هيثم أبو زيد
لعل الدرس الأكبر
الذي تفلت من بين أيدينا في زحام الضجيج المصاحب لوفاة الشيخ يوسف القرضاوي، يتمثل
في ضرورة أن ينأى عالم الدين، والمشتغل بالعلم الشرعي عن التورط في مستنقعات
السياسة.. فالضرر المترتب على هذا التورط أكبر كثيرا من كل المبررات التي يسوقها
المصرون على تناول الشأن العام وأمور السياسة والاقتصاد وعلاقات الدول من خلال
رؤية يزعمونها إسلامية، وليست في حقيقتها إلا مجموعة من الاختيارات الشخصية لشيخ
أو فقيه أو جماعة.
كان القرضاوي في
مقدمة مجموعة صغيرة جدا من الفقهاء المعاصرين، الذين اشتغلوا بالفقه اشتغالا حقيقيا،
لا اجترارا من مدونات السابقين، كان مشتبكا مع الواقع، مدركا لما يمكن أن يسببه
الانحباس الطوعي في بعض الأقوال المذهبية من مشقة وحرج وإعاقة لحركة المجتمع.. وظف
درايته الواسعة بالأصول واللغة والمذاهب الفقهية الأربعة أو الثمانية أو مذاهب
الصحابة أو اختيارات المجتهدين عبر تاريخنا الفقهي، واستخرج منها ما يناسب عصرنا،
أو استفاد منها في اجتهاد جديد يتجاوز به كل من سبقه.
لكن كل هذا ضاع تحت
دخان مواقفه السياسية، وولائه الذي لم ينقطع للتيارات الحركية عموما، والإخوان على
وجه الخصوص.. بدا الرجل وكأنه جبل ضخم من التناقضات، فبينما تجده أكثر الفقهاء
المعاصرين مراعاة لظروف الأقليات المسلمة في بلاد الغرب، متفهما لمعنى الدولة
الحديثة وقيم المواطنة، داعيا أعضاء الجاليات الإسلامية إلى الاندماج في
مجتمعاتهم، والالتزام بقوانين البلدان التي يعيشون فيها، والتعامل الطبيعي مع مؤسساتها
وبنوكها، والمشاركة في أحزابها وانتخاباتها.. نجده في مقابل هذا، ومع بوادر الربيع
العربي يمطر المنطقة بسيل من الفتاوى الدموية: يهدر دم حاكم، ويطلب العون من حلف
الناتو على حاكم آخر، يذم حكاما كال لهم من قبل المدائح العريضة، ثم يطلب من
أمريكا أن تقف "وقفة لله"!.. لينتهي به المطاف محرضا على الجيش المصري،
بعد الانتفاضة الشعبية العارمة التي أطاحت بحكم الإخوان.. مع ضرورة الانتباه إلى
أن الرجل لم يكن ليستعلن بهذا الموقف، لو أنه كان مقيما في السعودية أو الإمارات
أو سلطنة عمان.. كان للصدفة الجغرافية أثرها الكبير.
ويبدو أن كثيرا ممن
دبجوا مقالات الرثاء وكلمات العزاء يوم وفاة القرضاوي، لا يحبون في الرجل إلا هذا
الجانب السياسي والانحياز الحركي.. قل لي بربك: كيف يكون موقف هؤلاء لو أن دار
الإفتاء المصرية أصدرت فتوى رسمية تقول فيها بجواز أن يؤدي المسلم الأمريكي الخدمة
العسكرية بين قوات ذهبت لتحارب دولة عربية أو إسلامية؟.. أدر على ذهنك ردود
الأفعال المتوقعة، بل المؤكدة، ومرر على خاطرك الاتهامات الجاهزة بمحاربة الله
ورسوله ودينه.. لكن هذا الكلام لم يصدر إلا من القرضاوي، ولست هنا بصدد مناقشته،
أو قبوله أو رفضه، وإنما أشير فقط إلى أن المواقف كلها ترجع إلى "السياسة"
لا إلى الفقه أو الشريعة.
