د. وسام
الدين محمد
تحولت الإسكندرية في
عصر البطالمة، خلفاء الاسكندر، إلى عاصمة الدنيا؛ وإليها أوى المفكرون والمثقفون
من كل مكان في العالم، ولعل أروقة مكتبتها الشهيرة شهدت مناظرات ومحاورات اشترك
فيها أحبار يهود الذين وظفهم الملك بطليموس فيلادلفيوس لترجمة كتبهم المقدسة إلى
اللغة اليونانية، مع الرهبان البوذيين الذين أرسلهم ملك الهند أشوكا لنشر البوذية
في مصر، مع الفلاسفة اليونان الذين جاءوا إلى الإسكندرية طلبًا لرعاية حكامها؛
ولعله في هذا المناخ ولدت الحركة الغنوصية، فإذا كانت الأفلاطونية الوسيطة
والفيثاغورثية الجديدة قد حاولتا رسم
فلسفة جديدة تستوعب قضايا
الغيبيات وتؤسس لأخلاق موضوعية، فإنها في الواقع ظلت امتداد للفلسفة القديمة؛ في
المقابل أقدمت الحركة الغنوصية على أكبر عملية لخلط ودمج الأفكار في التاريخ،
وأثرت في الحركات الفكرية التي عاصرتها والتي جاءت بعدها، ويستمر تأثيرها إلى
اليوم.
ولم يكن أتباع
الغنوصية مدرسة أو مذهبًا أو جسمًا فكريًا مؤتلف، بل كانوا أفراد وجماعات شتى،
ولعلهم اختلفوا فيما بينهم أكثر مما ائتلفوا، وإنما جمع بينهم رابط واحد هو إيمانهم
و قولهم بالغنوص، اللفظ الذي نسبوا إليه. والغنوص كلمة يونانية تعني (المعرفة)، إذ
مثلت المعرفة حجر الزاوية لكل الغنوصيين، فالغنوصي يؤمن بأن المعرفة هي معرفة
الرب، وأن هذه المعرفة الحقة غير ممكنه من خلال الدليل القائم على الإحساس أو
المحاكمة العقلية، إذ أن هذين السبيلين لا يمكن أن يتجاوزا حدود العالم المادي،
ولكن تتحقق المعرفة الحقة عن طريق يقظة روحية داخلية، فالروح البشرية في اعتقادهم
هي جذوة ربانية، ولكنها نست أصلها بسبب حلولها في الأجسام المادية، وعندما تحقق
اليقظة الروحية وتعرف الرب، تتحرر من الجسد ويمكنها أن تتحد مع الرب وهو الأمر
الذي اعتبره الغنوصيون الهدف من الحياة كلها، وقد أنشأ جميع الغنوصيين بناءهم
الفكري على هذه الفكرة، وإن اختلفوا في التفاصيل.
تاريخ موجز للغنوصية
كانت الغنوصية منتشرة
في العالم الهلنيستي خلال القرن الأول قبل الميلاد، ولكن معرفتنا بالحركة الغنوصية
في هذا الوقت تكاد تكون معدومة، ولكن كثير من الآثار التي اكتشفت حديثًا تشير إلى
أن هناك جماعات غنوصية انتشرت في مصر وسوريا والعراق واليونان نفسها، فمن مصر جاءت
النصوص الهرمسية، وهي مجموعة لنصوص تداولها اليونان تلك الفترة، وكان اليونان
يعتقدون أنها منسوبة لتحوت – رب الحكمة والعلوم عن المصريين – والذي ربطوا بينه
وبين معبودهم هرمس، ومن هنا حصلت على اسمها؛ وكانت هذه النصوص تتناول مسائل مختلفة
في التنجيم والخيمياء وغيرها، كما أن قسمًا منها مثل نصوصًا فلسفية تعني بالعلاقة
بين الرب والكون والإنسان، وتصف طريق حياة هرمس التي يمكن أن تؤدي بمن يتبعها إلى
أن يتحرر روحيًا ويتحد مع الإله. أما في سوريا والعراق، فقد انتشرت جماعات غنوصية
مثل اتباع شيث، والذين كانوا يؤمنون بأنهم يتبعون شيث بن آدم عليه السلام.
