آخر الأخبار

اعتذار الحويني .......





اعتذار الحويني .......

د.هشام مختار

منذ سنوات وأنا أكتب مندداً بالفكر السلفي الذي انتشر في مصر خلال العقود الماضية ... وكثيراً ما قلت أن تلك النوعية من مشايخ السلفية التي ترتزق من الدين هي في الواقع تسعي لمغانم الدنيا من مال وشهرة ونفوذ ... أما من يبتغي وجه الله فمن الطبيعي أن يزهد الدنيا متعففاً عن الأضواء منكباً علي عمله الذي لا يخرج به علي الملأ سوي علي فترات متباعدة حين تمام نضوجه ... أما من يسعي لفرض نفسه إماماً للعوام بعدما يقرأ بضعة كتب تراثية قديمة، ثم يخرج علي الناس مردداً أكثر ما بها جنوحاً وشذوذاً، فهو بلا أدني شك ساعٍ للشهرة وباحث عن مغانمها ... لاسيما لو أخذنا في الاعتبار أن الفائز دائماً في سباق التشدد هو الأكثر جموحاً وتشدداً ...

لست ممن يصنفون الدين علماً، لأن الكثير مما به غير قابل للرصد والقياس والإثبات، بل مرتبط بغيبيات وروحانيات ... إنما التبحر فيه يستدعي الكثير من التحصيل والتفقه والتفكر والتدبر، وهو ما يستلزم الانخراط في مسار أكاديمي يضمن حصول مجتازه علي القدر المناسب من الدراية بالمنظور الشامل للدين بمفهومه الواسع، وهو الدور الذي يفترض أن يلعبه الأزهر ... فالدين ليس إطاراً نظرياً، بل هدفه يكمن في الممارسة العملية للتوجهات التي أتي لترسيخها ... وهو ما يعني أن الفهم الحقيقي للدين يستدعي الفهم العميق للحياة، وهو أمر لا يتحقق بسوي طول الممارسة وتراكم التجارب ...

كلامي السابق لا يعني الحجر علي اجتهاد الشباب وقصر فهم الدين علي الكهول، فنحن مأمورون بالاجتهاد طوال الوقت ... وقد يفتح الله علي بعض من عباده خلال مراحل مبكرة من أعمارهم في مسائل بعينها، إنما الإلمام العميق بالمنظور الواسع لمرامي الدين وأهدافه يستلزم عقود طويلة من النضوج الفكري ... لاسيما حينما يتخلص المرء من اندفاع الشباب وحماسه ويتحرر من شهوة السعي وراء مغانم السلطة والثروة ... فحينما تدنو النهاية، ويتخفف المرء من غالبية التزاماته الحياتية بعدما انقضي الجزء الأكبر رحلته، فهو يدرك أن لا قيمة حقيقية لماديات تلك الحياة الزائلة، في حين تكمن القيمة الحقيقية في روحانياتها، فتلك هي المرتبطة بالآخرة التي هي خير وأبقي ...

أتفهم بالطبع حق كل منا التحدث في الدين، بل نحن مأمورون بالفهم والفقه التدبر، وهو ما يتطلب بطبيعة الحال تداول للأفكار لن يتحقق بسوي تبادل الآراء والانطباعات ... إنما هذا الحق يجب أن يتوقف علي حجم الجمهور المتلقي للحديث ... فالإطار يجب أن يكون ضيقاً ما بين العامة، وتتسع دائرته مع قدر علم وتفقه المتحدث ... فلا يصح مثلاً أن يلقي أحد العوام خطبة الجمعة في عشرات المصلين، فما بالنا بالمئات أو الآلاف، لأنه من الممكن أن يضللهم ولو بحسن نية ... ويتضاعف التأثير بتضاعف عدد المتلقين، وهو ما يجعل من الإعلام منبراً شديد الخطورة مريع التأثير ...

الحويني وأقرانه من مشايخ السلفية بدأوا مسيرتهم في الزوايا الأهلية بمباركة من الأجهزة الأمنية لمعادلة تأثر جماعة الإخوان ... فالدولة الخرقاء قد أدمنت تكرار أخطائها واجترار خطاياها، ولم تتعلم من الفشل الذريع لتجربة السادات الذي أعاد الإسلام السياسي من كمونه لضرب اليساريين والناصريين، فكانت نهايته الاغتيال بأياديهم، فالحية تبدأ بعقر من يأويها ... والثعابين الصغيرة انتقلت من الزوايا للمساجد فالجوامع، وصار تأثيرها يتضاعف لتتضاعف مغانمها، لاسيما بعدما اتفقت أهدافها مع الوهابية التي سخرت ثروة النفط في نشر تشددها ...

ومع زيادة التأثير، تكالب الرعاة وتضاعف التمويل بالتبرعات السخية التي وجدت طريقها لمشايخ السلفية وجمعياتها وحركاتها، وكلها تعمل بعيداً عن رقابة الدولة أو بتواطؤ منها ... اتسعت منابر السلفية وصارت لها قنوات فضائية وصحف ومجلات ومنشورات تصل أصدائها للملايين، تروج لأفكارهم المتشددة وتكتسب المزيد من الأنصار ... وبينما الأزهر في غيبوبة عزلته عن نبض الشارع، تضاعف تأثير هؤلاء وصار لهم دراويش وأتباع ومريدين ... يروجون لأفكارهم الظلامية في كافة جنبات المجتمع ويكتسبون المزيد من التأثير الشعبي الممكن ببساطة توجيهه للساحة السياسية ...

