حتمية التقريب (5)
محمود جابر
-2-
التقريب لا ينافس احد على نفوذ ديني أو دنيوي، إذ من جوهر التقريب أن لا
يكون له سلطانا ذاتيا، لان كل سلطان يخلق ومعه مشاكله التى تشغله، والتقريب لا
يسمح معناه أن يختصم المسلمون عليه، ولا أن ينشغل بنفسه باعتباره جماعة أو سلطة أو
سلطانا، اللهم إلا وحدة الأمة .
وليس للتقريب ربقة فى عنق احد ، ولا له عند احد بيعة، ولا ينثلم به ولاء
مسلم لمذهبه أو طائفته أو بلاده أو حكومته، ولأنه ليس مذهبا أو حزبا أو جماعة أو فرقة أو طائفة، فلا بيعة جديدة ولا ولاء
جديد لأهل التقريب، إلا لأمر الله ( وان هذه أمتكم امة واحدة)، وهذا الأمر يشمل كل
أهل الإسلام قاطبة.
والتقريب ليس ثورة تجمع المعارضين، والساخطين والناقمين، لأنه ابتداء هي
استجابة للأمر الإلهي، وهى دعوة للتقارب والتحابب والإخوة، لذا لا يجد الساخط
الناقم الثائر المتعجل مكانا فى هذه الدعوة .
وقد يسأل سائل : لكن إذا لم تجد هذه الدعوة نوازع الرغبة فى الغلبة والتفوق
بدافع من المصلحة الذاتية والحرص على التقريب، إذا لم تجد هذه القوة الغريزية
المحركة مكانا لها لدفع هذا الهدف للإمام، فكيف يرجو أهل هذه الدعوة أن تسير
سفينتهم إلى غايتها المرجوة؟
هذا السؤال يتجه إلى أساليب التقريب ومناهجه، وهو يثير ابتداء مشكلة المنهج
الذى يتبع فى الدعوة الدينية فى العصر الحديث بصفة عامة، فان هذه الدعوة من حيث هى
محاولة للتأثير على نحو معين فى السلوك الديني للإنسان تشبه من بعض الوجوه غيرها
من المحاولات التي يمكن أن تبذل للتأثير فى السلوك السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي
للناس، والدعوات السياسية والاقتصادية هى والدعوات الاجتماعية المادية تعمل على أسس
إحصائية باعتبار الإنسان وحدة متكررة فى مجموعة تتكرر منها مجموعات أوسع وهكذا،
ومن هنا يدور مناهجها وأساليبها على الاستفادة إلى أقصى حد من المعارف والمعطيات
التى يقدمها علم النفس. وعلم الاجتماع. وعلم الإحصاء، وما يتصل بهذه العلوم من أبواب
علم أخرى، وكذلك الانتفاع من المخترعات والفنون والقدرات الحديثة فى تنشيط جانب
النوازع والتأثير الغريزي فى النفس البشرية وتحريكها، من اجل إحداث غلبة تحرك
وتؤثر فى النفس الإنسانية محدثة تأثيرها على العقل والقوة الضابطة فى الإنسان،
دفعا لا يقبل النقد العقلاني ولكنه يتأثر بالمشاعر النفسية للتأثير على الإنسان
ومن ثمة على الجماهير، وهذه المناهج قد حققت ما هو مطلوب منها فى تحريك الجماهير
والسيطرة عليهم نفسيا وسلوكيا.
ولعل اخطر ما ينطوي عليه هذا الاتجاه منافسة الدين للسياسة، وتملق الجماهير
واسترضائهم، ومن هنا غرق الدين الذى قدم بهذا الشكل، وكثر أعدائه، لأنه حول الدين من دور المرشد إلى دور المسيطر والمتحكم، وهذا
الوضع بالإضافة لأنه مخالف لمنهج الدين، ولكنه أيضا جعل الدين يقف فى موقف المتهم
بالشمولية والديماجوجية .
