مارك مجدى
شاهدت جزيرة غمام أخيرًا، تفهمت
عناصر نجاحه، ولكني أشفقت على الكاتب الذي فشل في مهمته الأصلية.
لدى الكاتب عبد الرحيم كمال
القدرة غير العادية في صياغة الخطوط الدرامية الجذابة، والتي للأسف لا تكتمل أبدًا،
وليس جزيرة غمام سوي استمرارًا لهذه المشكلة. فلدى عبد الرحيم كمال هدف رئيسي في
معظم أعماله، وهذا الهدف هو الذي يعيق اكتمال خطوطه الدرامية كما سيتضح. وحين يغيب
هذا الهدف يُشفى كمال من هذه العلة، أي حين يستعير البناء الدرامي من الخارج( نموذج
ونوس وزركش) ويمصره.
خط درامي أول في جزيرة الغمام
هو الصراع بين خطاب عرفات الصوفي وخطاب الشيخ محارب الأصولي، والذي لم يُحسم بأي
حال. مشروع الشيخ محارب لتأسيس التنظيم الراديكالي القادر على الاستيلاء على السلطة توقف وتراجع دون أي سبب حقيقي، كما لو تخيلنا أن
الأخوان المسلمين ومن على شاكلتهم مِن مَن لديهم مشروعات سلطوية ممكن أن يتوقفوا
بمجرد مناقشتهم ليهتدوا. لماذا استكان الشباب المدربون على حمل السلاح وكيف قبلوا
الخضوع لغفر العجمي المتكلسين؟ كيف تراجع محارب عن خطاباته الكارزمية ولازم منزله
بمجرد أن واجهه عرفات أن صندوق الجامع بحوزته؟ هل يتراجع الأصولي بهذه البساطة؟ وهو ما يقودني للسؤال الأصلي: هل الأصولي
أصوليًا لأنه قد فهم الدين بشكل خاطئ؟ أم لأنه لديه مشروعًا سلطويًا؟ أليست "المريسه"
هي أحد رغبات الرجال كما تتحدث بطلات المسلسل؟ كيف تجاوزها محارب في لحظة فاصلة
وتنازل عنها أتباعه المقربون؟ يتوقف المشروع الأصولي الراديكالي مرةً واحدة.
خط درامي آخر هو العلاقة بين
عرفات والعايقة، حيث توجد ثيمة الشخص التقي المتدين الذي يتقبل العاهرة ويرغب في
الزواج منها تعبيرًا عن فكرة أولوية الحب والغفران. نتتبع هذه العلاقة الآخذة في
التعمق والتي يشوبها تردد العايقة بين أن تنحاز لخلدون أو لعرفات، لا يُحسم هذا التردد إلا عندما تعرف العايقة أن
خلدون قرر الزواج من فتاة آخرى، ثم
ولا نجد ما يبرر زواج عرفات من
درة ابنة كبير الجزيرة، لينقطع الخط. ما الذي حدث تحديدًا هنا؟ لماذا يتخلي عرفات
عن العايقة بمجرد انقاذه لدرة؟ أم أن كاتبنا خجل من أن يكمل فكرته ويتزوج الشيخ
بالعاهرة سابقًا؟
خط درامي آخر، قاد الأحداث لمدة
عشرين حلقة تقريبًا، وهو الخاص بمقتل سندس، وهو يعاني ليس فقط من عدم الاكتمال،
لكن يتضح كيف تورط الكاتب في إنهائه لدرجة دفعته لأن يستخدم القدر استخدامًا
مبتذلًا لا يُرىَ في الواقع أبدًا، حيث يقتل المذنبين بالتدبير الإلهي المباشر،
دون أن يكون لترتيبات
الواقع أي دور في تحريك
القصة. إذا كان عقاب الشر فوري
وحاضر فنحن نعيش في عالم آخر مفارق للواقع، عالم جزيرة غمام، لكن ألم توجد الصوفية
في النهاية لتفارقه؟ قرر الكاتب أن يحل عقدة المذنبين سريعًا ليتجه نحو مشهد
مسامحة جدة المقتولة للقاتل الوحيد بين الثلاثة الذي شعر بالذنب، ليقدم مشهدًا
مؤثرًا عن قيمة الغفران للغير، لكن عل حساب التماسك الدرامي.
