د. وسام الدين محمد
سمعت بواقعة مقتل طالبة جامعة المنصورة، وما سمعته لم يشجعني على
محاولة استكشاف تفاصيل الواقعة، وإن كنت لا أجد مناص من الربط بين هذه الواقعة،
ووقائع أخرى سابقة عليها تناظرها عنفًا وربما تفوقها. لا يمكن عزو هذا العنف لسبب
واحد، فهو نتاج أسباب مركبة ومتداخلة، ولكني أود أن أتوقف عند الدراما السينمائية
والتلفزيونية المصرية خاصة باعتبارها من أهم أسباب زيادة العنف.
فمنذ أن ظهرت صناعة الدراما السينمائية، أدرك صانعوها ودارسوها، أن
متلقي الأعمال السينمائية يدخل في حالة من التوحد مع البطل، أي أن المشاهد في لحظة
المشاهدة يتقمص شخصية بطله، وقد استغل صانعوا الأفلام الأوائل في الولايات المتحدة
هذه الحقيقة، فكانت السينما الأمريكية في عهدها الأول موجهة إلى طبقة العمال في
المدن، هؤلاء الذين يؤدون أعمال رتيبة في المصانع لعدد طويل من الساعات وفي ظروف
عمل قاسية، وفي نهاية الأسبوع يحتاجون الراحة البدنية والذهنية، وفي سبيل الراحة
الذهنية يذهبون إلى السينما، وعلى مقاعد السينما يتلبسون الأفلام المعروضة، ويصبح
العامل المرهق المصاب بالأنيميا في خياله كاوبوي قوي وسيم يطارد الأشرار ويفرض
العدل في القرية، وتتخيل العاملة السمينة المتعبة نفسها أميرة حسناء يغامر فارس
بحياته لإنقاذها من وحش شرير. ولذلك، كانت أبطال الأفلام الأولى مثال في الهيئة
والأخلاق، طيب دائمًا، ويجب أن ينتصر دائمًا.
ولكن هذه السينما الخيالية سرعان ما خفتت، ربما بتأثير ما سمي
بالاتجاهات الواقعية والطبيعية والاشتراكية في الفنون عامة والتي طالت صناعة
السينما خاصة في أوروبا ومنها انتقلت إلى أمريكا، واختفى البطل السوبر من الأفلام
وحل محله بطل آخر، قد لا يكون بطل بهيئته، ولكنه كان دائمًا بطل بسلوكه، بدفاعه عن
الحق أو تبنيه قضية عادلة، والتي قد لا تكون في بعض الأحوال أكثر من بقاءه حيًا
رغم كل محاولته القضاء عليه ماديًا أو معنويًا.
سلكت السينما في مصر نفس مسلك السينما العالمية، فقدمت في البدايات
سينما خيالية (مثال فيلم صاحب السعادة كشكش بيه، 1931)، كما قدمت سينما واقعية
(مثال فيلم الزواج، 1933)، ومع نضوجها تحولت السينما المصرية إلى الواقعية أكثر،
بينما اقتصرت السينما الخيالية على الكوميديا والتي غالبًا ما لا يتوحد معها
المشاهد، وإن كان في مرحلة لاحقة استخدمت بعض إنتاجات السينما الخيالية لتمرير بعض
الأفكار الجديرة بالمناقشة (مثال شمشون ولبلب، 1952) وعندما ظهر التلفزيون، تنبى
الدراما الواقعية إلى جانب الدراما الخيالية مع الميل للأولى.