في القرن الأول
الميلادي ظهرت العديد من الجماعات التي آمنت بالسيد المسيح عليه السلام باعتباره
مرسلًا مهمته أن يحث البشر على يقظة روحية جماعية، وكانت هذه الجماعات تجمع ما بين
الغنوصية وإيمانها بالسيد المسيح، ولذا عرفت تاريخيًا باسم الغنوصية المسيحية،
ويعتبر باسيليدس السكندري المؤسس الفكري للغنوصية المسيحية، لا نعرف الكثير عن
أصله ولا نشأته، ولا نعرف إلا أنه قام بتدريس فلسفته في الإسكندرية ما بين عامي 117
و138م، وقد دمج باسيليدس بين الرواقية والمفاهيم المسيحية، وقد أعقبه تلميذه
فالنتينوس، وهو الذي يعتبر زعيم الغنوصية المسيحية، وبلغت معه الغنوصية أعلى درجات
تأثيرها على الناس، ولد في الإسكندرية نحو عام 100م وتوفي في قبرص عام 160م، وكان
تلميذًا لباسيليدس، ثم رحل إلى روما وراح ينشر تعاليمه هناك حتى كاد أن ينتخب
اسقفًا لروما، وربما لو حدث هذا الأمر لتغير التاريخ برمته، ولكن عقب اختيار أحد
منافسيه أسقفًا لروما، وعندما مات كانت اتباعه وتلامذته ينتشرون في كامل
الإمبراطورية الرومانية، ثم اختلفوا فيما بينهم وانقسموا إلى شرقيين وغربيين أو
ايطاليين، وإلى هؤلاء ينتسب مرقيون السينوبي، الشخصية الثالثة الأكثر تأثير في
الحركة الغنوصية المسيحية، وكان ينسب إلى مسقط رأسه بلده سينوبي في الأناضول على
ساحل البحر الأسود، ولد عام 85م وتوفي 160م، وكان قد أعتنق الأفكار الغنوصية وذهب
إلى روما حيث بشر بأفكاره، ولكنه طرد من روما حيث آب إلى الأناضول حيث ظل ينشر
أفكاره إلى أن توفي. ولم يكن مرقيون فيلسوفًا أو معلمًا، ولكنه كان داعية ديني،
ولم تصلنا آثاره والتي كان تضم مجموعة من الرسائل وانجيل موسوم بإنجيل مرقيون يبدو
أنه كان نسخته المنقحة من أناجيل سابقة عليه.
التصور الغنوصي للعالم
لم يكن هناك ثمة تصور
موحد للعالم في ذهني جميع الجماعات الغنوصية، ولكنها اتفقت على معالم واحدة
لتصورها سوف نحاول اختصارها فيما يلي:
آمن الغنوصيون بأن
ثمة إله هو واحد أو موناد باليونانية، وهو خير محض ومحبة محضة، ووصفوه بأوصاف
مختلفة منها (الساكن) و(من
لا يدرك) و(من يهوي
إليه كل شيء)؛ وقد اعتبرت الغنوصية أن العالم المادي مليء بالشر، وأن كل
شيء مادي مآله أن يفسد ويفنى، وعليه فقد رفض الغنوصية أن يكون إلههم مسئول عن عالم
هذه صفاته، ومن ثم جردوا إلههم من قدرة الخلق، فالإله الحق عند الغنوصي عاجز عن
الخلق، وما هذا العالم
المادي إلا من كيان شرير شبيه بالإله أسموه الإله الجاهل، أو الشيطان
ببساطة؛ فالغنوصية مثنوية يقولوا بإلهين للعالم، إله حق وآخر خالق.
