د. وسام الدين محمد
لا يمكن أن نعرض لأهم كتب تبسيط العلوم، دون الوقوف عند كتاب
(الكون) لمؤلفه الفلكي الأمريكي (كارل ساجان). وكان (ساجان) قد قدم عام 1980،
برنامج تلفزيونيًا بعنوان (الكون: رحلة شخصية Cosmos: A Personal Voyage) بالتعاون مع الكاتبة
الأمريكية (آن دريان)، والتي سوف يتزوجها فيما بعد؛ وضم البرنامج ثلاثة عشرة حلقة،
تناولت موضوعات بنية الكون، وتطوره، ومصيره؛ وقد حقق هذا البرنامج نجاحًا هائلًا
داخل الولايات المتحدة وخارجها، مما دفع (ساجان) إلى تحويل مادة البرنامج العلمية إلى
كتاب، صدر في نهاية عام 1980 وحمل نفس الاسم (الكون).
الكتاب يتكون من ثلاثة عشرة، بما يقابل عدد حلقات البرنامج
التلفزيوني الثلاثة عشر، وإن كان لا ينبغي أن نعتبر محتويات الفصول إعادة لما جاء
في البرنامج؛ وخلال هذه الفصول نرى المؤلف يناقش العديد من المسائل العلمية في شتى
فروع المعارف، من الفيزياء إلى البيولوجي، ومن الفلسفة إلى الأنثروبولوجي، في
محاولة لاستكشاف خمسة عشرة بليون سنة من تاريخ الكون، مرصعًا روايته هذه بالعديد
من القصص الشيقة حول العلماء الذين أسهموا في زيادة معرفتنا بالكون، من شامبليون
إلى ديموقريطس إلى ماكس بلانك، ناظمًا هذه القصص في السياق الواسع لتطور العلم.
يبدأ الفصل الأول، في استكشاف موقعنا نحن البشر من هذا الكون ومن
تاريخه؛ ثم يستعرض في الفصل الثاني كافة الآراء المتعلقة بنشأة الكون وبنيته؛ ثم
ينتقل في الفصل الثالث إلى بحث قصة الحياة على الأرض، باحثًا عن هذا الصوت الخفي
الغامض الذي يربط العالم كله، ويجعل موضوعات تبدو متنافرة ظاهرًا، مثل الفيزياء
والبيولوجي، وجوه مختلفة لنفس الحقيقة (وهو نفس النتيجة التي وصل إليها جورج جاموف
في كتاب الذي سبق أن عرضناه في هذا المكان منذ أسبوعين)؛ وهكذا تبدو هذه الفصول
الثلاثة كأنها فصل المسرحية الاستهلالي، التي يعدها ساجان استعدادًا لأن يروي
علينا أحداث مسرحيته الأساسية.
هذه الأحداث الأساسية يبدأ في عرضها من خلال رحلة عبر المجموعة
الشمسية، مستحضرًا خبرته كعالم فلك، وأحد علماء مشروع فيوجر؛ فيتوقف في الفصل
الرابع في كوكبي عطارد والزهرة وعالمهم الملتهب؛ ثم يتوقف عند جارنا القريب المريخ
في الفصل الخامس؛ وفي كلتا الوقفتين يعرض لخصائص الكوكب المميزة، وكيف تمايز عن
كوكب الأرض؛ ثم يخصص الفصل السادس لزيارة بقية كواكب المجموعة الشمسية.
في الفصل السابع، يعرض المؤلف إلى أفكار الفلاسفة اليونان القديمة
حول الكون وبنيته؛ ثم ينتقل في الفصل الثامن إلى دراسة بنية الكون بناء على ما
توفر للإنسان من أدوات حديثة، وصورة الكون المتخلية بناء على هذه الأدوات؛ ليناقش
تاريخ الكون في الفصل التاسع، ومآله في الفصل العاشر.
