د. وسام الدين محمد
إذا سألت مؤرخ غربي أو
مستغرب عمن اخترع الصاروخ، فإنه سوف يجيبك بأنه الروسي تسيولكوفسكي أو الألماني
أوبرت أو الأمريكي جودارد، لكنه غالبًا لن يخبرك عن شخص عربي مسلم كان له الفضل
الأول في ابتكار الصاروخ والطوربيد والمدفعية منذ نحو ثماني قرون ....
كان اسمه نجم الدين
حسن الرماح .. وأنا من سوف يخبرك عنه.
عرف الصينيون البارود
الأسود في عهد سلالة تانج التي حكمت الصين في القرن التاسع الميلادي، وصنعوه بخلط
ملح النترات والكبريت والفحم النباتي، وحاولوا استخدامه في الحرب بطرق شتى محدودة
التأثير، فكانوا يحشون البارود الأسود في قدور، سميت بالقدور الصينية، توضع رأسيًا
وفتحتها إلى أعلى مغطاة بحجر ثم يفجرون البارود ليقذف بالحجر على العدو، أو ليزعج
صوته الهادر خيول العدو، أما أفضل ابتكاراتهم العسكرية فكان شد رمح إلى غابة
خيزران محشوة بالبارود وتفجير البارود ليطير الرمح إلى مسافة طويلة ويهوي على
العدو، وهو السلاح الذي عرف باسم الرمح الصيني. ولعل قصر استخدام البارود الأسود
حربيًا في الصين، كان مرجعه أنهم لم يعرفوا النسب الأفضل لخلط مكونات البارود
الأسود، ولذلك كان البارود الأسود في بعض الأحيان ينفجر بشدة مؤذيًا من يستخدمه،
وفي أحيان أخرى لا ينفجر بالمرة، لذلك اقتصروا على استخدام الرمح الصيني في
المعارك، واستخدام البارود في الألعاب النارية. وعن الصينيين، نقل المسلمون
البارود الأسود، ولكن استخداماته العسكرية عند المسلمين اقتصرت على الرمح الصيني
الذي وجد طريقه إلى قلب العالم الإسلامي حيث عرف في الشام ومصر.
في القرن الحادي عشر
الميلادي، مر الإعصار الصليبي الأول على الشام، فترك المنطقة وقد نشئت عليها
الإمارات الصليبية، وزادت المجتمعات المسلمة تمزقًا فوق تمزقها، ولكن هذه
المجتمعات سرعان استجابت للتحدي الآتي من وراء البحر، ونهضت لمجالدة العدو لمدة
زادت عن مائتي عام، وفي هذا الحقبة التي تحولت فيها البلاد إلى ميدان كبير للحرب،
راجت فنون الهندسة الحربية، وجندت الدول المهندسين الحربيين المهرة لخدمة الجهاد.
وفي هذه الظروف ولد
بطل قصتنا، نجم الدين حسن الأحدب الرماح، ربما يكون قد ولد في العقد الرابع من
القرن السابع الهجري، وكانت أسرته من عرب طيء استوطنت المنطقة بين حمص وطرابلس حيث
ولد، وقد ورث حسن الرماح مهنة والدة وجده، وكانا مهندسين حربيين عملًا في خدمة آل
زنكي ثم في خدمة آل أيوب، وكانت الأسر التي تحترف الهندسة والتقنية غالبًا ما تدور
مهاراتها ووظائفها داخل العائلة، وهكذا أصبح عرف حسن الرماح باعتباره مهندسًا
حربيًا في خدمة أمراء البيت الأيوبي ثم في خدمة المماليك فيما بعد.
في البداية عرف بطلنا
بمهارته في صنع الرماح، ومنها حصل على لقبه، وقاده تخصصه هذا إلى التعرف على
الرماح الصينية، ودراسة مشاكلها، فكانت أول أعماله أن توصل إلى طريقة إلى تقطير
ملح النترات، المادة الأساسية في البارود الأسود، لزيادة فاعليته، ثم توصل إلى
الخلطة الأكثر استقرارًا لتركيب البارود الأسود، وبذلك أصبح قادرًا على استخدام
البارود الأسود دون خطر انفجاره المفاجئ أو عدم انفجاره بالمرة، فيما بعد أقدم
الحسن الرماح على الابتكار الذي سوف يغير تاريخ هندسة القذائف، عندما خلط تركيبته
للبارود الأسود بالنفط، وبذلك حصل على تركيبه تحترق ببطء وتنتج دفع بمعدل ثابت،
لقد صنع حسن الرماح أول وقود للصواريخ في التاريخ.
