آخر الأخبار

الجمهورية الثالثة!! " معنى الاختيار" (4)

 

 


 

نصر القفاص

 

 

يروى "مراد غالب" وكان سفيرا لمصر فى "الاتحاد السوفيتى" خلال "زمن عبد الناصر" وأصبح وزير دولة للشئون الخارجية فى "زمن السادات" فيقول: "خلال زيارة لقريتى بعد أن تخففت من أعباء المناصب.. دخلت حجرة أحد الفلاحين, فوجدته يضع صورتين لكل من عبد الناصر والسادات.. سألته عن سر ذلك.. أشار إلى صورة السادات قائلا: دة بتاعكم.. أما هذا.. مشيرا إلى صورة عبد الناصر.. ودة بتاعنا"!!

 

تلك هى المسألة ببساطة وعبقرية فلاح من سلالة "الفلاح الفصيح"!!

 

المعنى ذاته قاله بلغة وأسلوب مختلفين "محمد حسنين هيكل" خلال محاكمته فى آرائه وأفكاره المنشورة, أمام المدعى الاشتراكى وهيئة المحكمة.. فقد سألوه: "قلت أنك لا تستطيع أن تميز هوية الوضع القائم – لاحظ أن المحاكمة كانت عام 1978 – وإن كنت تجزم بأن السياسة السائدة فى مصر اليوم لا علاقة لها بالإنتاج؟!"

 

ضمن إجابة "هيكل" أنه قال: "النظم السياسية الحديثة تستند إلى إرادة الجماهير.. والنظم التقليدية تستند على الحق الإلهى.. وكل نظام سياسى حديث لابد أن يختار اجتماعيا.. من يمثل.. ولصالح من يحكم.. وهذا الاختيار هو الذى يعطيه شرعيته"!!

 

كان هذا – ومازال – هو "الاختيار" عند "الجمهورية الأولى"!!

 

يبقى أن "الاختيار" فى "زمن الجمهورية الثانية" له ألوان متعددة ومعان مختلفة ومتباينة!

 

واضح أن "هيكل" وضع خطا بين النظم الحديثة, والنظم المتخلفة التى وصفها بالنظم التقليدية.. وبالتأكيد أصبح واضحا, أين ذهبنا فيما أسموه "دولة العلم والإيمان" التى أرسى قواعدها الرئيس المؤمن!! فالكلام لا ينقطع عن الفقراء ومحدودى الدخل, المطلوب منهم الصبر وموعدهم الجنة.. والفعل دائما لصالح الأثرياء وأهل الحظوة من أشباه المثقفين والنواب والوزراء!!

 

جاء اختيار "عزيز صدقى" كوزير للصناعة وقت أن كان شابا فى منتصف ثلاثينيات عمره.. واستمر حتى أصبح رئيسا للوزراء عندما حكمت "الجمهورية الثانية" لعدة أشهر, وتم إبعاده قبل حرب أكتوبر بشهور.. وترك الرجل قلاع الصناعة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.. دون أن أعيد سرد تفاصيلها, لأنها مازالت معلومة بالضرورة وماثلة فى الأذهان.. وتلك القلاع هى ذاتها ما نطلق عليه "القطاع العام" الذى بدأت عملية تخريبه قبل الشروع فى تصفيته وبيعه, بحملات تشويه ممنهجة وشديدة الشراسة.. فهذا "القطاع العام" كان قاعدة التحدى فى زمن الهزيمة, وهو الذى تحمل العبء داخليا لتحقيق الانتصار.. وحتى وقتنا هذا مازالت عمليات تصفيته وبيعه مستمرة لما يقرب من نصف قرن.. تولى العملية عدة وزراء وصولا إلى الوزير الذى يفاخر بأنه "حفيد الخديوى توفيق" حاليا!!

