عز الدين الغدادي
رغم وجود من شكك في حديث زواج النبي (ص) من عائشة ودخوله بها وهي
بنت تسع سنوات إلا أن الفقه عموما بنى على هذا الحديث لأن بحسب السند حديث صحيح،
وبالتالي فيجوز تزويج الصغير (ذكرا كان أو أنثى)، وصار هناك قولان:
الأول: وهو رأي المشهور، بل يكاد أن يكون إجماعا على جواز الزواج
من الصغيرة مهما كان عمرها ولو كانت رضيعة إلا أنه لا يجوز الدخول بها إلا إذا
بلغت تسع سنوات قمرية. واحتج الجمهور بحديث عائشة المذكور.
الثاني: وهو رأي فقيهين معروفين من فقهاء الإسلام هما ابن شبرمة
وأبو بكر الأصم، وذهبا إلى أنه لا يجوز تزويج الصغير والصغيرة حتى يبلغا.
وقد احتجا لذلك بقوله تعالى: ( حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ
) فلو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة، كما إن ثبوت الولاية على الصغيرة
إنما تكون فيما فيه حاجة للمولّى عليه بينما لاحاجة لها هنا إلى الزواج لأن مقصود
الزواج بحسب الطبع هو قضاء الشهوة وبحسب الشرع النسل والصغر ينافيهما.
وهناك مسألة أخرى اختلف فيها الفقهاء، فهناك من يرى أن مقاربة
الزوجة ( أو الوطء بحسب التعبير الفقهي) مقيد بالعمر وهو تسع سنوات، وهناك من يرى
أنه لا يتعلق بعمر معين بل يجوز الوطء متى كانت تطيق النكاح كما يعبر الفقهاء سواء
تحقق هذا قبل أو بعد تسع سنوات.
قال ابن نُجيم: واختلف في حد المُطيقة له والصحيحُ أنه غير مقدَّر
بالسنِّ وإنَّما العِبرة للاحتمال والقدرة على الجماع، فإن السمينة الضخمة تحتمل
الجماع وإن كانت صغيرة السن.
وبعد الانتهاء مما قيل عن الحديث بين من يأخذ به ومن لا يأخذ به،
نأتي إلى فلسفة الفقه، وحقيقة فإن فلسفة الفقه موجودة دائما عند الفقيه كمنطلقات
فكرية يتحرك منها وإن لم يصرح بذلك، بل وإن لم يشعر بذلك، فأقول:
1. عندما ننظر إلى الرؤية التقليدية أي الفقه القديم، تجد أنه كان
يتعامل مع النص بمجرده دون ملاحظة الظرف المحيط به ويتعامل معه من ناحية الصناعة
الفقهيّة فقط، وعليه يبنى رؤيته في الموضوع، وهذا خطأ منهجي ربما كان مبررا في
السابق أما في هذا الزمن فلم يعد الأمر مقبولا بحال. فلا بد من النظر الى النص
الديني نظرة تاريخية، فهناك أحكام نتجت عن طبيعة المجتمع وعاداته، والإسلام وإن
كان دينا سماويا الا انه منزل الى الأرض، والنبي (ص) والمؤمنون به مقيدون بقواعد
المجتمع وطبائعه وعاداته. وهذا لا يعني أني أتبنى تماما تاريخيّة النص، بل الأمر
يختلف بحسب الموارد فهناك أمور توقيفية ثابتة وهناك أمور تتبع المصلحة أو العرف.
وفي الفقه هناك أمور لا يقبلها الفهم العامّ لاسيّما في هذا العصر،
إلا أنّها أن موجودة في عصر التشريع بحسب طبيعة المجتمع أي إن منشأها ليس الشارع
بل العرف العام، وهذا العرف لم يكن يرفض زواج الصغيرة لأسباب سنتحدث عنها، ولهذا
تجد أن عائشة التي خطبت وهي بنت ست سنوات كانت قد خطبها قبل ذلك مطعم بن عدي. كما
إنّ عبد المطلب جد النبيّ (ص) تزوج من هالة بنت عم آمنة الّتي تزوجها أصغر أبنائه
عبد الله، وتزوج عمر بن الخطاب ابنة على بن أبى طالب وهو أكبر سنًّا من أبيها.
لذلك وهذه نقطة هامة فإنه رغم كلّ ما قاله المشركون والمنافقون ضد النبيّ (ص)
واتهامهم له بالسحر والكذب وما الى ذلك الا أنّ أحداً لم يطعن فيه بسبب الزواج من
فتاة صغيرة السن.
مع العلم أن هذا الامر وان كان اجتماعيا كما قلنا إلا أنه يرجع الى
أمر بيولوجي وهو اختلاف النساء في سن البلوغ، فيمكن أن تبلغ في المناطق الحارة
كافريقيا في تسع سنوات بل وقبل ذلك، ويمكن ان تتاخر لعمر 18 سنة او اقل او اكثر في
المناطق الباردة، إلا أن الفقهاء نظروا الى عمر تسع سنوات على نحو الموضوعية وليس
باعتباره كاشفا عن سن البلوغ وهم المعتبر حقيقة.