وقد أوقعتهم المثنوية
في مشكلة، فقد كان عليهم أن يجيبوا على سؤال هام، وهو إذا كان هناك إله واحد قديم، فكيف أصبح هناك إله
ثاني خالق؟
وعلى قدر تعقد
المشكلة، كان تعقد الإجابة التي طرحوها؛ فالإله كيان فكري غير قادر على الخلق
المادي، لأن المادة رجس، ولكنه قد انبثقت عنه منذ الأزل مجموعة من الكيانات
الفكرية الأدنى منه مرتبة والتي تسمى الآيونات، وذهب باسيليدس السكندري إلى عدد
هذه الكيانات ثمانية تمثل مفاهيم فكرية مجردة، وأنها قد انبثقت من الإله أزواجًا،
ذكرًا وأنثى، ومن الموناد والثمانية تكون العالم الفكري الخالص الأعلى أو ما اسموه
بلوراما، وراحت هذه الآيونات ينبثق عنها كيانات فكرية أدنى منها، أسميت بالآرخونات
أي الحكام، أذ كانت وظيفة كل آرخون إنشاء طبقة أو سماء تحيط بعالم البلوراما ومن
ثم يحكمها، وقد عد بعض الغنوصية هذه الطبقات بسبع طبقات وعدها بعضهم الآخر
ثلاثمائة وخمسة وستين طبقة؛ كانت صوفيا أو الحكمة آخر الآيونات ظهورًا، فأرادت في
لحظة أن ترتقي إلى مقام الموناد، فانبثق منها بسبب هذه الرغبة آرخون هو الشر
بذاته، وهو الذي قام بخلق العالم المادي والذي مثل الطبقة الأدنى من بين الطبقات
التي تحيط بعالم البلوراما.
ولا شك أن هذه التصورات المعقدة لها جذور فيما
قبل الغنوصية، ففكرة الإله الذي انبثق منه ثمانية آلهة أزواجًا ذكرًا وأنثى، لابد
أن تلفت النظر إلى تاسوع أون المصري؛ أما الآرخونات التي تحكم السماوات فلابد أن
تلفت النظر إلى عبادة الأجرام السماوية لدى الكلدانيين.
العقيدة الأرثوذكسية والهرطقة
حتى مطلع القرن
الرابع الميلادي، لم يكن هناك جسم موحد أو عقيدة موحدة للمسيحية؛ بل كانت هناك
مئات من الشيع والفرق التي آمنت بالسيد المسيح بطرق مختلفة، واعتمدوا بعض الكتب
المقدسة ورفضوا بعضها الآخر، كانت كل فرقة تعتبر نفسها على الحق وتعتبر الفرق
الأخرى على باطل، ولكن لم يكن بوسع أي فرق من الفرق فرض عقائدها على الفرق الأخرى؛
ولم يشذ الغنوصية عن هذا الأمر، فكانوا يعتبرون أنفسهم مسيحيون، وكذلك أعتبرهم
الكثير من الناس، على حين رفضت عقائدهم فرق أخرى كثيرة.
وكمعظم الفرق المسيحية، تبنى
الغنوصية الكتب المقدسة اليهودية، ولكنهم في الوقت نفسه اعتبروا أن يهوا – اسم
الإله في أسفار التوراة – هو الإله الجاهل أو الشيطان، وأن تفضيله للشعب اليهودي
على غيرهم من الشعوب، كان السبب الذي جلب المشاكل على اليهود، وكذلك على الشعوب
الأخرى؛ كما أتهمهم خصومهم بأنهم وبعد أن اعتبروا أن يهوا هو الشيطان، فقد كفروا
بوصايا موسى العشرة، ونادوا بالإباحية، وهو من باب التشنيع على الغنوصية، فهؤلاء
الذين اتهموهم بالفحش، هم أنفسهم من نقلوا عن الغنوصية أن امتنعوا عن زينة الحياة
باعتباره رجس مادي من عمل الشيطان، والتزموا التبتل والزهد.
