علي الحفناوى
سألنى صديقى: "لماذا
قناة السويس؟"، "لماذا هي محور اهتمامك بالتاريخ المصرى؟"... فوجدت
سؤاله مشروعا، والإجابة واجبة... فقلت:
دون الحديث عن تاريخ
قدماء المصريين وتاريخ بداية الملاحة البحرية من مصر، وإكتفاءاً باستعراض تاريخ
الدولة المصرية منذ نهاية العصر الرومانى واليونانى إلى وقتنا الحاضر، نكتشف أن
لموقع مصر الجغرافى بين قارتى آسيا وأفريقيا وبين البحر الأبيض المتوسط والبحر
الأحمر، دور محورى في صياغة العلاقات الدولية في العالم القديم حتى الآن مرورا
بالعصور الوسطى... ويكفى لفهم ذلك استعراض جزء بسيط من هذا التاريخ الطويل...
-1 آخر قناة تم حفرها قبل قناة السويس الحالية،
كانت قناة أمير المؤمنين التى حفرها عمرو ابن العاص في عصر عمر ابن الخطاب بمنتصف
القرن السابع، ثم قام "أبو جعفر المنصور"، الخليفة العباسى، بالأمر
بردمها بعد مائة عام في عام 750 ميلادية خوفا من هجوم الروم على مكة والمدينة.
-2 توجهت الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس
التاسع إلى مصر بناء على إصرار القس "أندريه دى لونجومو" عام 1249، لشق
قناة السويس حتى يتمكن الصليبيين من تحرير الشرق الأوسط والجزيرة العربية من
المسلمين... ولكن فشلت الحملة وتم أسر قائدها حتى اضطرت أوروبا لسداد الفدية وإخلاء
سبيله.
-3استمر نقل البضائع من الشرق الأسيوي إلى
الغرب الأوروبى طوال قرون مرورا بالقوافل البرية بأراضي مصر بين السويس
والإسكندرية... فأمر ملوك أسبانيا والبرتغال في أواخر القرن الخامس عشر بإيجاد طرق
بحرية بديلة لتفادى العبور بمصر...
فاكتشف كريستوف
كولومبوس أمريكا عام 1492 معتقدا أنها الهند، واكتشف فاسكو دى جاما رأس الرجاء
الصالح عام 1498 كطريقا بحريا للوصول للهند دون العبور بمصر.
-4 في عام 1515، جاء إلى مصر تجار البندقية من
شمال إيطاليا للقاء قنصوة الغورى، ومحاولة إقناعه بحفر قناة السويس، مع عرض
مساعدته في بناء سفن حربية لمحاربة التواجد البرتغالى على طرق التجارة في المحيط
الهندى... قام قنصوة الغورى بتأجيل مشروع حفر القناة، واكتفى ببناء أسطول عسكرى
مصري، وراح يحارب البرتغاليين حتى شواطئ الهند... خشى السلطان العثمانى من قوة
الأسطول المصرى، فأرسل جيشه لمحاربة الجيش المصرى واحتلال مصر... انتصر سليم الأول
على قنصوة الغورى في مرج دابق عام 1516 واحتل مصر في 1517... وهكذا كان مشروع حفر
قناة السويس سببا في احتلال العثمانيين لمصر.
-5في عام 1672، قدم العالم الألماني "ليبنيز"
وصية لملك فرنسا لويس الرابع عشر، ليحثه على تحرير مصر من الإسلام وحفر قناة
السويس لربط أوروبا بخيرات الهند وشرق آسيا... ولكن اضطر لويس الرابع عشر إلى
تأجيل مثل هذا المشروع لأسباب عديدة، أهمها تفادى الدخول في مواجهة مع الدولة
العثمانية، وقت كانت فرنسا قد أنشأت في البحر الأبيض المتوسط العديد من الموانى
والمحطات التجارية لخدمة نشاطها التجارى المزدهر.
-6 بعد قيام الثورة الفرنسية ومرورها بكثير من
الأحداث الدامية، تولى حكم فرنسا مجلس إدارة تحت مسمى "الديركتوار". ولما
كان نابليون بونابارت قائدا لأكبر وحدات الجيش الفرنسي في أوروبا، يجمع الانتصارات
الواحدة تلو الأخرى بالرغم من صغر سنه، خشى أعضاء الديركتوار أن يحاول الاستيلاء
على السلطة في فرنسا؛ لذلك قاموا باستحضار وصية "ليبنيز" وتكليفه
بتنفيذها لاحتلال مصر وحفر قناة السويس.
جاءت
الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798، وبعد استقرار الأوضاع الأمنية في القاهرة، وفى
محاولة لاستباق السيطرة البريطانية على البحار، ذهب نابليون بنفسه ومعه بعض
المهندسين إلى موقع السويس بحثا عن آثار "قناة فرعون" كما أسماها،
فوجدها فعلا... أمر بونابارت المهندس لوبير بعمل رفع مساحى فورا لتحديد مسار قناة
السويس المزمع حفرها... ولكن، ولسوء حظ نابليون وبسبب التعجل في الدراسة، أخطأ
لوبير في قياساته، ووجد فرق منسوب بين البحرين بقدر 9.5 مترا... فتقرر تأجيل
التنفيذ لوقت لاحق.