نحى حسن الرماح،
الرماح الصينية التقليدية جانبًا، وعمل على تطوير سلاح جديد، أطلق عليه اسم
الطيار، مستخدمًا غابة خيرزانة، قام بحشوها بوقوده، بينما زود مقدمته بوعاء فخاري
محشو بالبارود الأسود والمخلوط بالبندق – مصطلح تقني مملوكي يشير إلى كريات حديدية
صغيرة في حجم ثمرة البندق تقذف باستخدام المقلاع اليدوي – وثبت إلى الخيرزان ما
اسماه شراعًا – وما يمكن أن نطلق عليه أجنحة – من الورق المقوى بالجبس ليحفظ توازن
واتجاه سلاحه أثناء تحليقه.
وبإشعال وقود الطيار،
ينطلق السلاح في الهواء ليقطع مسافة تتراوح ما بين خمسمائة متر وألف متر، قبل أن
يسقط لينفجر الوعاء الفخاري بين جنود العدو قاذفًا البندق في كل اتجاه لتصيبهم.
صنع حسن الرماح أول
صاروخ برأس حربي متفجر في التاريخ.
صنع الرماح أيضًا
المدافع، والتي كان المغول قد جلبوها معهم، ولكن مدافع المغول كانت نفسها القدور
الصينية، ولكن بدلًا من وضع الحجر فوق فتحة القدر، أصبح المغول يضعون الحجر داخل
القدر، ولكنهم ظلوا يضعون القدور وفتحاتها موجهة لأعلى. استبدل الرماح القدور،
بأنبوب مصنوعة من ألواح خشبية مصفحة بالحديد، كما أنها قام بوضع هذا الأنبوب بحيث
تكون مائلة على الأفق بدلًا من أن تكون موجهة إلى أعلى كما في حال القدور الصينية،
وهو ما ساعده على توجيه القذائف على العدو، بينما كانت قذائف القدور الصينية في
كثير من الأحيان تسقط فوق من يستخدمها، وقد أدرك الرماح العلاقة بين زاوية ميل
المدفع على الأفق، والمدى الذي يمكن أن تبلغه قذيفة المدفع، كما عرف تجريبيًا أن
المدى الأقصى للقذيفة يقابل زاوية الميل 45 للمدفع.
من اختراعات حسن
الرماح الانقلابية الطوربيد، والذي استخدم في صنعه ابتكاراته في هندسة القذائف،
فكان تصميمه للطوربيد عابرة عن وعاء نحاسي على شكل بيضة، مثبتة إلى لوحين خشبيين
مدببي المقدمة، ومثبت في مقدمتها رأس حربي مثل الذي استخدمه في صواريخه، كان هذا
الجهاز يوضع في البحر، فيحمله لوحا الخشب، ومن ثم يوقد الوقود في الوعاء النحاسي،
فيتحرك الوعاء النحاسي مدفوعًا بالعادم الناتج عن احتراق الوقود مندفعًا ليصطدم
بالسفن وينفجر الرأس الحربي مسببًا أضرار بجسد السفينة التي يصيبها أو يغرقها. وقد
ساعده المماليك على تنفيذ واختبار اختراعه، حيث نقل إلى أحد قرى الساحل الشامي
ليجري اختباراته على هذا السلاح، ويشير الرماح أنه قد أجرى تجربة ناجحة على طوربيد
مدمرًا سفينة خصصت للاختبار في عرض البحر في حضور نائب السلطان.
استخدام بيبرس
وسلاطين المماليك الذي جاءوا بعده مدافع حسن الرماح في معارك تطهير الشام من فلول
الصليبيين، تلك المعارك التي كان عماده حصار المدن والقلاع، وهو ما يؤكده المؤرخ
باول هامر في كتابه الحرب في باكورة عصور أوروبا الوسطى الصادر عام 2007. كما أن
تلامذته الرماح حملوا ابتكاراته إلى المغرب العربي والأندلس، الذي كان يناضل ضد
عدوان صليبي آخر، حيث استخدمت هذه الأسلحة في العديد من المعارك بين المسلمين والصليبيين.