كانت معالجة الغنوصية
لشخصية السيد المسيح عليه السلام هي الصدع الأكبر بينهم وبين غيرهم من الفرق؛ فقد
اعتبر الغنوصية السيد المسيح عليه السلام، الكلمة أو اللوجوس، أحد الآيونات التي
انبثقت عن الإله الحق منذ الأزل، وأنه تجلى في العالم المادي حتى يحدث يقظة روحية
جماعية للبشر، فلما يعرف البشر الإله الحق، ترتقي أرواحهم إلى عالم البلوراما،
وبذلك ينتهي العالم المادي الشيطاني؛ ولكن المشكلة في هذا التصور أن مفهوم تجلي
السيد المسيح عليه السلام في العالم المادي كان يعني أن السيد المسيح كيان روحيًا
خالصًا غير مادي ولا يخضع للعالم المادي، وبالتالي يهدم أركان الرواية التي تبنتها
كثير من الفرق حول السيد المسيح وعذابه وصلبه وموته وقيامته.
كما أعتقد أكثر
الغنوصية بأن الناس ثلاثة فرق، الروحانيون
وهم هؤلاء المؤهلة أرواحهم للاستجابة لليقظة الروحية، وهم هؤلاء الذين عرفوا الإله
الحق؛ والنفسانيون،
وهم أدنى من الروحانيين، ولكن يمكنهم عن طريق الزهد والتبتل معرفة الإله الحق،
وهؤلاء هم أغلب الناس؛ ثم الفرقة الثالثة، الماديون، وهؤلاء لا يمكنهم معرفة الإله أبدًا ومحكوم
عليهم بالفناء؛ وبذلك فقد اعتبروا أن الخلاص هو استعداد ومسعى شخصي، بينما كانت
كثير من الفرق المسيحية تروج إلى أن الخلاص ممكن فقط من خلال الخضوع للكنيسة التي
تمثل المسيح.
حتى القرن الرابع
الميلادي، كان النزاع بين الغنوصيين وخصومهم صراع فكري، أدواته رسائل النقد
والكتابات والمناظرات؛ ولكن الإمبراطور الروماني، قسطنطين الكبير، وفي ظروف غاية
في التعقيد يضيق عن ذكرها المقام، قرر أن يتبنى أحد التيارات المسيحية، ومن ثم
أصبح هذا التيار، خاصة بعد مجمع نيقية الأول عام 325م، يقدم نفسه بأنه صاحب
العقيدة الصحيحة، العقيدة الأورثوذكسية، وغيره من التيارات المسيحية وأولها
الغنوصية هراطقة. وعلى الرغم أن قسطنطين الكبير قد اتبع سياسة تجاهل فيها التيارات
المخالفة للتيار الذي دعمها، إلا أنه لم يعمد إلى قمع التيارات الموصوفة بالهرطقة
قمعًا ممنهجًا، ولكن تبني الدولة الرومانية لعقيدة محددة أصبحت العقيدة السليمة
وغيرها هرطقة، كان مقدمة لانحصار الغنوصية.
إعادة اكتشاف الغنوصية
مع غروب الغنوصية،
اختفت معظم كتابات أتباعها، ولقرون طويلة ظلت صورة الغنوصية في أذهاننا مبنية على
رواه خصومها من أباء الكنيسة عنها؛ ولكن في عام 1945 اكتشفت في نجع حمادي في صعيد
مصر مجموعة من المخطوطات المحفوظة في وعاء من الفخار، أصبحت فيما بعد تعرف باسم
مكتبة نجع حمادي، وكانت تضم هذه المخطوطات عدد من الكتب الغنوصية المسيحية مثل إنجيل
الحقيقة وإنجيل مريم المجدلية وغيرها، وقد أسهمت هذه الكتب في إعادة رسم صورة
دقيقة عن الغنوصية عامة، والغنوصية المسيحية خاصة.
0 تعليقات