بالرغم
من تدمير أسطول نابليون على يد الأميرال البريطاني نيلسون في أبوقير، استطاع
نابليون الهروب إلى فرنسا بعد سنة من تواجده في مصر، تاركا جيشه تحت قيادة كليبر،
ولكنه لم يفقد اهتمامه بمصر وبفكرة قناة السويس. وفى 1803، أرسل إلى مصر أحد الدبلوماسيين
ممن رافقوه في حملته على مصر، ليقوم بعمل قنصل فرنسا بها، وكلفه باختيار شخصية
قيادية تصلح لحكم مصر بمعاونة فرنسا، حتى لا تقع تحت مظلة بريطانيا. وكان هذا الدبلوماسي
الفرنسي هو "ماتيو ديليسبس"، والد "فرديناند" الذى لم يكن قد
ولد بعد... رشح ماتيو محمد على ليتولى حكم البلاد، وأيد سفير فرنسا لدى تركيا "سيباستيانى"
هذا الترشيح، وتولى محمد على حكم مصر في 1805، وعاونته فرنسا في بناء دولة حديثة
مرتبطة حضاريا بفرنسا... وبعد ذلك بسنوات طويلة، وفى 1827 جاء الابن فرديناند إلى
مصر، حيث استقبله محمد على بصفته ابن صديقه وولى نعمته ماتيو، وكلفه بمهام تربوية
تجاه ابنه المراهق محمد سعيد، الذى تولى حكم مصر في 1853 بعد وفاة عمه عباس حلمى
الأول.
-9 عندما غادر فرديناند مصر في 1837، عمل بالسلك
القنصلى الفرنسي حتى تم إقصاؤه نتيجة لارتكابه مخالفات في قنصلية فرنسا بروما، فظل
قابعا في بيته الريفى بشمال شرق فرنسا.
وعندما تولى محمد
سعيد الحكم، جاء مسرعا إلى مصر، حاملا بعض الرسومات من التي استولى عليها من جماعة
السان سيمونيان، لإقناعه بعمل شركة لحفر قناة السويس وإعطاءه امتياز تشغيلها... وقع
محمد سعيد في الفخ، ومنح فرديناند ديليسبس الامتياز متضمنا شروطا مالية مجحفة في
حق مصر، مثل عمال السخرة للحفر والاستيلاء على آلاف الأفدنة لاستثمارها لصالحه.
-10 تولى الخديوى إسماعيل حكم مصر في 1863، وحاول
بإخلاص إصلاح ما أفسده سعيد في موضوع قناة السويس، فألغى السخرة واستعاد الأراضي
المستولى عليها وفق قرارات تحكيم أصدرها نابليون الثالث لصالح ديليسبس بعد دفع
تعويضات هائلة... ثم تم إغراق مصر في الديون حتى تضطر لبيع أسهمها في قناة السويس،
وتم ذلك بالفعل في 1875 لصالح رئيس وزراء إنجلترا بنيامين ديزرائيلى بتمويل من بنك
روتشيلد... ثم كانت الخطوة التالية لإنجلترا هي الضغط على السلطان العثمانى لخلع
إسماعيل من الحكم، والانفراد بإدارة قناة السويس.
توالت حلقات التاريخ
المصرى حول فكرة قناة السويس إلى أن تحولت من مشروعات حفر مختلفة إلى التنفيذ
الفعلى والافتتاح في 1869... ثم جاء دور بريطانيا في الاستيلاء على أسهم مصر في
شركة القناة، إلى احتلال مصر عسكريا في 1882، ثم مقتل بطرس غالى فى 1910 لمنع مد
فترة امتياز القناة، إلى معاهدة سايكس بيكو في 1916، إلى ثورة 1919 ثم الاستقلال
الصورى في 1922، ثم معاهدة 1936، انتهاءا باتفاقية جلاء الانجليز في 1954، ثم
تأميم القناة وما تبعها من عدوان ثلاثى ووقوف العالم إلى جانب مصر...
كلها حلقات من
تاريخنا الطويل، لازالت تتأثر وتؤثر في العلاقات الدولية وفى استراتيجيات الدول
الكبرى، تدور كلها حول قناة السويس وحول موقع مصر الجغرافى المؤثر في حركة التجارة
العالمية وفى موازين القوى على بحار العالم...
فكيف يا صديقى لا
تكون القناة محور ارتكاز لأى دراسة تاريخية تخص مصر؟!
فمن
التاريخ نعرف الماضى فنفهم الحاضر ونستشرف المستقبل.
0 تعليقات