ولك أن تسرح بخاطرك،
فتتصور أن مقدم برنامج تليفزيوني، يوجه سؤالا للشيخ علي جمعة، عما يجب أن يفعله
المسلم إذا لم يعد هناك ذرة شك في "نظرية التطور"، فيجيبه الشيخ من فوره:
إذا صارت النظرية هكذا، فسنؤول نصوص الدين لتتفق معها.. أتخيلت الضجة؟
أتصورت الشتائم؟ هل
أمررت على ذهنك مظاهر السخرية والاستهزاء والإخراج من الدين؟.. لكن هذه الإجابة لم
تكن من الشيخ علي، وإنما صدرت عن القرضاوي.. ولمزيد الملل أكرر وأنا الملول:
لست بصدد مناقشة
إجابة القرضاوي، ولا موافقتها أو رفضها.
ولأن الشيخ اختار
بنفسه وعبر سنوات عمره هذا الانغماس السياسي، ولأن الجماهير العريضة، ومن بينها
وفي مقدمتها جمهور القرضاوي والجماعات الحركية يعطون للآراء السياسية هذه القيمة
الكبيرة عند وزن الأشخاص والعلماء والمفكرين والكتاب والفنانين.. فلا لوم على أحد
اليوم إن ذهبت تذكره بقيمة القرضاوي الفقهية أن يذكرك بورطاته السياسية.. ستقول له
"فقه الزكاة"؟ سيقول لك "وقفة لله يا أمريكا"..
ستقول له: "فقه
الأقليات"؟ سيقول لك "أنا المسؤول عن إهدار دمه"..
ستقول له "فتوى
بقاء المرأة التي أسلمت مع زوجها غير المسلم"؟
سيقول لك "تأييد
أردغان واجب".. ستقول: "الرهن العقاري"؟ سيقول: "فليتدخل
الناتو".
انتبه من فضلك.. إن
الفقه المذهبي التقليدي لا يمنح مكانة ولا تميزا..
فأن يصبح أحد العلماء
اليوم أستاذا متبحرا في الفقه الحنفي، أو أن يصبح شيخا للشافعية في بلاده، أو أن
يكون أشهر مالكي بين أبناء مذهبه، فإن كل ذلك لا يعطيه أي تميز خارج قاعات الدرس..
الدرس التقليدي الشائع الموروث المتاح المبذول.. وإذن، كانت الفتاوى القرضاوية ذات
الطابع "التقدمي" هي التي منحت الرجل مكانته في العالم الإسلامي.. لكن
المفارقة اللافتة، أن المنتمين إلى التيارات الحركية، وأغلب الباكين حزنا لوفاة
الشيخ، يرفضون هذه الفتاوى رفضا شديدا.. ويشنون غارات الشتائم والاتهامات إذا صدرت
أمثال لهذه الفتاوى من غيره.. تُرى؟ كيف كان سيتسع الانتفاع بالشيخ القرضاوي لو لم
يكن للرجل علاقة بمستنقع السياسة؟.
في كل ما سبق، لم
أقصد بالكلام عن الشيخ القرضاوي إلا تمثيلا، إذ الرجل هو النموذج الصارخ لأثر تورط
الشيوخ في السياسة.. لكن ما يسري على القرضاوي يسري على غيره، من مؤسسات دينية
وأفراد مشتغلين بالعلم الشرعي.. إن الدين يُصان ويرتفع، بقدر ارتفاع الحواجز التي
يقيمها علماؤه بينهم وبين الانغماس في السياسة... وقد أثبتت خبرة الأيام، وتقلب
الليالي، وتغير الأنظمة الحاكمة، أن "الحياد" السياسي هو الاختيار
الأمثل للمؤسسات الدينية ودور الفتوى وخطباء المنابر.
ليس مطلوبا، ولا
ينبغي للمؤسسة الدينية أن تؤيد الحاكم، ولا أن تعارضه، ولا أن يمارس رموزها دور
الناشط السياسي، ولا البطل الثوري.. السياسة تعني انقسام فوري، والانقسام يستدعي
التراشق والسخرية والنكات اللاذعة.. وبقدر وصف المواقف بالإسلامية، بقدر ما يكون
التكفير والتفسيق والاتهام بتمييع الدين.