 

واكب ذلك ادعاء بأن الدولة فاشلة فى الإدارة وأن القطاع الخاص هو القادر على هذا الفعل.. ليمضى نصف قرن ونجد أنفسنا أمام قطاع خاص تسابق رجاله على تقسيم كعكة القطاع العام بينهم.. انتقلت ثروات المجتمع إلى حفنة من أولئك الذين يقولون عنهم "نجوم المجتمع" باعتبارهم يتحققون بارتباطهم بنجمات السينما والتليفزيون.. سرا وعلانية.. تحولوا من مغمورين إلى مليونيرات ثم مليارديرات.. بقدر فعلهم ودورهم فى تشويه "الجمهورية الأولى" وهدم أركانها!!

 

اهتمت "الجمهورية الأولى" بالزراعة وقضايا الفلاح, فكان "قانون الإصلاح الزراعى" الذى قام على تنفيذه أحد رجال عصر الملكية.. وهو المهندس "سيد مرعى" الذى أصبح وزيرا للزراعة ونائبا لرئيس الوزراء فى "زمن عبد الناصر" ثم تولى رئاسة مجلس الشعب فى "زمن السادات" بعد مشاركته فى تصفية "الاتحاد الاشتراكي".. فضلا عن ارتباطه بعلاقة نسب ومصاهرة بالسادات نفسه.. والأمانة تقتضى الإشارة إلى مذكرات "سيد مرعى" التى نشرها فى نهاية السبعينات بعنوان "أوراق سياسية" وتم إخفاؤها بعد التعتيم عليها وقت صدورها!!

 

هنا يفرض السؤال نفسه.. لماذا وكيف؟!

 

سأبدأ الإجابة على "كيف" لأوضح أن كل شهادة أمينة وصادقة أنصفت "الجمهورية الأولى" كان يتم التعتيم عليها ثم محاولة دفنها بإخفائها.. أما "لماذا" فهذا هو المهم.. فتلك المذكرات كشفت ما كان يحدث قبل الثورة من فساد وانحطاط سياسى واجتماعي, لدرجة أنه سرد رؤيته لفساد "الولد الذى حكم مصر" بعينه.. حتى أنه وصفه بأحد رجال "عصابات شيكاغو"!! وفى الجزء الثانى منها – المذكرات منشورة فى ثلاثة أجزاء – قدم تفاصيل تعرفه على "جمال عبد الناصر" وتجربته معه.. وظنى أنه لا يوجد من ينكر أن "سيد مرعى" كان من أفضل وزراء الزراعة فى العصر الحديث, وأنه حقق إنتاجا غير مسبوق فى المحاصيل الإستراتيجية – قطن وقمح وأرز – وتمثل شهادته إنصافا.. بل تحوى الرد على كل أكاذيب تفتيت الرقعة الزراعية, التى يرددها ببغاوات "الجمهورية الثانية" وهو يرى أن الإصلاح الزراعي كان أعظم إنجازات "الجمهورية الأولى" بدلائل وبراهين تخرس المتطاولين من "أطفال أنابيب" زمن السادات وما بعده!!

 

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر.. فيجب أن نتوقف أمام "السد العالى" وكان "المشروع القومى" الذى بنته "الجمهورية الأولى" وتم إطلاق هذا الوصف عليه لأسباب.. فالذهاب إلى بناء وتشييد هذا المشروع العملاق, استلزم "تأميم قناة السويس" وأن تتعرض مصر للعدوان الثلاثي.. وترتب على ذلك اتفاقية عام 1956 لتوزيع حصص مياه نهر النيل.. وبموجب هذه الاتفاقية زادت حصة مصر من مياه النيل من 48 مليار متر مكعب إلى 55,5 مليار متر مكعب.. بل أن حصة السودان نفسها زادت من 8 مليار متر مكعب إلى 15 مليار متر مكعب.. ووقعت "أثيوبيا" على الاتفاقية طائعة مختارة مع "عبد الناصر" الذى ذكر كافة التفاصيل.. كبيرها وصغيرها.. خطيرها وبسيطها.. يوم إعلان "تأميم قناة السويس" وهو خطاب باق لكل من أراد أن يفهم.. حتى أصل حكاية سد النهضة الذى أصبح جرحا غائرا فى العقل والوجدان المصرى!