لدينا هنا خطوط وفرت
مادة ثرية لمحتوى المسلسل وتفاعل شخصياته، لكن الكاتب قرر أن ينهي هذه الخطوط ليختار الاستمرار في خطه الرئيسي، وهي القصة التي تنتهي بالزوبعة، الذي يكون لعرفات دور المخلص فيها،
وليس كل ما فعله من معجزات وكل ما خاضه من صراعات سوى
تمهيدًا لهذه الحالة "الأبوكالبتيكية".
العمل قادر على أن يستثير
المشاعر الإيمانية التواقة إلى المعجزة وللخطاب الديني المتسامح الذي يستحث
العاطفة لدى الإنسان، في النهاية لا يتخيل الإنسان المعجزة ولايؤمن بها إلا تمردًا
على قوانين الوجود الواقعية التي تكبله وتكبل حياته، وكل من سيوفر له المناخ
الملائم لكي يعيش في أجواء عالم المعجزات سينجح في إبهاره، خصوصًا في مجتمعاتنا
حيث الدين هو المهيمن على العقل الجمعي لأسباب يطول شرحها.
في الحقيقة، المشكلة الأصلية
التي تؤدي لتقطع الخطوط الدرامية لدي الكاتب لا تنبع من عجزه أدواته أو قصور لديه،
المشكلة أن لدى كمال مستهدف عظيم، يسعى لتحقيقه ولا يعرف كيف يحققه. يريد الكاتب
أن يقدم عملًا يدعم التصوف في مصر ويدعو إليه، ولكنه محملًا كذلك بمعركة هو مجبر
عليها، وهي معركة الصراع مع التيار الأصولي الراديكالي.
كيف أدار عبد الرحيم كمال
الصراع مع الأصولية؟
بالعودة للخط الدرامي غير
المكتمل الذي أشرت إليه أولًا، وهو الصراع بين عرفات
ومحارب، نجد أن الكاتب لم يجد مفرًا لهزيمة الأصولية إلا عبر المعجزة. لقد كانت
الأصولية المتحالفة مع المحسوبيات الفاسدة المتمثلة في بطلان وعائلته قد وصلت
لذروة قوتها في مجتمع جزيرة غمام وسرعان ما ستهزم بضربة قاضية وحيدة- وهي إشارة
تستحق الإشادة من الكاتب حيث لا تجد الأصولية لها حليفًا أفضل من مصالح المحاسيب
الفاسدة- لكن لم تكن الحجة ولا المنطق ولا حتى فكرة المحبة وصفاء القلب
التي قامت عليها دعوة عرفات هي القادرة على مواجهة الأصولية والفتنة ومصالح
المحاسيب. كان على عرفات أن "يفوت في الحيط" أمام الناظرين لينجز مهمته.
كان على المعجزة ان تنجز المهمة.
وهو ما يوصلنا للمشهد المُحتفى
به، وهو مشهد المناظرة بين يسري ومحارب من جهة وعرفات
من جهة أخرى. هل نجح عرفات في تفكيك وتعرية الخطاب الأصولي بعد انتهاء المناظرة؟
احتوت كلمات عرفات على ملخصًا وافيًا ومبهرًا لمنطوق الحركات الصوفية في مصر بصورة
عامة، لكن هذه الكلمات لم تستطع
سوى أن تقرر وجود هذا الخطاب في
المجتمع، فلم تنتهي المناظرة إلا والحجة الأصولية لا تزال قائمة، حيث أن عرفات لم
يتعاطى معها من الأساس، لقد ارتضي أن
يسبقها بخطوة ليعترف ضمنيًا
بضرورة الشرع، حتى لو كان هذا الشرع هو الشرع وفقًا لمنطق محارب الأصولي، ليتحدث
بكارزمية الخطيب عن قيم متسامية هي قيم الغفران ونقاء القلب والتسامح والتكاتف
الإنساني.
هي قيم عظيمة بلا شك تستحق مزيد
من التحدث حولها والتركيز عليها، لكن هل تخترق هذه القيم المنطق الأصولي عمومًا؟
حقيقة الأمر أن الأصولية
المعاصرة استطاعت بالفعل أن تحتوي هذه القيم وتحتل تفسيرها استنادًا على تفسيرات
للنص الديني. لدى الأصولى تسامح لكنه يقف عند حدود القيمة الأهم وهي قيمة تطبيق
الشرع الذي لا يتسامح إلا
بحدوده هو، والإيمان القويم
بالضرورة يرتبط بإرادة التصرف نحو تطبيق الشرع، وهنا يصبح لنقاء
القلب معيارًا وهو أن ينعكس على تصرفات المؤمن في اتجاه محدد.
