عمر حلمي الغول
اليسار واليمين
مفهومان أطلقا في أعقاب الثورة الفرنسية 1789 مع تأسيس الجبهة الوطنية واحتدام
الخلاف بين تيارين، حول صلاحيات الملك، وبالصدفة المحضة جلس اليعاقبة على يسار
طاولة المنصة، والجيرونديين جلسواعلى يمينها. ومنذ ذلك التاريخ ساد المفهومان "اليمين"
و"اليسار" في الأوساط العالمية، وعكس كل منهما اتجاها فكريا معرفيا
مقرونا بابعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية والثقافية. ف"اليسار"
اتسم بدعم العمال والفلاحين المسحوقين، وتبني قضاياهم المختلفة، واتصف
بالراديكالية. بعكس اليمين، الذي اتسم بالمحافظة، ودعم البرجوازية وتوجهاتها
وغاياتها في بناء المجتمع.
لكن المفهومين شابهما
الكثير من التشوه والضبابية والالتباس، فلم يعد اليسار يسارا، ولا اليمين يمينا. وتم
اطلاقهما على قوى وحركات وتيارات لا تمت لهما بصلة، ليس هذا فحسب، بل ادخل
المثقفون والاعلاميون مفاهيم جديدة مشتقة من المفهومين، مثل "يسار الوسط"،
او "يمين الوسط" او "المركز"، وهي ذات دلالات نسبية، وقد تكون
مؤقتة أحيانا وطارئة في مسيرة وحياة هذا الحزب او تلك المجموعة او التيار.
والأخطر انها أطلقت
على قوى كولونيالية لا علاقة لها باليسار، أي كان المحتوى السياسي والاجتماعي
والاقتصادي الذي تتبناه. لان شرط اليسار هنا انتفى من حيث المبدأ، ولم يعد لها
أساس فكري سياسي او اجتماعي او اقتصادي او قانوني. لان انخراط أي انسان او حزب او
حركة في عملية استعمارية تقوم على اغتصاب حقوق ومصالح شعب اخر، وارتكابها ابشع
جرائم الحرب والإرهاب ضد الأبرياء عموما من الشعب المستَعمر بكل مكوناته وطبقاته
وفئاته الاجتماعية لا يمكن ان تكون يسارية، حتى لو مجازا لا يجوز وصف وتصنيف حزب
او قوة استعمارية بهذا المفهوم الإيجابي عموما. والاستنتاج الأخير، يتكأ على
المقولة الماركسية التاريخية "شعب يستعمر شعبا آخر، لا يمكن ان يكون حرا"،
وبالتالي اطلاق صفة اليسار على المستعمرين الصهاينة، امر مناف للمنطق وللقيم
الإنسانية، ويتناقض تناقضا كليا مع جذر مفهوم اليسار والعدالة السياسية
والاجتماعية.
ومع ذلك، اذا توقفنا
امام نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، نلحظ انها لم تبقِ، ولم تذر لما أطلق
عليه صفة "اليسار" الصهيوني.
ف"حزب ميرتس"
اختفى عن المشهد البرلماني بعد 30 عاما، كونه لم يتجاوز نسبة الحسم. واعتقد ان
غيابه وانخفاض شعبيته بطريقة مهينة بمثابة إعلان شهادة وفاه. وحصول حزب العمل على
أربع مقاعد، ومجيئه في ذيل القوائم الصهيونية، وحتى خلف القائمتين الفلسطينيتين
يعكس المآل الذي وصل إليه، الحزب المؤسس لدولة التطهير العرقي الإسرائيلية. هذا
الحزب الذي كان يتربع على 47 مقعدا في الكنيست، منذ رحيل إسحاق رابين قبل 27 عاما،
وهي يسير في خط بياني هابط، وانحدار مريع، واذا جاز لي الدقة، فان الحزب منذ عام 1977
عندما صعد الليكود لقمة الهرم في إسرائيل، وتولى مقاليد الأمور في دولة الإرهاب
المنظم، ونجم حزب العمل آخذ في التراجع والأفول.
وينطبق على حزب العمل
ما ينطبق على حزب ميرتس، أي ان النتيجة المنطقية للانتخابات الأخيرة تشير الى عدم
أهلية وجدارة أي من الحزبين في البقاء داخل الساحة الحزبية والسياسية والبرلمانية.
والأفضل لقيادتهما إسدال
الستار على وجودهما، والعمل إذا شاءا البقاء على إعادة نظر جذرية في خطابهم الفكري
السياسي والاجتماعي والاقتصادية والقانوني والثقافي، وان يتمثلا موقع اليسار بشكل
حقيقي من خلال التخلي عن المشروع الاستعماري بشكل جذري، وتبني حقيقي لخيار السلام
الكامل والدفع قدما بحل الدولتين على حدود الرابع من حزيران 1967 والقدس الشرقية
عاصمة للدولة الفلسطينية المنظورة، والاقرار بالاعتراف بحقوق الشعب العربي
الفلسطيني في الاستقلال والحرية وتقرير المصير والعودة، والاندفاع لبناء حزبي يمثل
مكونات المجتمع الإسرائيلي، على ارضية المساواة الكلية، ودولة المواطنة الكاملة واسقاط كل القوانين العنصرية الهدامة، ومحاربة مظاهرها
وتشريعاتها وخاصة قانون "القومية الأساس للدولة اليهودية"، ومواجهة
الفاشيين وكل قوى التطرف الصهيونية، عندئذ يمكن الاعتقاد، ان تلك الأحزاب اخذت
تتمثل صفة "اليسار"، والافتراض انها جزء من القوى الحية المؤمنة بالسلام
والعدالة السياسية والاجتماعية والقانونية النسبية.
لكن هكذا فرضية تبدو
مستحيلة، لانها تتنافى مع خلفيات تلك الأحزاب وخاصة حزب العمل، مع الفارق بين
الحزبين النسبي. وبذلك يكون احد مخرجات الانتخابات الأخيرة والاستنتاج العلمي
الواقعي، هو وفاة كلاهما. لا سيما وان الزمن ليس زمن المعجزات، فالصيرورة الماثلة
لهما دفنهما وتشييعهما وتقبل القوى الصهيونية العزاء بهما.
0 تعليقات