 

تعرض "السد العالى" لحملات تشويه لسنوات.. لكن الألسنة خرست عندما عرف الجميع دون أدنى مجال للشك, ماذا قدم ويقدم للشعب حتى هذه اللحظة.. وكان ضمن سفاهة وانحطاط الذين كانوا يهاجمون المشروع قولهم: "السد العالى حرمنا من السردين النيلى"!! وتلك كانت عقلية كل من شاركوا فى تشويه "الجمهورية الأولى" ومحاولات هدمها.. وهؤلاء من "خدم الملكية والاستعمار" رددوا أن قرار "تأميم القناة" كان جريمة فى حق مصر, وكلهم يعلمون أن دخلها أصبح من تاريخ التأميم حتى يومنا هذا من أهم مصادر الدخل القومى لمصر.. وحتما كان لابد أن يكون الثمن حربا جائرة ضد مصر, شاركت فيها إنجلترا وفرنسا وإسرائيل.. وهى الحرب التى انتهت بزوال إمبراطوريتي إنجلترا وفرنسا بعد أن عاثتا فسادا فى الأرض لعشرات السنوات, نهبتا خلالها ثروات عشرات الدول.. وفى تلك الحرب احتلت إسرائيل سيناء كاملة.. وتركتها بعدها بشهور دون أى شروط.. اللهم إلا تواجد قوات حفظ السلام!!

 

ثم خدعوك فقالوا.. إنهزم "عبد الناصر" فى "حرب السويس"!!

 

ذهبت "الجمهورية الثانية" إلى "السلام" الذى مضى على توقيع "صكوكه" ما يقرب من نصف قرن.. والفارق واضح بين ما كان عليه الشعب المصرى قبل السلام, وما صار إليه حال الشعب بأغلبيته الساحقة فى "زمن السلام" لأن الصورة أصبحت فى وضوح الشمس خلال أغسطس!!

 

إعتقادى الراسخ أن هذه الملفات يجب فتحها, ومناقشتها بهدوء..

 

بعيدا عن "الأراجوزات" الذين يتم تحريكهم عبر "أصابع المال" أو "أجهزة أمنية" تفتقد للمعرفة والرؤية.. وهذا لا يقلل من شأنها أو قيمتها – دون أدنى خوف – لأنهم منوط بهم تنفيذ سياسات, وتلك وظيفتهم التى نحترمها وإن اختلفنا فى تفاصيلها.. وقد يأتى يوم حين نصل إلى إرساء قواعد "الجمهورية الثالثة" تتضح فيه حدود وملامح وطبيعة دور هذه الأجهزة لتكون فى خدمة وطنى.. لا أن تكون آداة باطشة فى يد حاكم.. وإن اعتقد البعض أن هذا أملا بعيد المنال, أستطيع القطع بأن ذلك سيحدث فى أقرب الآجال.. ربما لدرايتى بأن هذه الأجهزة دفعت أثمانا فادحة, عن أفعال لا علاقة لها بها.. وتحملت مسئوليتها مرغمة!!

 

مازال كتاب "وقائع تحقيق سياسى" الذى تركه لنا "هيكل" مفتوحا أمامى.

 

هو كان يعلم أنه ترك "وثيقة" شديدة الأهمية والخطورة.. لأنه ذكر أن: "الكلمة المكتوبة على الورق باقية.. والكلمة المسموعة عبر الإذاعة أو التليفزيون عابرة.. والكلمة المكهربة على الكومبيوتر فوارة.. مثل كل فوران متلاشية"!!.. ولعله لم يعش ليقول كلمته ورأيه فى "وسائل التواصل الاجتماعي" التى تلهث خلفها صحف فارغة.. وتقتات على فتاتها إذاعات وفضائيات "عبيطة".. ويخشاها ساسة كل علاقتهم بالسياسة, أنهم يخشون من ضبطهم بممارسة السياسة!!

