معلقا دون حل يضمن أمن مصر المائى، لن
يكون لقحت أو أى قوة سياسية متعاطفة مع ابى أحمد فرصة لأن تكون ذات تأثير فى حكم
السودان.
خامسا: مالم يخرج السودان من معادلة أمن مصر المائى ويصبح قرار حكم
السودان قرارا داخليا تمليه ارادة الشعب، فإن السودان يسير فى اتجاه ما آلت اليه
سوريا واليمن وسيصبح دولة جديدة تتقاتل على أرضها قوى خارجية لا يهما إلا مصلحتها
بينما يحترق الشعب والأرض تحت أقدامهم.
0 تعليقات