ولكن ثمة خلايا سرطانية كانت ساكنة في الدراما الواقعية وفي
الدراما الخيالية، فبينما كانت واقعية الستينات حتى الثمانينات، دراما إيجابية
تنتقد السلبيات أو تطرح حلولًا إيجابية، بدأت في الثمانينات تحديدًا تتحول إلى
دراما سلبية، وبدأ تمجيد البطل الفرد المنحاز للعدالة والخير (مثال: شخصية حسن عز
الرجال في فيلم كتيبة الإعدام لأسامة أنور عكاشة وعاطف الطيب)، يتحول إلى تمجيد
انتصار البطل الفرد سواء حتى وإن كانت قضيته غير شريفة بل كانت غالبًا غير شريفة
(مثال جميع أفلام تجار المخدرات لنجمة الجماهير وأفلام عوالم نجمة مصر الأولى)، لم
يعد المعيار الأخلاقي هو ما يرسم البطل بقدر ما أصبح يحدده مكسبه المادي بغض النظر
عن الطريق الذي يتحصل به على هذا المكسب.
وأحسب أن هذا التوجه كان عالميًا في هذا الوقت، فأفلام العنف للعنف
كانت اختراع أمريكي في الأساس، ولكن في مجتمع منغلق على نفسه يعاني من الإحباطات
وعلل نفسية بالجملة، تبنى منتجو السينما المصرية – وهم تجار همهم المكسب أولًا وأخيرًا
– سينما العنف للعنف، وخضع لهم صانعوا الأفلام بل منهم من أراد إسدال ثوب أخلاقي
على ما ليس بأخلاقي (مثال حين ميسرة ودكان شحاتة لخالد يوسف) وروجوا لهذا النوع من
السينما.
ولأن الوسخ يجلب الوسخ، توسع السرطان في السينما المصرية وانتقل
إلى التلفزيون، وخرجت أعمال سينمائية وتلفزيونية تمجد البطل الفرد المجرم، وبينما
كانت الرقابة فيما مضى تشترط أن العمل الفني لابد أن يصرح بأن المجرم يجب أن يلقى
عقابه (وقد حملت الرقابة صانعي فيلم عصابة حمادة ولولو، وهو فيلم كوميدي مسروق من
فيلم أمريكي، على إضافة لوحة في نهاية الفيلم تؤكد أن بطلي الفيلم اللصين قد ألقي
القبض عليهما ونالا عقابهما، ولم تسمح بعرض الفيلم إلا بعد إضافة هذه اللوحة)،
أصبح العمل السينمائي أو التلفزيوني ينتهي بمشهد الانتصار الدموي للمجرم على
منافسيه المجرمين.
أصبح البطل الذي تروجه له السينما والتلفزيون، مجرم قد يعمل في
تجارة المخدرات ويتخذ عشيقة أو أكثر ويشق طريقه إلى قمة المجتمع على جثث مجرمين
آخرين، وفي مقاعد السينما وأمام شاشات التلفزيون يجلس شباب محبط، لا أمل له في
الزواج ولا في عمل كريم، يشاهد كيف يمكن للمجرم أن ينتقم من المجتمع ويصبح سيده،
فماذا تتوقع أن يحدث عندما يتوحد هذا الشاب مع بطل العمل الدرامي.
هل شاهدتم فيديو الشباب الذين يرقصون بالسيوف نصف عراة بحلقات رأس
شاذة وتحت تأثير مخدر يحاكون رقصة قدمها ممثل في أحد أفلام العنف للعنف؟
هل شاهدتم فيديو عراكات تتكرر فيها عبارات قيلت على لسان إبراهيم
الأبيض والأسطورة؟؟
هل أتاكم حديث من قطع رأس رجل في شوارع الإسماعيلية؟؟
واليوم، حديث طالب جامعي يقتل زميلته طعنًا أو ذبحًا؟؟؟
المصيبة، أن ما تقدمه سينما العنف للعنف – ويروجه النصابون باسم
الواقعية – لا تساوي في ميزان النقد شيئًا، حتى بمقارنتها بمثيلتها الأمريكية، فلا
قيمة فنية ولا وظيفة اجتماعية، فاستمرارها على هذا النحو إنما هو عرض لسرطان يضرب
فنوننا ومجتمعنا، وإن لم يستأصل السرطان فلابد له من قتل المريض، وأحسب أن فرصة
الاستئصال قد فاتت، فانتظروا الأسوأ.
0 تعليقات