يصل ساجان إلى ذروة المسرحية في الفصول الأخيرة، إذ يبدأ في الفصل
الحادي عشر في استعراض قصة الـ DNA باحثًا عما يجعل الإنسان إنسانً؛ ثم ينتقل في الفصل الثاني عشر
إلى استعراض الأدلة المتوفرة على أن إمكان وجود حضارات ذكية في الكون، وهل يمكن أن
تتوفر ظروف على كواكب أخرى تسمح بتكرار ظهور كائنات حية على هذه الكواكب كما حدث
على الأرض؛ بينما يخصص الفصل الثالث عشر والأخير لاستعراض الجهود المتعلقة
بالتواصل مع حضارات ذكية محتملة في الكون؛ وفي هذه الفصول الأخيرة الفصلين تصادفنا
كثيرًا قناعات المؤلف الشخصية وخبراته كأحد العلماء الذي شاركوا في مشروع البحث عن
الذكاء خارج الأرض في السبعينات.
لا يقدم ساجان كونه باعتباره كتاب آخر يعني بعرض الكشوف العلمية
حول الكون، فالكون في فهمه يتجاوز النجوم والكواكب والمجرات، ولكنه وسط يجمع كل
شيء، حتى البشر، إذ أننا «جميعنا نجوم» بحسب عبارته؛ ولذلك تجده يمهد لكل فصل
بعبارة فلسفية، محاولًا أن يثير فضول القارئ حول الجوانب المختلفة، الطبيعية
والماورائية، المتعلقة بالموضوع الذي يطرحه؛ وهو لا يكتف في كتابه بالوقوف خارج
الأحداث والتعليق عليها فحسب، بل يعرض تأملاته بشأن هذه المسائل التي يعالجها؛ ومن
أراءه الشيقة موقفه الشخصي بشأن وجود حضارات ذكية في العالم غير البشر، حيث يعتقد
أن حجم الكون يسمح بوجود آلاف الحضارات الأخرى، ولكنه في نفس الوقت لا يعتقد بأن
هناك أي دليل يثبت حدوث اتصال بين هذه الحضارات وبين الأرض، وهو نفس الرأي الذي
ناقشه في عمله الروائي Contact، وهو أحد أهم روايات
الخيال العلمي الثقيلة Hard
Science Fiction في الربع الأخير من القرن العشرين، وكانت قد تحولت إلى فيلم حمل
نفس الاسم من بطولة جودي فوستر وماثيو ماكوني عرض على شاشات السينما عام 1997.
كذلك هناك بعض الأفكار التي تتردد في الكتاب، تعرض تأثر المؤلف بالفترة التي أنتج
فيها المسلسل وألف الكتاب، تلك الفترة التي بلغت فيها الحرب الباردة بين القطبين
العالميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ذروتها؛ فتجد المؤلف يشير من آن
إلى آخر إلى أن البشرية تسعى حثيثً لتدمير نفسها، وأنه ليس ثمة جدوة من سباق
التسلح.
نشر الكتاب لأول مرة في نهاية العام 1980، عن دار نشر راندوم هاوس
الأمريكية؛ ومنذ ذلك الوقت نشرت خمسة ملايين نسخة من الكتاب بمختلف اللغات، ولعل
الشهرة التي أحدثها البرنامج التلفزيوني قد مهدت الطريق لهذه الشعبية الهائلة، وقد
أرجع أحد مؤرخي العلوم المعاصرين، بروس لفنشتاين، الضجة التي أحدثها الكتاب، إلى
أن الكتاب قد صدر لحظة تاريخية كان كل ما نعتقد حول العالم يهتز؛ وقد ظل كتاب
الكون كتاب تبسيط العلوم الأكثر مبيعًا في الولايات المتحدة لفترة طويلة، إلى أن
تجاوزه كتاب ستفين هوكنج (تاريخ موجز للزمن)، وإن كان كتاب (الكون) في رأي الشخصي
أفضل من (تاريخ موجز للزمن)؛ وإلى اليوم يعتبر كتاب (الكون) ملهمًا للعلماء
والكتاب، ومنهم الفيزيائي الأمريكي نيل ديجراس تايسون الذي استوحى من العمل
الأصلي، برنامجه ذائع الصيت (الكون: أوديسة في الزمان والمكان Cosmos: A Spacetime Odyssey). الترجمة العربية
نشرت ضمن سلسلة عالم المعرفة، وصراحة لا أحبذ قراءتها، إذ تدخل المترجم في النص
على نحو مروع.
تقبلوا مودتي
0 تعليقات