واحسب أن الناس فى هذا الزمان تعاملت مع من يحركها فى هذا الاتجاه ووفق هذا
المنهج تعاملا مليئا بنعوت القداسة، فى الوقت الذي يلعب بهم وبأفئدتهم وأهوائهم
وشهواتهم وغرائزهم، لان الغرائز تشعر الإنسان بالضعف والخواء والبحث عن اله صنم
متجسد تصبح الحياة بدونه عبثا والموت تحت قدميه شهادة .
احسب أن الدين لا يجب أن يكون كذلك، ولا يجب أن يكون منافسا لتلك الدعوات
ولا تلك المناهج، الذى يفقد الناس فيه إنسانيتهم وعبوديتهم لله، لان الدين ليس
علاقة بشرية بين الإنسان وأمثاله، وإنما هو رباط فذ يتجاوز الإنسان فيه إنسانيته
ومحدوديته الى نقطة ثابتة باقية لا تتبدل ولا تتغير ولا يطرأ عليها العدم هى نقطة
كلية .
إن المزج فى الدعوة لدى كثير من المسلمين بين فكرة الدولة الإسلامية وفكرة الإسلام
ذاته، واعتقاد التلازم بينهما، رغم أن الإسلام باق وثابت ولا يتغير، والدولة الإسلامية
شكل ومحتوى وبناء يمكن ان تقوم على دعائهم وأسس متغيرة وفقا للزمان والثقافة ومكتسبات
العلم .
فالدولة بمعناها الحديث مفهوم سياسي
وقانوني يحدد مقوماته القانون الدولي بالنسبة لجميع الدول، ولا يدخل الدين فى هذا المفهوم
كما لا يدخل فى مفهوم الجنسية باعتبارها رابطة الولاء الذى يربط الفرد بالوطن،
وبذلك غلب على طابع كل الدول الإسلامية الطابع المدني، ولا تعارض بين إسلام المسلم
والولاء للدولة المدنية ، لا يعتبر الولاء لها قدحا فى إسلامه.
وإعادة الدولة الإسلامية هذه ووفقا لهذا المنظور هدفا سياسيا بلا ريب،
يتطلب تغير حاكما بحاكم ، وأوضاعا بأوضاع أخرى، وقيم بقيم جديدة، وليس من العجب أن
نرى عند أصحاب هذا الدعوات عجبا كثير.
لان المشكلة لدى المسلمين ليست مشكلة إمبراطورية تفككت، فكل إمبراطورية
حتما مصيرها التفكيك عاجلا أم اجل، ولكن مشكلتنا مشكلة قيم نسينها وقل اهتمامنا
برعايتها وتنميتها، ومن يظن أن الإسلام مجرد فكرة أو مجموعة أفكار فهو واهم، فالإسلام
قيم تظهر فى سلوك المسلم حينما يتعامل مع غيره سواء كان مسلما أو غير مسلم .
ومن هنا يظهر حجم تهاون المسلمين بالقيم على حساب فكرة الانتشار والسيطرة
والبحث عن الحكم والدولة، وهذا بدوره جعل الجميع يعيب على الإسلام الذى يفتقد
معتنقيه للقيم ، ولم يعد لدى المسلمين نموذجا حيا معاشا يمكن ان نقدمه للناس بأنه
نموذجا من صنع الإسلام أو من تأثير قيم وسلوكيات ومعاملات الدين الاسلامى .
وهذا ينقلنا للعودة لموضوع التقريب منهجا، من اجل القدرة على إنتاج نموذجا إسلاميا
طيبا، حتى يبدو الإسلام مقبولا لنا بشكل يومى وحياتى ولدى الآخرين من غير
المسلمين.
فهذا هو المنهج فى هذه المسألة؛ إن جمال الإسلام بيداء وينتهي من داخل الإسلام،
حتى يكون الإسلام جاذبا لمن ينظر إليه من خارج دائرة الدين . إن اتحاد المسلمين وتآزرهم
وتعلقهم بالأخلاق فى المعايشة والمعاملة هى شهادة على متانة الدين وتعلق أهله به كأخوة
متحابين .
0 تعليقات