2. في ذلك العصر بل وإلى زمن قريب لم يكن للمرأة إذا وصلت سن
البلوغ أيّ شيء تقوم به غير أن تتزوّج لتصبح أمّاً، ولهذا كان زواجها في وقت مبكّر
مقبولا، ولم تكن الحياة فيها أمل كبير بالتطوّر والتغيّر، فالبنت لم تكن في ذلك
الوقت تستفيد عمليّاً إذا ما تعلّمت، وإذا تعلّمت فلا يزيد ذلك عن القراءة
والكتابة، فلا معنى لأن تنظر أكثر من ذلك، ومثل ذلك قل عن الولد. وبالفعل لا زال
هذا الزواج مقبولا وموجوداً بين بعض الأمم والشعوب التي لم تتحضّر.
وللسببين أعلاه ليس من المنطقي للفقيه أن يفتي الآن بجواز الزواج
من الصغيرة، لذا فأنا أرى عدم جواز مثل هذا العقد ولا ما يترتب عليه وإن كان
الحديث صحيحا وذلك بسبب تغير العرف والفهم العام لا سيما وأن هذه المسألة ليس
تعبدية في أساسها حتى يقال بعدم جواز الاجتهاد مقابل النص، لا سيما وأن استعداد
البنت للزواج ليس استعداداً جسديّاً فحسب ليكون النضجُ كافياً، بل تحتاج كذلك إلى
نضج نفسيّ، لأنّ الفتاة في هذا العمر عندما ترى الرّجل وهو يحاول أن يمسّها ستشعر
بريبٍ واشمئزازٍ. وهي لا تستطيع أنْ تعبّر عن رفضها. نعم، لو افترضت أنَّ البنت
كانت على حدٍّ من الوعي والتمييز وقبلت بذلك كما يوجد ذلك بالفعل في بعض
المجتمعات؛ فإنَّ الأمر عندها يهُون.
وقد ورد عن آل البيت ما يدلّ على كراهة تزويج الصّغير، فقد روى عن
الامام الصادق ع أنه قال: قيل له: إنا نزوِّج صبياننا وهُم صغار، فقال: إذا
زُوِّجوا وهم صغار لم يكادُوا أن يأتلفوا.
وهو وإن لم يكن يتنافى مع إباحته إلا أنّه يكشف عن نظرٍ إلى مسألة
أو نتيجة ترتبط بها الزوّاج، فإنّ الزوجين الصغيرين عندما يعرفان منذ صغرهما -وقبل
أن تنضج غريزتاهما- أنّهما زوجان فإنّهما لن يشعرا بحاجة كلٍّ منهما إلى الآخر مع
بلوغهما بمعنى أنّهما لن يشعرا بالرغبة فيما بينهما لأنّما لن يتشوّقَ أحدهما
للآخر ولن يشعر أحدهما برغبة للآخر، ومن ثمَّ لن يشعرا بالمسؤولية، فهما هكذا قبل
أن يبلغا ولن يحدث طارئ على حياتهما كما يحدث فيما لو تزوّجا بعد بلوغهما، أي
إنّهما سيصابان ببلادة عاطفيّة فيما بينهما.
ثمّ أريد أن أسال: لو افترض أن بنتاً في السادسة عشر من عمرها
تزوّجت شيخا له ثمانون سنة، فهل يمكن لأحدٍ أن يحكم بمنع هذا الزواج؟! بل سيقال:
ما دام الطرفان متّفقين على ذلك فلا بأس.
فالمرأة قد تجد ما يجذبها في هذا الرجل، ربّما ثروتُه. فتقبل
بالزواج من هذا الرجل لتنقضّ على ثروته وهي تعرف أنّ هذا الشيخ لن يبقى معها
طويلا. ولا شكَّ أنّ الفتاة هنا لن تكون ضحيّة ولا بريئةً.
ثمَّ: إنّ البنت -وكذا الولد- إذا بلغت ولم يكن هناك من مانع
يمنعها عن الزواج من درس أو نضج نفسيّ أو غير ذلك، وتحقّقت الظروف التي تسمح بنجاح
الزواج، فليس هناك من بأسٍ في زواجها. أي: إن زواجَ البنت في أوّل نضجها يكون بحسب
الظرف، فليس زواجها أمراً مقدّسا لا بدّ منه، ولا عدم زواجها كذلك، بل كلّ حالة
ينظر إليها متميّزة عن غيرها وبحسب ظرفها. وملخص الكلام: أن النص ينبغي أن يفهم
ضمن ظرفه الاجتماعي، كما إن الفقيه عليه أن يمييز بين الثابت والمتغير في الفقه
ولا يحمل النصوص على محمل واحد.
واخيرا اقول: ان مجرد نقل حديث دون مناقشة ولا نظر، ومحاولة غض
النظر عن قيمة النص الحقيقية ( ليس من حيث صحة او ضعف سنده، بل من حيث قابليته لأن
ينشئ حكما دائما مؤبدا بغض النظر عن متغيرات الزمان والمكان ) كما طرحه الاخ العسر
هو أمر يفتقد تماما للمنهج العلمي ولن أزيد لاتهام النوايا.
هذا هو الفرق بين منهج انتقائي التقاطي يأخذ رواية للتشهير والطعن
في ثقافة الأمة وهويتها، وبين طرح يحاول ممارسة نقد علمي للخروج من المأزق الفكري
الذي نعيشه.
زواج النبي (ص) من عائشة… بين الرواية والدراية (1)
0 تعليقات