النتيجة النهائية هي أن من شاهد
مشهد المناظرة بين الطرفين، إذا كان يميل للتصوف والتدين الرحب، فسوف يعجب بلا شك
بما قاله عرفات وسيستنتج أنه أنتصر بشخصه على من يتهمونه
بالجهل ومخالفة الشرع. وإذا كان المشاهد من الميالون للأصولية، فسوف يجد مشكلة مع
حديث عرفات، وهو أنه لا يقدم له المبررات الكافية لكي يتوقف على أن يكون أصوليًا،
فخطاب عرفات غير قادر على
نقد المنطق الأصولي ليصل إلى
جذوره، لأن الخطاب الأصولي احتل بالفعل المساحة الأكبر من ما هو مقدس.
لا تغير المناظرة مواقع
المتفرجين، لكنها لا تفعل أكثر من أنها تؤكد عليها.
سيكون أمام الأصولي أطنان من
النصوص وكتب التفسير التي تدعم الأصولية بمختلف مدارسها، وكلما قرأ سيعود للنتيجة
نفسها، وبالتالي إذا لم يكن لديه هذا الاستعداد النفسي للتطابق مع الحالة "الروحانية"
التي تقدمها الصوفية و(هي حالة ترتبط بتركيبة المرء النفسية حيث الميل للروحانية
قد يوجد لدى البعض ولا يوجد عند الآخر) إذا لم يتمكن من أن يتوحد مع الخطاب الصوفي
على حساب الالتزام بالمكتوب في الكتب التراثية والتعاليم المؤسساتية، فهو سيظل
أصوليًا تعطله الظروف الواقعية وعواقبها تجاه أصوليته، وليس عدم اكتمال قناعاته. لكن
كل ذلك ممكن أن يتغير في حالة توافر شرطًا واحدًا، وهو أن يجد عرفات حقيقي أمامة
قادر على أن "يفوت في الحيط ويمشي على المياة ويطير في السماء"، حينها
قد تتبدل الأمور بالنسبة للبعض، ولكن ستظل المصالح الفردية والاجتماعية المرتبطة
بالمشروع الأصولي قائمة.
وهنا نعود للسؤال الأشمل والأهم
والذي استدعاه مسلسل جزيرة غمام، هل التصوف عمومًا قادر على الإطاحة بالأصولية
الإسلامية؟
التصوف قادر على أشياءً أخرى،
مثل أن تعيش جماعات كبيرة العدد من البشر في حالة تغيب غرائبي طويلة، وأن يستكين
الأكثر فقرًا وعوزًا ويكتفي بحسنات القادرين باعتبارها عطايا قدرية، وأن يعيد
إحياء التراث الكامن لدينا من قصص شعبي وغناء فولكلوري يقدم محتوى فني غنائي
تصويري عبقري، لكنه لن يحقق مهام المجتمع الملحة.
وهي مهام التحديث الشامل
لحياتنا من الاقتصاد للسياسة للعلوم والتكنولوجيا، ليس
للتصوف علاقة بذلك، ولو أن هناك بعض التطرفات الصوفية التي قد تنكر أهمية العلم
وتتعالى عليه(لحسن الحظ لا تكثر مثل هذه الظواهر). التصوف لن يساعدنا على بناء
العقول العلمية القادرة على أن تقود مشروعنا التنموي، ولن يكرس للعقلانية النقدية
القادرة على تفكيك الخطاب الأصولي الصادر عن الجماعات الإرهابية ومجموعات
المتزمتين، والقادرة على بناء العقليات العلمية التي نحتاجها لتدعيم التنمية. لكنها
اجتهادات المثقفين المصريين والعرب في محاولة صياغة "حداثة" عربية،
مفكرين كثر لا يعرف عنهم المصريين شيء لأن أحدًا لم يبادر بأن يعرف المصريين عليهم.
مشروع الحداثة العربية المنطلق
من مصر يجب أن يكون الشغل الشاغل للمثقف العربي، ومعه الدولة المعنية بالتنمية
والتحديث، فمع التطور على المستوي المادي(الاقتصادي والتقني) يتطلب الأمر تطورًا فكريًا يلائم التطور المادي، وهو في هذه الحالة
لن يكون التصوف. فالتصوف، مثله مثل كثير من المنظومات العقائدية المتبقية لتحيا
بيننا، هو نتاج استمرار بنى مادية وفكرية تنتمي لعصور ماضية كان من المفترض أن
تنقرض، لكنها استمرت بفعل استمرار "التخلف" في مجتمعاتنا. وهذا حديثًا
آخر.
0 تعليقات