دونك مثلا أقوله
مضطرا: في عام 2017، ومن غير دواع ملحة، أصدر الأزهر –عبر هيئة كبار العلماء- بيانا
قويا ضد "التطبيع".. وكما هو متوقع، لاقى البيان ترحيبا شعبيا واسعا،
كما نال إشادات متعددة من مختلف القوى السياسية، لاسيما التيار القومي الناصري.. ثم
كان ماذا؟ جاء عام 2020، وخلال أسابيع أعلنت 5 دول عربية عن تطبيع العلاقات مع
إسرائيل، فتطلعت الأنظار إلى موقف الأزهر، وانتظرت الجماهير بيانا قويا كالذي صدر
دون مناسبة قبل 3 سنوات..
لكن المؤسسة العريقة
التزمت صمتا مطبقا.. فبدأت التخمينات تنتشر عن أسباب الصمت، فأرجعها بعضهم إلى أن
الإمارات هي التي تقود هذه العملية التطبيعية، وأن الأزهر لا يقدر على إصدار كلمة
واحدة يُحتمل أن تسبب غضبا في أبو ظبي.
لم يكن الخطأ في
الإمساك عن إصدار بيان، وإنما كان الخطأ في إصدار البيان الأول.. ولولا صدوره، ما
انشغل الناس بعدم صدور البيان المنتظر.. لم لا تعتبر المؤسسة الدينية كل تلك القضايا
من باب السياسة، وتتركها إلى الحكام؟ ولم لا يتعلم الناس، أن من يريد أن يؤيد
التطبيع، فليؤيده بأسباب سياسية دون انتظار فتوى بالإباحة.. وأن من يريد ان يرفض
التطبيع، فليرفضه لأسباب سياسية دون الاعتماد على فتوى بتحريمه.. وها هي الأيام
تثبت أن الدول التي طبعت لم توقفها فتاوى التحريم، وان الدول التي ترفض لم تهتز من
فتاوى الإباحة..
لماذا؟ لأن القضية
سياسية صرفة.
وبسبب تجاوز المشايخ
لدورهم، وإصرارهم على قول رأيهم في كل شيء مع الزعم بأن رأيهم هو الدين، وحديثهم
المستمر في السياسة والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس، واعتقادهم أن خبرتهم المحدودة
ستقدم الحلول لكل مشكلة، فقط لأنهم يحفظون القرآن وبعض الأحاديث.. بسبب كل ذلك،
افتقدت المساجد الهدوء والسكينة، ولم تعد مصدرا لمنح الطمأنينة والصفاء الروحي.. وفي
كل يوم، تزداد أعداد من يقررون مقاطعة خطبة الجمعة، إما بترك الصلاة كلية، وإما
بتعمد التأخير إلى لحظة الإقامة التي نرى فيها الناس تجري في الشوارع لإدراك
الركعة الأولى.
دعك من مزاعم "الشمولية"
و"الأحكام الخمسة"، فهي –في هذا السياق- ليست إلا مبررا لتسلط الخطيب أو
الفقيه على الناس، ونقل قداسة الدين إلى خبرته المحدودة واختياراته الشخصية.
وأزعم، أننا نقوي
الدين، ونصونه، ونقوي المؤسسة الدينية، ونبقي على احترام العلماء، ونعظم الاستفادة
من اجتهادهم.. إذا عرف المتصدرون الدينيون طبيعة دورهم، وحدود مهمتهم.. وليس
أمامنا أوضح من نموذج الشيخ القرضاوي.. الذي لم يكن سيخسر أي شيء لو تجنب "السياسة
وتعقيداتها"، بل كانت مكاسبه، ومكاسب أمته قد تضاعفت باتساع المستفيدين بفقهه
وفتاواه.
سيقولون علمانية.. ولا
جديد.. سيدورون دور الثور في الرحى، ولن ينالوا إلا الخسران.. كل القضايا يحلونها
بألفاظ.. يريدونها نارا لا تنطفئ.. وسيوفا لا تغمد، ومعارك لا تهدأ، فمبررات
وجودهم لا تبقى إلا ببقاء الجحيم.. وسرقة السلام من المساجد.
0 تعليقات