اكتشفت أن "أنور السادات" كان يجيد القفز فى الهواء.. وأنه وضع أسس ومنهج السياسى "راكب الدراجة" الذى لو توقف عن أن يبدل بقدميه.. وقع على الأرض!! ولعل البعض يرى فى زمنه إنجازات, وهؤلاء لا أختلف معهم.. لكنى أناقش منهج حكم.. فأى مسئول فى موقع مسئولية, لا يمكن أن تخلو فترة مسئوليته من إنجازات.. حتى لو كان فاسدا.. وهنا أضرب مثلا للتوضيح فى مجال عملى.. لا ينكر احد أن "صفوت الشريف" أنجز مدينة الإنتاج الإعلامى, وتوسع فى إنشاء القنوات المحلية.. وهو الذى ترك لنا قنوات فضائية عديدة.. وكان صاحب شعارى: "السماوات المفتوحة" و"الريادة الإعلامية".. إلى آخر ما يمكن أن نذكره من إنجازات.. لكن السؤال.. أين كل هذا مما قدمه "محمد عبد القادر حاتم" الذى أنجز إذاعات كانت تؤثر فى الإقليم, وتصيب أعداءنا بالصداع.. وهو الذى أدخل مصر إلى عصر التليفزيون, وأسس وكالة أنباء الشرق الأوسط.. كما أنه فشل حين جمع بين الإعلام والثقافة فى "زمن عبد الناصر".. بما فرض على رئيس وزعيم "الجمهورية الأولى" العودة إلى الصواب, وإعادة "ثروت عكاشة" وزيرا للثقافة.. بل جعله نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للثقافة حتى رحيله.. واحتفظ بالوزير "عبد القادر حاتم" كمسئول عن الإعلام, ليتحمل المسئولية خلال فترة حرب أكتوبر كنائب لرئيس الوزراء وقائم بعمل رئيس الوزراء.. لأن رئيس البلاد – أنور السادات – جمع بين رئاسة البلاد والوزراء وقتها!!

 

الإشارة تفرضها الرؤية إلى أن الإنجاز لا يؤسس لشرعية!

 

أعتبر ما أكتبه رأيا حول ما يثار تحت عنوان "الحوار الوطنى".. وقولى قاطع بأننى لست – ولن أكون – جزءا من هذا الحوار.. لكن قناعتى بأن "الواجب الوطنى" يفرض على قلمى أن يكتب كلمتى.. خاصة أننى أستمتع بإبعادى عن الكتابة فى صحف فارغة.. أو التواجد على شاشات "عبيطة"!!.. فقد حسمت أمرى بأن أقرأ.. وأن أطل على من أراد أن يقرأ عبر صفحتى فى وسيلة تيسرت بفضل العلم والتطور وحدهما!!

 

الجمهورية الثالثة!! منهج التخريب ورموزه (3)

يقول التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع كلمتهم فى ماضى مصر.. والثلاثة يشرحون ويقدمون تشخيصا أقرب للصواب حول الحاضر.. ويحملون تصورات لشكل المستقبل.. لذلك رحت إلى الغوص فيهم.. أحاول أن أتعلم منهم.. أستمتع بهم.. ثم أجتهد وإن رأيت ما أعتقده يستحق طرحه على الذين يقرأون ويفهمون.. وغير هؤلاء أدعو لهم بأن يهتدوا إلى نعمة فعل "إقرأ" الذى كان أول فعل فى القرآن الكريم.. ومازال حديث "الجمهورية الثالثة" مفتوحا, لأنه يستحق!!

 

يتبع

 

إرسال تعليق

1 تعليقات


  1. ولازال اجدع واصدق و انبل رجالك يا مصر من عرفوا و تعلموا واحترموا مشروع ناصر قابضين ع جمر وطن اهين واستباح وخربت عقول رجاله ونساءه وشبابه بعملاء الكامب وانفتاح السداح مداح

    ردحذف