كان حسن الرماح،
كعادة المهندسين المسلمين، حريصًا على تدوين معارفه بالتفاصيل وإثبات تصميماته لما
يخترعه، حتى يتيح للآخرين الاستفادة من ابتكاراته وإعادة انتاجها. وقد جمع الرماح
علومه في أكثر من كتاب أهمها كتابه المعنون (الفروسية والمناصب الحربية)، والذي
وضع فيه وصف تفصيلي لطريقة تحضير البارود الأسود المستقر، ووقود الصاروخ أو الطيار
كما يسميه، وعدد كبير من تصميمات الأسلحة التقليدية مثل المنجنيق، إلى جانب
مبتكراته من مدافع وصواريخ والطوربيد، كما تعرض الكتاب لطرق بناء الاستحكامات
والتحصينات العسكرية. يوجد اليوم بضع نسخ من الكتاب، محفوظة في مكتبات عالمية،
منها واحدة محفوظة في دار الكتب في مصر. وكان كتاب (الفروسية والمناصب الحربية) المفضل
بين المهندسين المسلمين، ومنهم من لخصه وزاد عليه، ومن هؤلاء مهندس نجهل عنه كل
شيء يسمى شمس الدين محمد، كان مغربيًا أو أندلسيًا قام بتلخيص وشرح القسم الذي
يتعلق بصناعة البارود والصواريخ والمدافع، في كتاب اسماه (الآلات الحربية النارية)،
توجد منه نسخة ناقصة في المكتبة الوطنية في باريس، وقد ترجم في اسبانيا في القرن
الرابع عشر الميلادي، ترجمه من العربية إلى اللاتينية شخص مجهول يمسى ماركو جراكو،
أي ماركو اليوناني، اسمه يشير إلى أحد علماء القسطنطينية الذين رحلوا إلى الغرب
التماسً للرزق، وقد عرفت ترجمته باسم (كتاب النار)، وكان الأوروبيون يتداولون (كتاب
النار) وفي ظنهم أنه من تأليف ماركو جراكو هذا، وقد نسخ الكتاب بداية في اسبانيا،
ثم عرف في إيطاليا ومنه انتقل إلى المانيا وبورجندي وفرنسا. ولكن من الأوروبيين من
أطلعوا على أعمال حسن الرحال في أصلها العربي، مثل الراهب والعالم الألماني
ألبرتوس ماجنوس الذي كان معاصرًا للرماح، وأشار في كتبه إلى أعمال الرماح، أما
روجر بيكون العالم الإنجليزي وهو أيضًا معاصر للرماح، وكان على دراية باللغة
العربية، فقد أشار في كتبه إلى الرماح وإلى تركيبته الخاصة بالبارود الأسود، وقد
تتبع اطلاع الغربيين على أعمال الرماح المؤرخ العسكري بارتنجتون في كتابه المعنون
تاريخ النار الإغريقية وبارود المدافع الصادر عام 1999 عن منشورات جامعة جون
هوبكنز.
لم يعمر حسن الرماح
طويلًا، حيث قتل في سن الأربعين أو الخامسة والأربعين، بعد أن أنفجر معمله أثناء
عمله على تركيبة جديدة للبارود، وكان ذلك في عام 696هـ، فلقي ربه شهيدًا. ولكن السؤال، هل عجز المسلمون عن
تطوير إرث حسن الرماح، بينما طوره الغرب؟ عالم الإسلام عالم واسع، ولذلك لا ينبغي
الحكم عليه حكمًا واحدًا خاصة في تلك العصور، لعل زوال التحدي في الشرق كان سببًا
لعدم تتطور المدفعية والصواريخ، فبعدما أنهى المماليك الوجود الصليبي في الشام
ودحروا المغول، ركنوا للدعة وتفرغوا لصراعاتهم المستمرة الفارغة، والتي كانت لحسن
الحظ صراعات منغلقة عليهم لم تتحول لحروب أهلية كبيرة تستدعي استخدام أسلحة معقدة
وثقيلة، فكانت صراعتهم أقرب إلى مباريات رياضية يخوضوها الفرسان فرًا وكرًا، في
حين كانت حروب العثمانيين جلها حصار للمدن والقلاع، وهو ما ألجئهم لتطوير المدفعية
بالذات والأسلحة النارية عامة، وهو ما دفع أحد المؤرخين لوصف الإمبراطورية
العثمانية بأنها واحدة من إمبراطوريات البارود، وكان الوضع مختلفًا شمال أفريقيا،
حيث ركز المهندسون هناك على المدفعية البحرية وطوروها على نحو واسع لأن الصراع في
تلك المنطقة تحول إلى صراع حربي بحري، ولا يستطيع مؤرخ أن ينكر أن مدفعية أسطول
خير الدين الجزائري كان تتفوق على جميع اساطيل أوروبا مجتمعة.
0 تعليقات