حينما فقدت الدولة سيطرتها علي الشارع والرأي العام بعدما تمكن الإسلام السياسي من التغلغل في المجتمع بالدين والمال والعمل الأهلي، كان من الطبيعي أن يأتي حراك ٢٠١١ لإزاحة الجالسين علي مقاعد السلطة والإتيان بمن هيمنوا علي فكر المجتمع وتوجهاته ... فقفزت جماعة الإخوان لتعتلي سدة الحكم، وفي ركبها بدأ السلفيون الخروج من جحورهم للساحة السياسية ... فدعواهم ما كانت إلا سلماً للوصول إلي مغانم السلطة، وسرعان ما انقلب السلفيون علي أجهزة الأمن التي كانت ترعاهم وتسيطر عليهم ليتحولوا إلي جلاديها بعدما كشفوا عن حقيقة نواياهم ...

إنتهت المغامرة في ٢٠١٣ واكتشف السلفيون أن "نقبهم طلع علي شونة"، فالإخوان لم يتقاسموا معهم السلطة ومغانمها، بل اكتفوا بإلقاء بعض من فتاتها إليهم ... ولم يعد بقائهم علي الساحة ممكناً سوي بالقبوع مرة أخري تحت جناح السلطة في ثوبها الجديد ... وتلك كعادتها الدائمة عادت لتكرر أخطائها وخطاياها، فأعادت بعضهم للمنابر ومنحتهم قبلة الحياة بدلاً من تركهم للاحتضار، وأتاحت لهم الاستمرار في العمل الأهلي الذي كان مدخلهم للهيمنة ... علي أمل ساذج من الأمن بتكرار ذات التجربة بنفس ظروفها والخروج بنتيجة مغايرة!

إنما لم تأت الرياح بما تشتهي السفن، حيث تبدد أمل السلفيين في الكمون حتي تتاح لهم من جديد فرصة القفز لمقاعد السلطة ... فالتمويلات التي كانت تتدفق عليهم أنهاراً قد تقلصت بشدة مع التوجهات الجديدة للمملكة السعودية التي انخرطت في حركة تحديث كان حجز زاويتها التخلي عن التشدد ... بما يعنيه ذلك من إضعاف للتوجهات الوهابية وكل ما ترعاه بالدعم والتمويل من حركات سلفية، حول العالم بصفة عامة وفي مصر علي وجه الخصوص ... فالدين بقدر ما كان مسوغاً للحكم في الداخل، كان ذريعة للهيمنة السياسية للمملكة علي الصعيد الإقليمي بعدما فرطت مصر في زعامتها الفكرية لمحيطها ...

بل أبعد من ذلك، فالتمويلات الآتية من الدول التي لا تزال تتمسك بأهداب عودة حكم الإسلام السياسي للمنطقة لأغراض في نفس يعقوب كتركيا وقطر، مصيرها إلي النضوب عاجلاً أو آجلاً ... وهو ما يعني بطبيعة الحال تبدد آمال مشايخ السلفية في الحصول علي مغانم من الداخل أو الخارج علي حد السواء، وبالتالي فلا مستقبل سياسي لهم في أي أفق منظور ... وهو ما يجعل من الاستمرار في الترويج للتشدد بلا طائل أو مردود، بل يحمل في طياته ويلات عداءات في الداخل والخارج ...

إذن "الشغلانة ما بقتش جايبة همها"، والانحناء للرياح صار البديل الوحيد للانكسار ... وهو ما فعله الرويني مؤخراً بالاعتذار عن آرائه ومواقفه السابقة لعل العاصفة تمر دون الإجهاز علي ما تبقي له من حطام هذه الدنيا ... وهو ما سوف يتبعه فيه غيره من مشايخ السلفية حينما يوقنون عدم جدوي الاستمرار في الترويج لنهجهم المتشدد ونضوب معينه ... لاسيما وأن المجتمع المصري قد تجاوز مرحلة التعاطف مع الإسلام السياسي بعدما فضحته تجربته القصيرة في الحكم ...

لعل أهم ما قاله الحويني يكمن في اعترافه بأن سعيه للشهرة كان دافعه الأول للمبالغة في التشدد، وهو ما ينطبق بطبيعة الحال علي أقرانه من مشايخ السلفية ... إنما أخطر ما قاله هو أن ليس كل من اقتنع بفتواه المتشددة قد عرف بتراجعه عنها، وهو ما يجعل من خطاياه غير قابلة للتدارك أو الإصلاح ... وهنا يكمن مربط فرس هذا المقال، حينما يدرك المرء أن الكلمة مسئولية وأن ما يتفوه به لا يمكن استرجاعه مرة أخري، بل يظل أثره باق في نفوس من استمعوا إليه وصدقوه ... إن كان خيراً صار لصاحبه صدقة جارية، وإن كان شراً ظل شبحه يطارده بقية حياته وبقي كبقعة سوداء في سيرته بعد رحيله ... فهل نتعظ ونتمهل فيما نسطره أو نتفوه به حتي لا نندم عليه بعدما لا ينفع الندم؟

إرسال تعليق

0 تعليقات